(الصفحة 178)
المتعلّق بالمركّب يدعو بعينـه إلى الأجزاء، ولا يلزم من ذلك أن يكون الأمر داعياً إلى غير متعلّقـه، لأنّ الأجزاء هي نفس المركّب، والفرق بينهما بالإجمال والتفصيل والبساطـة والتحليل.
الرابع:
أنّك عرفت في الأمر الثالث أنّ الأمر يدعو إلى الأجزاء بعين دعوتـه إلى المركّب، ويترتّب على ذلك أنّ الحجّـة على الأجزاء إنّما هي بعينها الحجّـة على المركّب لكن مع تعيـين الأجزاء التي ينحلّ إليها، وأمّا مع عدم قيام الحجّـة على بعض ما يحتمل جزئيّتـه فلا يمكن أن يكون الأمر المتعلّق بالمركّب داعياً إلى ذلك الجزء المشكوك أيضاً بعد عدم إحراز انحلال المأمور بـه إليـه.
وبالجملـة: فالأمر المتعلّق بالمركّب إنّما يدعو إلى ما علم انحلالـه إليـه من الأجزاء، وأمّا الجزء المشكوك فلا يعلم بتعلّق الأمر بما ينحلّ إليـه حتّى يدعو الأمر إليـه أيضاً.
وبالجملـة: فتماميـة الحجّـة تـتوقّف على إحراز الصغرى والكبرى معاً، وإلاّ فمع الشكّ في إحداهما لا معنى لتماميّتها، فاللازم العلم بتعلّق الأمر بالمركّب وبأجزائـه التحليليّـة أيضاً، وبدون ذلك تجري البراءة عقلا الراجعـة إلى قبح العقاب بلا بيان والمؤاخذة بلا برهان.
ودعوى:
أنّ مع ترك الجزء المشكوك لا يعلم بتحقّق عنوان المركّب، ومن الواضح لزوم تحصيلـه.
مدفوعـة:
بأنّ مرجع ذلك إلى كون أسامي العبادات موضوعـة للصحيحـة منها، والكلام إنّما هو بناءً على القول الأعمّي الذي مرجعـه إلى صدق الاسم مع الإخلال بالجزء المشكوك.
وكيف كان: فتعلّق الأمر بالمركّب الذي هو أمر وجداني معلوم تفصيلا لا
(الصفحة 179)
خفاء فيـه، وعدم كون الأجزاء متعلّقـة للأمر بوجـه أيضاً معلومـة كذلك، إلاّ أنّ ذلك الأمر المعلوم إنّما يكون حجّـة بالنسبـة إلى ما قامت الحجّـة على انحلال المركّب بـه، وأمّا ما لم يدلّ على جزئيّتـه لـه فلا يكون الأمر بالمركّب حجّـة بالنسبـة إليـه ولا يحرّك العبد نحوه. ولسنا نقول بأنّ متعلّق الأمر معلوم إجمالا، وهذا العلم الإجمالي ينحلّ إلى العلم التفصيلي بوجوب الأقلّ والشكّ البدوي في وجوب الأكثر. كيف وقد عرفت أنّ متعلّق الأمر هو الأمر المركّب، وتعلّقـه بـه معلوم تفصيلا، والشكّ إنّما هو في أجزاء المركّب، وهي غير مأمور بها أصلا، سواء فيـه الأقلّ والأكثر، غايـة الأمر أنّ هذا الأمر لا يكاد يدعو إلاّ إلى ما علم بتركيب المركّب منـه، كما عرفت. فتحصّل من جميع ما ذكرنا أنّ الحقّ جريان البراءة العقليّـة.
الإشكالات الثمانية على جريان البراءة العقليّة عن الأكثر ودفعها
ثمّ إنّ هنا إشكالات على ذلك لابدّ من ذكرها والجواب عنها فنقول:
منها:
أنّ الأمر في باب الأقلّ والأكثر أيضاً دائر بين المتباينين، لأنّ المركّب من الأقلّ الذي هو الأمر الوحداني الحاصل من ملاحظـة أجزائـه شيئاً واحداً يغاير المركّب من الأكثر الذي مرجعـه إلى ملاحظـة الوحدة بين أجزائـه، فالمركّب من الأقلّ لـه صورة مغايرة للمركّب من الأكثر، فإذا دار الأمر بينهما يجب الاحتياط بإتيان الأكثر.
