(الصفحة 156)
الأصل الجاري في المسبّب، إلاّ أنّـه حيث لا يجري الأصل في السبب، لأنّـه يسقط بالمعارضـة مع الأصل الجاري في الطرف الآخر، فلا مانع من جريان الأصل في المسبّب، فيكون الملاقي ـ بالكسر ـ محكوماً شرعاً بالطهارة والحلّيـة، هذا.
ولا يخفى أنّـه لم يرد آيـة ولا روايـة على ما ذكروه من أنّ مع جريان الأصل في السبب لا مجال لجريانـه في المسبّب، بل المستند في ذلك هو أنّـه مع جريان الأصل في السبب يرتفع الشكّ في ناحيـة المسبّب تعبّداً، ومع ارتفاعـه في عالم التشريع لا مجال لجريان الأصل فيـه أيضاً.
ولكـن لا يخفـى أنّ هـذا لا يتـمّ بإطـلاقـه، بـل إنّما يصـحّ فيمـا إذا كـان الشكّ في ناحيـة المسبّب في الأثر الشرعي المترتّب على السبب شرعـاً، كالشكّ في نجاسـة الثوب المغسول بالماء المشكوك الكرّيـة، فإنّ مقتضى استصحاب الكرّيـة تحقّق موضوع الدليل الشرعي الـذي يـدلّ على أنّ الكـرّ مطهّر مثلا.
والسرّ في ذلك: أنّ معنى الاستصحاب الجاري في الموضوعات هو الحكم بإبقاء الموضوع تعبّداً في زمان الشكّ، وحيث إنّـه لا معنى لذلك فيما لو لم يكن الموضوع مترتّباً عليـه أثر شرعي فلابدّ من أن يكون الموضوع المستصحب موضوعاً لأثر شرعي، ومن هنا يكون الاستصحاب الجاري في الموضوعات حاكماً على الأدلّـة الواقعيّـة، لأنّـه ينقّح بـه موضوعاتها، وتفصيل الكلام يأتي في مبحث الاستصحاب إن شاء اللّه تعالى.
إذا عرفت ذلك: فاعلم أنّ نجاسـة الملاقي وإن كانت من الآثار الشرعيّـة لنجاسـة الملاقى، إلاّ أنّ طهارة الملاقي لم تجعل في شيء من الأدلّـة الشرعيّـة
(الصفحة 157)
من آثار طهارة الملاقى، وإنّما هو حكم عقلي، كما هو واضح، فما أفادوه من أنّ الشكّ في طهارة الملاقي مسبّب عن الشكّ في طهارة الملاقى، ومع جريان الأصل فيها لا يبقى مجال لجريانـه في المسبّب، ممنوع جدّاً.
شبهة المحقّق الحائري في المقام وجوابها
ثمّ إنّ هنا شبهـة لبعض المحقّقين من المعاصرين، وهي أنّـه لا إشكال في أنّ الحلّيـة مترتّبـة على الطهارة، بمعنى أنّ الشكّ في الاُولى مسبّب عن الشكّ في الثانيـة، كما أنّ الشكّ في طهارة الملاقي مسبّب عن الشكّ في طهارة الملاقى، فالشكّ في طهارة الملاقي يكون في مرتبـة الشكّ في حلّيـة الملاقى، بمعنى أنّ كليهما مسبّبان عن الشكّ في طهارتـه.
وحينئذ نقول: هنا ستـة اُصول في الأطراف الثلاثـة، ثلاثـة منها أصالـة الطهارة وثلاثـة أصالـة الحلّيـة، والاثنان منها وهي أصالـة الطهارة في الملاقى وأصالـة الطهارة في الطرف يسقطان أوّلا، لأنّهما في رتبـة واحدة، وثلاث منها وهي أصالـة الحلّيـة فيهما وأصالـة الطهارة في الملاقي في رتبـة ثانيـة، فمع سقوط أصالتي الحلّيـة، كما هو المفروض يسقط أصالـة طهارة الملاقي أيضاً، ولم يبق في البين إلاّ أصالـة الحلّيـة في الملاقي، وهي واقعـة في رتبـة ثالثـة، ولا وجـه لسقوطها، لسلامتها عن المعارض، والمفروض أنّـه لا يكون أصل حاكم عليها، لأنّ الأصل الحاكم غير جار، لأجل المعارضـة.
وحينئذ فلا يجب الاجتناب عن الملاقي بالنسبـة إلى الأكل ونظائره، ولا يكون محكوماً بالطهارة شرعاً، فلا يجوز التوضّي بـه، هذا.
(الصفحة 158)
ويمكن الجواب
عن الشبهـة مضافاً إلى ما عرفت سابقاً(1) بأنّ أصالـة الحلّيـة في مطلق الشبهات ممّا لم يدلّ عليها دليل، لأنّ ما يتوهّم أن يكون مستنداً لها هي روايـة مسعدة بن صدقـة المتقدّمـة(2) وقد عرفت الإشكال فيها بحيث لايجوز الاعتماد عليها، وأمّا مثل قولـه (عليه السلام):
«كلّ شيء فيـه حلال وحرام...» إلى آخره، كما في صحيحـة عبداللّه بن سنان(3) فقد ظهر لك أنّ ذلك يختصّ بالشبهات المقرونـة بالعلم الإجمالي، ومقتضى عمومها وإن كان الشمول للشبهـة المحصورة أيضاً، إلاّ أنّ الدليل العقلي أو العقلائي قد خصّصـه، فانحصر مورده بالشبهـة الغير المحصورة.
