(الصفحة 174)
إنّما هو من قبيل التردّد بينهما بعد ملاحظـة المكلّف المقدار المشكوك مع المقدار المعلوم وضمّـه إليـه، وإلاّ ففي الحقيقـة لا يكون من هذا القبيل، فإنّ الأمر لم يتوجّـه إلاّ إلى قضاء كلّ صلاة، والغرض يترتّب عليـه، سواء أتى بقضاء صلاة فائتـة اُخرى أم لم يأت، فكما أنّ أداء صلاة الظهر لا يكون أقلّ بالنسبـة إلى مجموع أداء الظهرين فكذلك قضائهما.
وبالجملـة: فالاستقلالي من الأقلّ والأكثر خارج عن هذا العنوان حقيقـة، وإنّما يحصل بعد ملاحظتهما وضمّ كلّ واحد إلى الآخر. ومن هذا البيان تظهر لك أنّـه ليس فيـه علم إجمالي أصلا حتّى يقال بانحلالـه إلى علم تفصيلي وشكّ بدوي، بل الأقلّ من أوّل الأمر معلوم تفصيلا والأكثر مشكوك، فتجري فيـه البراءة بلاريب.
ثمّ لا يخفى أنّ مورد النزاع هو ما إذا كان الأقلّ مأخوذاً لا بشرط من جهـة الزيادة، وأمّا لو كان مأخوذاً بشرط لا ودار الأمر بينـه وبين الأكثر، كما إذا تردّد السورة بين أن تكون جزءً أو مانعاً، فهو خارج عن محلّ البحث وداخل في المقام الأوّل، للمباينـة المتحقّقـة بين الأقلّ بشرط لا والأكثر الذي هو عبارة عن الأقلّ بشرط شيء، ضرورة ثبوت المضادّة بين البشرط شيء والبشرط لا، كما لايخفى.
الثاني:
يدخل في مورد النزاع جميع أقسام الأقلّ والأكثر، سواء كان في نفس المأمور بـه أو في الموضوع الخارجي الذي تعلّق التكليف بفعلـه أو تركـه، أو في الأسباب مطلقاً، وسواء كان من قبيل الجزء والكلّ، أو من قبيل الشرط والمشروط، أو من قبيل الجنس والنوع، أو الطبيعـة والحصّـة، وسواء كانت الشبهـة وجوبيّـة، أو تحريميـة وسواء كانت حكميّـة أو موضوعيّـة.
(الصفحة 175)
وأمّا ما أفاده المحقّق العراقي ـ على ما في التقريرات المنسوبـة إليـه ـ من خروج الطبيعي والحصّـة عن مركز هذا النزاع، لأنّ الطبيعي باعتبار قابليّتـه للانطباق على حصّـة اُخرى منـه المباينـة مع الحصّـة المتحقّقـة في ضمن زيد لاتكون محفوظاً بمعناه الإطلاقي في ضمن الأكثر، فيدخل في التعيـين والتخيـير الراجع إلى المتباينين(1).
ففيـه: أنّـه لا فرق بين الطبيعي والحصّـة وبين الجنس والنوع، فإنّ الملاك في الجميع هو كون الأقلّ القدر المشترك مأخوذاً في التكليف على أيّ تقدير، وهذا الملاك موجود في الطبيعي والحصّـة.
نعم، المثال الذي ذكره ـ وهو الإنسان وزيد ـ خارج عن موضوع البحث، كما أنّ أخذ النوع لو كان بعنوان واحد يكون أيضاً خارجاً. نعم لو كان بنحو أخذ الجنس أيضاً يكون داخلا، كما أنّ الطبيعي والحصّـة أيضاً كذلك.
وبالجملـة: لو كانت الحصّـة وكذا النوع مأخوذاً بعنوان واحد لا يكون الطبيعي أو الجنس في ضمنـه، لما كان وجـه لجريان البراءة أصلا، ولو لم يكن على هذا النحو يكون داخلا في مورد النزاع، فتدبّر.
ثمّ أنّا نتكلّم من تلك الأقسام الكثيرة المتقدّمـة في مهمّاتها، وهي الأقلّ والأكثر الذي كان من قبيل الكلّ والجزء، وما كان من قبيل الشرط والمشروط، وما كان في الأسباب والمحصّلات والأقلّ والأكثر في الشبهـة الموضوعيـة، فهنا مطالب:
- 1 ـ نهايـة الأفكار 3: 373.
(الصفحة 176)
المطلب الأوّل
في الأقلّ والأكثر الذي كان من قبيل الكلّ والجزء
وهو معركـة للآراء; فمن قائل بجريان البراءة فيـه مطلقاً، ومن قائل بعدم جريانـه مطلقاً، ومـن قائل بالتفصيل بين البراءة الشرعيّـة والعقليّـة بجريان الاُولى دون الثانيـة، كمـا اختاره المحـقّق الخـراساني(1) وتبعـه بعض مـن أجـلاّء تلامذتـه(2). مقتضى التحقيق هو الوجـه الأوّل.
