(الصفحة 185)
المترتّب على ارتكابـه لا إشكال في صحّـة عقوبتـه المترتّبـة عليـه في الواقع وإن كان من الشدّة بمكان.
وبالجملـة: فمستند حكم العقل بالبراءة ليس عدم البيان على العقاب، بل عدم البيان على التكليف، والبيان عليـه موجود بالنسبـة إلى الأقلّ قطعاً، ولذا لايجوز تركـه. وحينئذ فدوران أمر الأقلّ بين ترتّب العقاب عليـه لو كان نفسيّاً وعدم ترتّبـه لو كان غيريّاً لا يوجب أن لا يكون وجوبـه معلوماً، ومع العلم بالوجوب لا يحكم العقل بالبراءة قطعاً، فلزوم الإتيان بـه معلوم على أيّ تقدير، وبـه ينحلّ العلم الإجمالي، كما لايخفى.
ومنها:
ما ذكره المحقّق النائيني ـ على ما في التقريرات المنسوبـة إليـه ـ وهو ينحلّ إلى وجهين:
أحدهما: ما ذكره في صدر كلامـه وملخّصـه: إنّ العقل يستقلّ بعدم كفايـة الامتثال الاحتمالي للتكليف القطعي، ضرورة أنّ الامتثال الاحتمالي إنّما يقتضيـه التكليف الاحتمالي، وأمّا التكليف القطعي فمقتضاه الامتثال القطعي، لأنّ العلم باشتغال الذمّـة يستدعي العلم بالفراغ عقلا، ولا يكفي احتمال الفراغ، ففي المقام لا يجوز الاقتصار على الأقلّ عقلا، لأنّـه يشكّ في الامتثال والخروج عن عهدة التكليف المعلوم في البين، ولايحصل العلم بالامتثال إلاّ بعد ضمّ الخصوصيّـة الزائدة المشكوكـة. والعلم التفصيلي بوجوب الأقلّ المردّد بين كونـه لا بشرط أو بشرط شيء هو عين العلم الإجمالي بالتكليف المردّد بين الأقلّ والأكثر، ومثل هذا العلم التفصيلي لا يعقل أن يوجب الانحلال، لأنّـه يلزم أن يكون العلم الإجمالي موجباً لانحلال نفسـه.
ثانيهما: ما ذكره في ذيل كلامـه وحاصلـه: إنّ الشكّ في تعلّق التكليف
(الصفحة 186)
بالخصوصيـة الزائدة المشكوكـة من الجزء أو الشرط وإن كان عقلا لا يقتضي التنجّز واستحقاق العقاب على مخالفتـه من حيث هو، للجهل بتعلّق التكليف بـه، إلاّ أنّ هناك جهـة اُخرى تقتضي التنجيز والاستحقاق على تقدير تعلّق التكليف بها، وهي احتمال الارتباطيّـة وقيديّـة الزائد للأقل، فإنّ هذا الاحتمال بضميمـة العلم الإجمالي يقتضي التنجيز واستحقاق العقاب عقلا. فإنّـه لا رافع لهذا الاحتمال، وليس من وظيفـة العقل وضع القيديّـة أو رفعها، بل ذلك من وظيفـة الشارع، ولا حكم للعقل من هذه الجهـة فيبقى حكمـه بلزوم الخروج عن عهدة التكليف المعلوم على حالـه، فلابدّ من ضمّ الخصوصيّـة الزائدة(1).
هذا، ويرد على التقريب الأوّل: أنّ الاشتغال اليقيني وإن كان مستدعياً للبراءة اليقينيّـة، إلاّ أنّ ذلك بمقدار ثبت الاشتغال بـه وقامت الحجّـة عليـه، وأمّا ما لم تقم الحجّـة عليـه فلم يثبت الاشتغال بـه حتّى يستدعي البراءة اليقينيّـة عنـه، كما لايخفى.