وأمّا التمسّك في نفي الحرمـة المجهولـة بأدلّـة البراءة فهو وإن كان صحيحاً، إلاّ أنّك عرفت عدم شمول أدلّـة البراءة لأطراف العلم الإجمالي. وبالجملـة: فليس هنا ما يحكم بالحلّيـة وعدم الحرمـة أصلا.
وكيف كان: فلو سلّم ذلك فيمكن الجـواب بما عرفت مـن أنّ الأصل الجاري في السبب إنّما يكون حاكماً على الأصل الجاري في المسبّب إذا كان المسبّب من الآثار الشرعيّـة المترتّبـة على السبب، والمقام لا يكون كذلك، فإنّ حلّيـة كلّ واحد من الأطراف لا تكون من الآثار الشرعيّـة لطهارتـه; لأنّـه لم يدلّ دليل على أنّ كلّ طاهر حلال، بل الحلّيـة الواقعيـة إنّما تكون موضوعها الأشياء التي هي حلال بعناوينها الواقعيّـة، كما هـو واضح.
- 1 ـ تقدّم في الصفحـة 91.
- 2 ـ تقدّمت في الصفحة 89.
- 3 ـ تقدّمت في الصفحـة 88.
(الصفحة 159)
كما أنّك عرفت أنّ طهارة الملاقي أيضاً لا تكون من الآثار الشرعيّـة المترتّبـة على طهارة الملاقى.
وحينئذ: فلابـدّ من ملاحظـة طرفي العلم الإجمالي الحادث أوّلا المؤثّر فـي التنجيز، والحكم بعدم جريان الاُصول في طرفيـه; للزوم المخالفـة العمليّـة.
وأمّا مـا هـو خارج عنهما فلا مانـع مـن جريان أصالتي الطهارة والحلّيـة فيـه أصلا. وحينئذ فيصير مقتضى الأصل الشرعي موافقاً مع حكم العقل الحاكم بالتفصيل بين الصور الثلاثـة المتقدّمـة في كـلام المحقّق الخـراساني (قدس سره)
(1)فتأمّل جيّداً.
هذا كلّـه بناءً على ما هو مقتضى التحقيق.
وأمّا بناءً على مسلك القوم
من اعتبار أصالـة الحلّيـة في مطلق الشبهات وترتّب الحلّيـة على الطهارة، وكذا ترتّب طهارة الملاقي ـ بالكسر ـ على طهارة الملاقى ـ بالفتح ـ وكون الشكّ في الأوّل مسبّباً عن الشكّ في الثاني بحيث لم يكن مجال لجريان الأصل فيـه بعد جريانـه في السبب، فلابدّ من التفصيل بين الصور الثلاثـة من حيث ورود الشبهـة وعدمـه.
فنقول في توضيح ذلك: إنّ عدم جريان الاُصول في أطراف العلم الإجمالي إنّما هو فيما إذا لزم من جريانها مخالفـة عمليّـة للتكليف المنجّز، وأمّا إذا لم يلزم من ذلك مخالفـة عمليّـة أصلا أو لزم ولكن لم يكن مخالفـة عمليّـة للتكليف المنجّز فلا مانع من جريان الاُصول; لأنّ التعارض بينهما تعارض عرضي حاصل
- 1 ـ تقدّم في الصفحـة 150 ـ 151.
(الصفحة 160)
بسبب العلم الإجمالي بكذب أحدها، لا ذاتي ناش عن عدم إمكان اجتماع مؤدّاها، ضرورة عدم المنافاة حقيقـة بين حلّيـة هذا الإناء وحلّيـة ذاك الإناء ولو علم إجمالا بحرمـة واحد منهما، كما لايخفى.
وحينئذ: فلو علم إجمالا بنجاسـة هذا الإناء أو ذاك الإناء، ثمّ علم إجمالا بنجاسـة الإناء الثاني أو إناء ثالث فقد عرفت أنّ العلم الإجمالي الحادث ثانياً لا يعقل أن يكون منجّزاً بعد اشتراكـه مع العلم الإجمالي الأوّل في بعض الأطراف، وحينئذ فلا مانع من جريان أصالـة الطهارة في طرفي العلم الثاني; لأنّـه وإن يلزم من جريانها مخالفـة عمليّـة للمعلوم الإجمالي، إلاّ أنّ المحذور في المخالفـة العمليّـة للتكليف المنجّز، لا في مطلق المخالفـة العمليّـة، والمفروض أنّ العلم الثاني لم يؤثّر في التنجيز أصلا.
إذا عرفت ذلك فاعلم: أنّ في الصورة الاُولى من الصور الثلاثـة المفروضـة في كلام المحقّق الخراساني (قدس سره)
(1) لابدّ من الالتزام بجريان أصالتي الطهارة والحلّيـة معاً في الملاقي ـ بالكسر ـ لأنّ طهارتـه وإن كانت مترتّبـة على طهارة الملاقى ـ بالفتح ـ وواقعـة في عرض أصالتي الحلّيـة الجاريتين في الملاقى والطرف، إلاّ أنّ الملاقي خارج من طرفي العلم الإجمالي الأوّل، والعلم الإجمالي الثاني لا يكون مؤثّراً في التنجيز حتّى يلزم من جريان الأصل فيـه أيضاً مخالفـة عمليّـة للتكليف المنجّز، كما هو واضح.
وأمّا الصورة الثالثـة فالظاهر ورود الشبهـة فيها بناءً على مبنى القوم، كما هو المفروض; لما ذكروه في وجهـه ممّا تقدّم.
- 1 ـ كفايـة الاُصول: 411 ـ 412.