في جريان البراءة العقلية
وتنقيحـه يتمّ برسم اُمور:
الأوّل:
أنّ المركّبات الاعتباريّـة في عالم الاعتبار واللحاظ يكون كالمركّبات الخارجيّـة الحقيقيّـة في الخارج، فكما أنّ التركيب الحقيقي إنّما يحصل بالكسر والانكسار الحاصل بين الأجزاء بحيث صار موجباً لانخلاع صورة كلّ واحد منها وحصول صورة اُخرى للمجموع، كذلك المركّب الاعتباري في عالم الاعتبار لا يكون ملحوظاً إلاّ شيئاً واحداً وأمراً فارداً يكون لـه صورة واحدة اعتباراً، فكأنّـه لا يكون لـه إلاّ وجود واحد هو وجود المجموع، والأجزاء لا يكون لها وجود مستقل، بل هي فانيـة في المركّب.
- 1 ـ كفايـة الاُصول: 413 ـ 416.
- 2 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4: 162.
(الصفحة 177)
الثاني:
أنّ المأمور الذي اُمر بإيجاد مركّب اعتباري إذا قصد امتثال الأمر والإتيان بالمأمور بـه، يتعلّق إرادتـه أوّلا بنفس المركّب الذي هو أمر واحد، وربّما لا يكون الأجزاء حينئذ ملحوظـة لـه ومتوجّهاً إليها أصلا، ثمّ بعدما يتوجّـه إلى تلك الأجزاء التي يتحصّل المركّب منها يتعلّق إرادة اُخرى بإيجادها في الخارج حتّى يتحقّق المجموع، هذا في المأمور.
وأمّا الآمر، فالأمر فيـه بالعكس، فإنّـه يتصوّر أوّلا الأجزاء والشرائط كلّ واحد منها مستقلاّ، ثمّ يلاحظ أنّ الغرض والمصلحـة يترتّب على مجموعها بحيث يكون اجتماعها مؤثّراً في حصول الغرض، فيلاحظها أمراً واحداً وتعلّق أمره بـه ويحرّك المكلّف نحو إتيانـه، فهو ينتهي من الكثرة إلى الوحدة، كما أنّ المأمور ينتهي من الوحدة إلى الكثرة.
الثالث:
الأمر المتعلّق بالمركّب الاعتباري لا يكون إلاّ أمراً واحداً متعلّقاً بأمر واحد، والأجزاء لا تكون مأموراً بها أصلا، لعدم كونها ملحوظـة إلاّ فانيـة في المركّب بحيث لا يكون لها وجود استقلالي. غايـة الأمر أنّ كلّ جزء مقدّمـة مستقلّـة لتحقّق المأمور بـه، غايـة الأمر أنّها مقدّمـة داخليّـة في مقابل المقدّمـة الخارجيـة.
والفرق بين قسمي المقدّمـة: أنّ المقدّمـة الخارجيّـة يكون الداعي إلى إتيانهما أمر آخر ناش من الأمر بذي المقدّمـة، بناءً على وجوب المقدّمـة، أو اللزوم العقلي بناءً على عدم الوجوب، والمقدّمات الداخليّـة يكون الداعي إليها هو نفس الأمر المتعلّق بذي المقدّمـة لعدم كون المركّب مغايراً لها، لأنّـه إجمالها وصورتها الوحدانيّـة، وهي تفصيلـه وتحليلـه، وهو لا ينافي مقدّميـة الأجزاء، لأنّ المقدّمـة إنّما هو كلّ جزء مستقلاّ لا مجموع الأجزاء. وبالجملـة، فالأمر
(الصفحة 178)
المتعلّق بالمركّب يدعو بعينـه إلى الأجزاء، ولا يلزم من ذلك أن يكون الأمر داعياً إلى غير متعلّقـه، لأنّ الأجزاء هي نفس المركّب، والفرق بينهما بالإجمال والتفصيل والبساطـة والتحليل.
الرابع:
أنّك عرفت في الأمر الثالث أنّ الأمر يدعو إلى الأجزاء بعين دعوتـه إلى المركّب، ويترتّب على ذلك أنّ الحجّـة على الأجزاء إنّما هي بعينها الحجّـة على المركّب لكن مع تعيـين الأجزاء التي ينحلّ إليها، وأمّا مع عدم قيام الحجّـة على بعض ما يحتمل جزئيّتـه فلا يمكن أن يكون الأمر المتعلّق بالمركّب داعياً إلى ذلك الجزء المشكوك أيضاً بعد عدم إحراز انحلال المأمور بـه إليـه.
وبالجملـة: فالأمر المتعلّق بالمركّب إنّما يدعو إلى ما علم انحلالـه إليـه من الأجزاء، وأمّا الجزء المشكوك فلا يعلم بتعلّق الأمر بما ينحلّ إليـه حتّى يدعو الأمر إليـه أيضاً.
وبالجملـة: فتماميـة الحجّـة تـتوقّف على إحراز الصغرى والكبرى معاً، وإلاّ فمع الشكّ في إحداهما لا معنى لتماميّتها، فاللازم العلم بتعلّق الأمر بالمركّب وبأجزائـه التحليليّـة أيضاً، وبدون ذلك تجري البراءة عقلا الراجعـة إلى قبح العقاب بلا بيان والمؤاخذة بلا برهان.
ودعوى:
أنّ مع ترك الجزء المشكوك لا يعلم بتحقّق عنوان المركّب، ومن الواضح لزوم تحصيلـه.
مدفوعـة:
بأنّ مرجع ذلك إلى كون أسامي العبادات موضوعـة للصحيحـة منها، والكلام إنّما هو بناءً على القول الأعمّي الذي مرجعـه إلى صدق الاسم مع الإخلال بالجزء المشكوك.
وكيف كان: فتعلّق الأمر بالمركّب الذي هو أمر وجداني معلوم تفصيلا لا