(الصفحة 182)
ثمّ لو فرض التنافي فاللازم الجمع بينهما فـي مقام الامتثال والإتيان بالأقلّ من دون زيادة مرّة وبـه معها اُخرى، ولا يظنّ بالقائل الالتزام بـه، كما لايخفى.
ثمّ إنّـه أجاب المحقّق النائيني (قدس سره)
عن هذه الشبهـة بما حاصلـه: إنّ الماهيّـة لا بشرط والماهيّـة بشرط شيء ليسا من المتباينين الذين لا جامع بينهما، لأنّ التقابل بينهما تقابل العدم والملكـة لا التضادّ، فإنّ الماهيّـة لا بشرط ليس معناها لحاظ عدم انضمام شيء معها بحيث يؤخذ العدم قيداً في الماهيّـة، وإلاّ ترجع إلى الماهيّـة بشرط لا، ويلزم تداخل أقسام الماهيّـة، بل الماهيّـة لابشرط معناها عدم لحاظ شيء معها، ومن هنا قلنا: إنّ الإطلاق ليس أمراً وجودياً، بل هو عبارة عن عدم ذكر القيد، خلافاً لما ينسب إلى المشهور، فالماهيّـة لابشرط ليست مباينـة للماهيّـة بشرط شيء بحيث لا يوجد بينهما جامع، بل يجمعهما نفس الماهيّـة، والتقابل بينهما إنّما يكون بمجرّد الاعتبار واللحاظ، وفي المقام يكون الأقلّ متيقّن الاعتبار على كلّ حال، سواء لوحظ الواجب لا بشرط أو بشرط شيء، والتغاير الاعتباري لا يوجب خروج الأقلّ عن كونـه متيقّن الاعتبار(1)، انتهى.
ويرد عليـه أوّلا: أنّ الماهيّـة اللابشرط كما اعترف بـه هو نفس الماهيّـة من دون أن يلحظ معها شيء آخر بنحو السلب البسيط لا الإيجاب العدولي، وحينئذ فلا وجـه لما ذكره من أنّ الجامع بينها وبين الماهيّـة بشرط شيء هو نفس الماهيّـة، لأنّ نفس الماهيّـة عبارة اُخرى عن الماهيّـة اللابشرط، إذ المراد بها
- 1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4: 154.
(الصفحة 183)
هي الماهيّـة اللا بشرط المقسمي، ولا يعقل الجامع بين القسم والمقسم هنا، كما هو واضح.
نعم نفس الماهيّـة جامعـة للماهيّـة بشرط شيء والماهيّـة اللابشرط القسمي وهي التي لوحظت متقيّدة باللا بشرطيـة.
ثمّ إنّ تسليم عدم ثبوت الجامع لو كان بين الماهيّـة لا بشرط والماهيّـة بشرط شيء نسبـة التضادّ، لا تقابل العدم والملكـة محلّ منع، فإنّ المتقابلين بالتضادّ أيضاً بينهما جامع جنسي كالسواد والبياض، فإنّـه يجمعهما جنسهما الذي هو اللون، كما هو واضح.
ثمّ إنّ كون التقابل بين الماهيّـة اللا بشرط والماهيّـة البشرط شيء تقابل العدم والملكـة لا يوجب نفي وجوب الاحتياط، ألا ترى أنّـه لو دار الأمر بين إكرام بصير أو أعمى أو بين إكرام كوسج أو ملتح يجب الاحتياط بإكرام كليهما، مع أنّ التقابل بينهما تقابل العدم والملكـة، كما هو واضح.
ومنها:
أنّ وجوب الأقلّ دائر بين كونـه نفسيّاً يترتّب على مخالفـة الأمر المتعلّق بـه العقاب، وبين كونـه غيريّاً لا يترتّب على مخالفتـه شيء، لأنّ العقاب إنّما هو على ترك الواجب النفسي لا الغيري. وحينئذ فلا يعلم بلزوم الإتيان بالأقلّ على أيّ تقدير حتّى ينحلّ بـه العلم الإجمالي بوجوب الأقلّ أو الأكثر، فالعلم الإجمالي باق على حالـه، ومقتضاه وجوب الاحتياط بإتيان الأكثر.