ويظهر جواب هذا الإشكال من ملاحظـة ما ذكرنا، فإنّ المركّب من الأقلّ ليس لـه صورة تغاير نفس الأجزاء المركّبـة منـه بحيث كان هنا أمران: الأجزاء التي يتحصّل منها المركّب، والصورة الحاصلـة منها، بل ليس هنا إلاّ أمر واحد
(الصفحة 180)
وهو نفس الأجزاء، ولذا ذكرنا أنّ الأمر يدعو إلى الأجزاء بعين داعويّتـه إلى المركّب، لعدم التغاير بينهما. وهكذا المركّب من الأكثر ليس لـه صورة مغايرة للأجزاء، بل هو نفسها، وحينئذ فلا يكون في البين إلاّ الأجزاء التي دار أمرها بين الأقلّ والأكثر. فالمقام لا يكون من قبيل دوران الأمر بين المتباينين، مضافاً إلى أنّـه لو كان من ذلك القبيل لكان مقتضاه الجمع بين الإتيان بالمركّب من الأقلّ مرّة وبالمركّب من الأكثر اُخرى، ولا يجوز الاكتفاء بالثاني، كما أنّـه لا يجوز الاكتفاء بالأوّل.
ومنها:
ما نسب إلى المحقّق صاحب الحاشيـة ـ وإن كانت عبارتها لا تنطبق عليـه، بل هي ظاهرة في وجـه آخر سيأتي التعرّض لـه ـ من أنّ العلم بوجـوب الأقلّ لا ينحلّ بـه العلم الإجمالي، لتردّد وجوبـه بين المتباينين، فإنّـه لا إشكال في مباينـة الماهيّـة بشرط شيء للماهيّـة لا بشرط، لأنّ أحدهما قسيم الآخر، فلو كان متعلّق التكليف هو الأقلّ فالتكليف بـه إنّما يكون لا بشرط عن الزيادة، ولو كان متعلّق التكليف هو الأكثر فالتكليف بالأقلّ إنّما يكون بشرط انضمامـه مع الزيادة، فوجوب الأقلّ يكون مردّداً بين المتباينين باعتبار اختلاف سنخي الوجوب الملحوظ لا بشرط أو بشرط شيء. كما أنّ امتثال التكليف المتعلّق بالأقلّ يختلف حسب اختلاف الوجوب المتعلّق به، فإنّ امتثاله إنّما يكون بانضمام الزائد إليـه إذا كان التكليف بـه ملحوظاً بشرط شيء، بخلاف ما إذا كان ملحوظاً لا بشرط، فإنّـه لا يتوقّف امتثالـه على انضمام الزائد إليـه، فيرجع الشكّ في الأقلّ والأكثر الارتباطي إلى الشكّ بين المتباينين تكليفاً وامتثالا(1)، انتهى.
- 1 ـ هدايـة المسترشدين: 441.
(الصفحة 181)
ويرد عليـه مضافاً إلى ما وقع في كلامـه من سوء التعبير، لأنّ الموصوف باللا بشرطيـة والبشرط شيئيـة ليس إلاّ متعلّق التكليف وهو الأقلّ، فإنّـه على تقدير تعلّق التكليف بـه فقط يكون ملحوظاً لا بشرط، وعلى تقدير تعلّقـه بالأكثر يكون ملحوظاً بشرط شيء، وأمّا التكليف الذي هو عبارة عن البعث إلى المكلّف بـه أو الزجر عن المتعلّق فلا يكون موصوفاً لهذين الوصفين. ثمّ إنّ اتّصاف المتعلّق بهما أيضاً محلّ نظر; لأنّ مركز البحث هو ما إذا كان الأقلّ والأكثر من قبيل الجزء والكلّ لا الشرط والمشروط، فالأكثر على تقدير كونـه متعلّقاً للتكليف يكون بجميع أجزائـه كذلك، لا أنّ المتعلّق هو الأقلّ بشرط الزيادة على أن يكون الزائد شرطاً.