وما ذكره من أنّ العلم التفصيلي بوجوب الأقلّ المردّد بين كونـه لا بشرط أو بشرط شيء هو عين العلم الإجمالي محلّ منع، لما عرفت من أنّ المراد باللابشرط في المقام هو اللا بشرط المقسمي الذي هو عبارة عن نفس الماهيّـة من دون أن يلحظ معها شيء على نحو السلب البسيط لا الإيجاب العدولي. ومن المعلوم أنّ اللابشرط المقسمي لا يغاير مع البشرط شيء أصلا، لأنّ اللا بشرط يجتمع مع ألف شرط.
وحينئذ فالأقلّ المردّد بين كونـه لا بشرط أو بشرط شيء يعلم تفصيلا
- 1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4: 159 ـ 161.
(الصفحة 187)
بوجوبـه بحيث لا إجمال في ذلك عند العقل ولا يكون متردّداً فيـه أصلا، والخصوصيّـة الزائدة مشكوكـة بالشكّ البدوي.
وبالجملـة، فالعلم الإجمالي إذا لوحظ طرفاه أو أطرافـه يكون كلّ واحد منهما أو منها مشكوكاً من حيث هو، وفي المقام لا يكون كذلك، لأنّ العقل لا يرى إجمالا بالنسبـة إلى وجوب الأقلّ أصلا، والأمر الزائد لا يكون إلاّ مشكوكاً بالشكّ البدوي.
والعجب أنّـه (قدس سره)
أجاب عن الإشكال الذي نسبـه إلى صاحب الحاشيـة كما عرفت بعدم مباينـة الماهيّـة اللابشرط مع الماهيّـة بشرط شيء وقال: إنّ الأقلّ متيقّن الاعتبار على كلّ حال، سواء لوحظ لا بشرط أو بشرط الجزء الزائد(1)، وهنا أنكر الانحلال الذي مرجعـه إلى العلم التفصيلي بوجوب الأقلّ على كلّ حال والشكّ البدوي في الزائد، ولعمري أنّـه تنافر واضح وتهافت فاحش، هذا.
ويرد على التقريب الثاني: أنّـه كما أنّ تعلّق التكليف بالخصوصيّـة الزائدة مشكوك وهو لا يقتضي التنجيز واستحقاق العقاب على مخالفتـه من حيث هو، كذلك احتمال الارتباطيّـة وقيديّـة الزائد مورد لجريان البراءة بعد عدم قيام الحجّـة عليها، لعدم الفرق بين نفس الجزء الزائد وحيثيتـه الارتباطيـة أصلا، لوجود ملاك جريان البراءة العقليّـة وهو الجهل وعدم ثبوت البيان فيهما، ولا يكون مقتضى جريانها هو رفع القيديّـة حتّى يقال بأنّـه ليس من وظيفـة العقل وضع القيديّـة ولا رفعها، بل معنى جريانها هو قبح العقاب على ترك المأمور بـه
- 1 ـ تقدّم في الصفحـة 182.
(الصفحة 188)
من جهـة الإخلال بالخصوصيّـة الزائدة المشكوكـة بعد عدم ورود بيان على ثبوتها وكونها دخيلا في المأمور بـه.
ومن جميع ما ذكرنا يظهر الجواب عن تقريب آخر للاحتياط، وهو أنّ تعلّق التكليف بالأقلّ معلوم ضرورة، والاشتغال اليقيني بذلك يقتضي البراءة اليقينيّـة، وهي لا تحصل إلاّ بضمّ الجزء الزائد المشكوك، ضرورة أنّـه مع دخالتـه في المأمور بـه لا يكون الإتيان بالأقلّ بمجد أصلا.
والجواب: أنّ الشكّ في حصول البراءة إنّما هو من جهـة مدخليّـة الخصوصيّـة الزائدة، وحيث إنّ دخالتها مشكوكـة ولم يرد من المولى بيان بالنسبـة إليها فالعقاب على ترك المأمور بـه من جهـة الإخلال بتلك الخصوصيـة لا يكون إلاّ عقاباً من دون بيان ومؤاخذة بلا برهان.