ويرد عليـه أوّلا: أنّ المركّب كما أنّـه ليس لـه إلاّ وجود واحد هو عين وجود الأجزاء، كذلك لا يكون لـه إلاّ عدم واحد; لأنّ نقيض الواحد لا يكون إلاّ واحداً، وإلاّ يلزم ارتفاع النقيضين، وحينئذ فنقيض المركّب إنّما هو عدم ذلك الوجود الواحد، غايـة الأمر أنّ عدمـه تارة بعدم جميع أجزائها، واُخرى بعدم
(الصفحة 184)
بعضها، لوضوح اشتراك تارك الصلاة رأساً مع تارك ركوعها ـ مثلا ـ في عدم إتيان واحد منهما بالمركّب الذي هو الصلاة.
وحينئذ نقول: ترك الأقلّ يعلم بترتّب العقاب عليـه; إمّا من جهـة كونـه هو تمام المأمور بـه، وإمّا من جهـة كون تركـه هو عين ترك المأمور بـه الذي يترتّب عليـه العقاب، فيترتّب العقاب على تركـه قطعاً، وبـه ينحلّ العلم الإجمالي.
نعم لو كان الواجب في الواقع هو الأكثر ولم يأت المكلّف إلاّ بالأقلّ اعتماداً على حكم العقل بالبراءة فهو وإن كان تاركاً للمأمور بـه، لأنّ تركـه بعين ترك الجزء الزائد أيضاً إلاّ أنّ ترك المأمور بـه هنا إنّما هو لعذر، بخلاف تركـه بعدم الإتيان بالأقلّ، فإنّـه لا يكون لعذر، فهما مشتركان في عـدم إتيانهما بالمأمور بـه، لكن بينهما فرق من حيث العذر وعدمـه، نظير ما لو علم المكلّف بوجوب إنقاذ أحد الغريقين على سبيل التخيـير مع كـون الواجب في الواقـع واحداً معيّناً منهما، فإنّـه تارة يعصي المولى بعدم إنقاذ واحد منهما واُخرى ينقذ غير من يجب إنقاذه بحسب الواقع. ففي الصورتين وإن كان المأمور بـه قد ترك ولم يأت المكلّف بـه، إلاّ أنّـه في الصورة الثانيـة معذور في المخالفـة دون الصورة الاُولى.
وثانياً: لو سلّم دوران أمر الأقلّ بين كونـه نفسيّاً يترتّب على مخالفتـه العقاب أو غيريّاً لا يترتّب عليـه، كدوران شيء بين الواجب والمستحبّ، إلاّ أنّا نقول: إنّ الملاك في جريان حكم العقل بالبراءة المستند إلى قبح العقاب بلا بيان هل هو عدم البيان على التكليف، أو عدم البيان على العقوبـة؟ لا سبيل إلى الثاني; لأنّـه تصحّ العقوبـة فيما لو بيّن المولى التكليف، وإن لم يبيّن العقوبـة عليـه. ألا ترى أنّـه لو ارتكب المكلّف واحداً من المحرّمات بتخيّل ضعف العقاب
(الصفحة 185)
المترتّب على ارتكابـه لا إشكال في صحّـة عقوبتـه المترتّبـة عليـه في الواقع وإن كان من الشدّة بمكان.
وبالجملـة: فمستند حكم العقل بالبراءة ليس عدم البيان على العقاب، بل عدم البيان على التكليف، والبيان عليـه موجود بالنسبـة إلى الأقلّ قطعاً، ولذا لايجوز تركـه. وحينئذ فدوران أمر الأقلّ بين ترتّب العقاب عليـه لو كان نفسيّاً وعدم ترتّبـه لو كان غيريّاً لا يوجب أن لا يكون وجوبـه معلوماً، ومع العلم بالوجوب لا يحكم العقل بالبراءة قطعاً، فلزوم الإتيان بـه معلوم على أيّ تقدير، وبـه ينحلّ العلم الإجمالي، كما لايخفى.