وبالجملـة: فمورد النزاع هنا أنّ الزائد على تقدير ثبوتـه كان جزءً للمركّب المأمور بـه والتعبير بشرط شيء ظاهر في أنّ الزائد شرط لا جزء.
وكيف كان فيرد عليـه ـ بعد الغضّ عمّا ذكر ـ منع ما نفى الإشكال عنـه مـن مباينـة الماهيّـة بشرط شيء للماهيّـة اللابشرط، فإنّ ما يباين الماهيّـة بشرط شيء هو الماهيّـة اللابشرط القسمي، وهي التي اعتبر معها عدم الاشتراط بوجود شيء أو نفيـه، وأمّا الماهيّـة اللابشرط المقسمي ـ وهي الماهيّـة بذاتها مـن دون لحاظ شيء معها حتّى لحاظ عدم لحاظ شيء الذي يحتاج إلى لحاظ آخر غير لحاظ الماهيّـة ـ فلا تباين الماهيّـة بشرط شيء. كيف وهي قسم لها، ولا يعقل التنافي بين المقسم والقسم، والمقام من هذا القبيل، فإنّ الأقلّ على تقدير تعلّق التكليف بـه كان الملحوظ هو نفسـه من دون لحاظ شيء آخر حتّى لحاظ عـدم لحاظ شيء آخر. وقـد عرفت أنّـه لا تنافي بينـه وبين الماهيّـة بشرط شيء.
(الصفحة 182)
ثمّ لو فرض التنافي فاللازم الجمع بينهما فـي مقام الامتثال والإتيان بالأقلّ من دون زيادة مرّة وبـه معها اُخرى، ولا يظنّ بالقائل الالتزام بـه، كما لايخفى.
ثمّ إنّـه أجاب المحقّق النائيني (قدس سره)
عن هذه الشبهـة بما حاصلـه: إنّ الماهيّـة لا بشرط والماهيّـة بشرط شيء ليسا من المتباينين الذين لا جامع بينهما، لأنّ التقابل بينهما تقابل العدم والملكـة لا التضادّ، فإنّ الماهيّـة لا بشرط ليس معناها لحاظ عدم انضمام شيء معها بحيث يؤخذ العدم قيداً في الماهيّـة، وإلاّ ترجع إلى الماهيّـة بشرط لا، ويلزم تداخل أقسام الماهيّـة، بل الماهيّـة لابشرط معناها عدم لحاظ شيء معها، ومن هنا قلنا: إنّ الإطلاق ليس أمراً وجودياً، بل هو عبارة عن عدم ذكر القيد، خلافاً لما ينسب إلى المشهور، فالماهيّـة لابشرط ليست مباينـة للماهيّـة بشرط شيء بحيث لا يوجد بينهما جامع، بل يجمعهما نفس الماهيّـة، والتقابل بينهما إنّما يكون بمجرّد الاعتبار واللحاظ، وفي المقام يكون الأقلّ متيقّن الاعتبار على كلّ حال، سواء لوحظ الواجب لا بشرط أو بشرط شيء، والتغاير الاعتباري لا يوجب خروج الأقلّ عن كونـه متيقّن الاعتبار(1)، انتهى.
ويرد عليـه أوّلا: أنّ الماهيّـة اللابشرط كما اعترف بـه هو نفس الماهيّـة من دون أن يلحظ معها شيء آخر بنحو السلب البسيط لا الإيجاب العدولي، وحينئذ فلا وجـه لما ذكره من أنّ الجامع بينها وبين الماهيّـة بشرط شيء هو نفس الماهيّـة، لأنّ نفس الماهيّـة عبارة اُخرى عن الماهيّـة اللابشرط، إذ المراد بها
- 1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4: 154.