وبالجملـة: ما علم الاشتغال بـه يقيناً يحصل البراءة بالإتيان بـه كذلك، وما لم يعلم الاشتغال بـه تجري البراءة العقليّـة بالنسبـة إليـه، كما عرفت.
ومنها:
ما أفاده الشيخ المحقّق صاحب الحاشيـة الكبيرة على المعالم، وملخّصـه: أنّ الأمر دائر بين تعلّق الوجوب بالأقلّ أو بالأكثر، وعلى تقدير تعلّقـه بالأكثر لا يكون الأقلّ بواجب; لأنّ ما هو في ضمن الأكثر إنّما هو الأجزاء التي ينحلّ إليها الأقلّ لا نفس الأقلّ، فإنّـه لا يكون في ضمن الأكثر أصلا; لأنّ لـه صورة مغايرة لصورة الأكثر. ومع هذا التغاير لو كان الأقلّ والأكثر غير ارتباطيـين لكنّا نحكم بالبراءة بالنسبـة إلى الزائد المشكوك، لعدم توقّف حصول الغرض على ضمّ الزائد، بل الأقلّ يترتّب عليـه الغرض في الجملـة ولو لم يكن متعلّقاً للتكليف. وهذا بخلاف المقام، فإنّـه لو كان الأمر متعلّقاً في نفس الأمر بالأكثر لكان وجود الأقلّ كعدمـه في عدم ترتّب شيء عليـه وعدم تأثيره في حصول
(الصفحة 189)
الغرض أصلا. وحينئذ فمقتضى العلم الإجمالي بوجود التكليف في البين هو لزوم الإتيان بالأكثر تحصيلا للبراءة اليقينيّـة(1)، انتهى.
ويرد عليـه ما أجبنا بـه عن الإشكال الأوّل المتقدّم(2) من أنّ المركّب من الأقلّ لا يكون لـه صورة مغايرة للمركّب من الأكثر، لأنّ التركيب الاعتباري ليس إلاّ ملاحظـة أشياء متعدّدة شيئاً واحداً، بحيث تكون الأجزاء فانيـة غير ملحوظـة بنفسها، ولا يكون هنا صورة اُخرى ماعدا الأجزاء حتّى يقال بأنّها مغايرة للصورة الحاصلـة من المركّب من الأكثر.
وبالجملـة: فليس هنا إلاّ نفس الأجزاء التي دار أمرها بين القلّـة والكثرة، وحينئذ فيظهر أنّ تعلّق الوجوب بالأقلّ معلوم تفصيلا، لما عرفت من أنّ الأمر المتعلّق بالمركّب يدعو إلى أجزائـه بعين داعويّتـه إلى المركّب، وحينئذ فلو كان الأكثر متعلّقاً للتكليف يكون الأقلّ أيضاً واجباً، بمعنى أنّ الأمر يدعو إليـه، كما أنّـه لو كان الأقلّ كذلك يكون واجباً حينئذ، فوجوب الأقلّ معلوم تفصيلا، والشكّ بالنسبـة إلى الزائد شكّ بدوي يجري فيـه البراءة، كما عرفت.
ومنها:
ما أفاده المحقّق الخراساني (قدس سره)
في الكفايـة من أنّ الانحلال مستلزم للخلف أو المحال الذي هو عبارة عن استلزام وجود الشيء لعدمـه(3).
أمّا الخلف، فلأنّـه يتوقّف لزوم الأقلّ فعلا إمّا لنفسـه أو لغيره على تنجّز التكليف مطلقاً ولو كان متعلّقاً بالأكثر، ضرورة أنّه لو لم يتنجّز على تقدير تعلّقه به
- 1 ـ هداية المسترشدين: 441.
- 2 ـ تقدّم في الصفحـة 179.
- 3 ـ كفايـة الاُصول: 413.