ومنها:
ما ذكره المحقّق النائيني ـ على ما في التقريرات المنسوبـة إليـه ـ وهو ينحلّ إلى وجهين:
أحدهما: ما ذكره في صدر كلامـه وملخّصـه: إنّ العقل يستقلّ بعدم كفايـة الامتثال الاحتمالي للتكليف القطعي، ضرورة أنّ الامتثال الاحتمالي إنّما يقتضيـه التكليف الاحتمالي، وأمّا التكليف القطعي فمقتضاه الامتثال القطعي، لأنّ العلم باشتغال الذمّـة يستدعي العلم بالفراغ عقلا، ولا يكفي احتمال الفراغ، ففي المقام لا يجوز الاقتصار على الأقلّ عقلا، لأنّـه يشكّ في الامتثال والخروج عن عهدة التكليف المعلوم في البين، ولايحصل العلم بالامتثال إلاّ بعد ضمّ الخصوصيّـة الزائدة المشكوكـة. والعلم التفصيلي بوجوب الأقلّ المردّد بين كونـه لا بشرط أو بشرط شيء هو عين العلم الإجمالي بالتكليف المردّد بين الأقلّ والأكثر، ومثل هذا العلم التفصيلي لا يعقل أن يوجب الانحلال، لأنّـه يلزم أن يكون العلم الإجمالي موجباً لانحلال نفسـه.
ثانيهما: ما ذكره في ذيل كلامـه وحاصلـه: إنّ الشكّ في تعلّق التكليف
(الصفحة 186)
بالخصوصيـة الزائدة المشكوكـة من الجزء أو الشرط وإن كان عقلا لا يقتضي التنجّز واستحقاق العقاب على مخالفتـه من حيث هو، للجهل بتعلّق التكليف بـه، إلاّ أنّ هناك جهـة اُخرى تقتضي التنجيز والاستحقاق على تقدير تعلّق التكليف بها، وهي احتمال الارتباطيّـة وقيديّـة الزائد للأقل، فإنّ هذا الاحتمال بضميمـة العلم الإجمالي يقتضي التنجيز واستحقاق العقاب عقلا. فإنّـه لا رافع لهذا الاحتمال، وليس من وظيفـة العقل وضع القيديّـة أو رفعها، بل ذلك من وظيفـة الشارع، ولا حكم للعقل من هذه الجهـة فيبقى حكمـه بلزوم الخروج عن عهدة التكليف المعلوم على حالـه، فلابدّ من ضمّ الخصوصيّـة الزائدة(1).
هذا، ويرد على التقريب الأوّل: أنّ الاشتغال اليقيني وإن كان مستدعياً للبراءة اليقينيّـة، إلاّ أنّ ذلك بمقدار ثبت الاشتغال بـه وقامت الحجّـة عليـه، وأمّا ما لم تقم الحجّـة عليـه فلم يثبت الاشتغال بـه حتّى يستدعي البراءة اليقينيّـة عنـه، كما لايخفى.
وما ذكره من أنّ العلم التفصيلي بوجوب الأقلّ المردّد بين كونـه لا بشرط أو بشرط شيء هو عين العلم الإجمالي محلّ منع، لما عرفت من أنّ المراد باللابشرط في المقام هو اللا بشرط المقسمي الذي هو عبارة عن نفس الماهيّـة من دون أن يلحظ معها شيء على نحو السلب البسيط لا الإيجاب العدولي. ومن المعلوم أنّ اللابشرط المقسمي لا يغاير مع البشرط شيء أصلا، لأنّ اللا بشرط يجتمع مع ألف شرط.
وحينئذ فالأقلّ المردّد بين كونـه لا بشرط أو بشرط شيء يعلم تفصيلا
- 1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4: 159 ـ 161.