(الصفحة 188)
من جهـة الإخلال بالخصوصيّـة الزائدة المشكوكـة بعد عدم ورود بيان على ثبوتها وكونها دخيلا في المأمور بـه.
ومن جميع ما ذكرنا يظهر الجواب عن تقريب آخر للاحتياط، وهو أنّ تعلّق التكليف بالأقلّ معلوم ضرورة، والاشتغال اليقيني بذلك يقتضي البراءة اليقينيّـة، وهي لا تحصل إلاّ بضمّ الجزء الزائد المشكوك، ضرورة أنّـه مع دخالتـه في المأمور بـه لا يكون الإتيان بالأقلّ بمجد أصلا.
والجواب: أنّ الشكّ في حصول البراءة إنّما هو من جهـة مدخليّـة الخصوصيّـة الزائدة، وحيث إنّ دخالتها مشكوكـة ولم يرد من المولى بيان بالنسبـة إليها فالعقاب على ترك المأمور بـه من جهـة الإخلال بتلك الخصوصيـة لا يكون إلاّ عقاباً من دون بيان ومؤاخذة بلا برهان.
وبالجملـة: ما علم الاشتغال بـه يقيناً يحصل البراءة بالإتيان بـه كذلك، وما لم يعلم الاشتغال بـه تجري البراءة العقليّـة بالنسبـة إليـه، كما عرفت.
ومنها:
ما أفاده الشيخ المحقّق صاحب الحاشيـة الكبيرة على المعالم، وملخّصـه: أنّ الأمر دائر بين تعلّق الوجوب بالأقلّ أو بالأكثر، وعلى تقدير تعلّقـه بالأكثر لا يكون الأقلّ بواجب; لأنّ ما هو في ضمن الأكثر إنّما هو الأجزاء التي ينحلّ إليها الأقلّ لا نفس الأقلّ، فإنّـه لا يكون في ضمن الأكثر أصلا; لأنّ لـه صورة مغايرة لصورة الأكثر. ومع هذا التغاير لو كان الأقلّ والأكثر غير ارتباطيـين لكنّا نحكم بالبراءة بالنسبـة إلى الزائد المشكوك، لعدم توقّف حصول الغرض على ضمّ الزائد، بل الأقلّ يترتّب عليـه الغرض في الجملـة ولو لم يكن متعلّقاً للتكليف. وهذا بخلاف المقام، فإنّـه لو كان الأمر متعلّقاً في نفس الأمر بالأكثر لكان وجود الأقلّ كعدمـه في عدم ترتّب شيء عليـه وعدم تأثيره في حصول
(الصفحة 189)
الغرض أصلا. وحينئذ فمقتضى العلم الإجمالي بوجود التكليف في البين هو لزوم الإتيان بالأكثر تحصيلا للبراءة اليقينيّـة(1)، انتهى.
ويرد عليـه ما أجبنا بـه عن الإشكال الأوّل المتقدّم(2) من أنّ المركّب من الأقلّ لا يكون لـه صورة مغايرة للمركّب من الأكثر، لأنّ التركيب الاعتباري ليس إلاّ ملاحظـة أشياء متعدّدة شيئاً واحداً، بحيث تكون الأجزاء فانيـة غير ملحوظـة بنفسها، ولا يكون هنا صورة اُخرى ماعدا الأجزاء حتّى يقال بأنّها مغايرة للصورة الحاصلـة من المركّب من الأكثر.
وبالجملـة: فليس هنا إلاّ نفس الأجزاء التي دار أمرها بين القلّـة والكثرة، وحينئذ فيظهر أنّ تعلّق الوجوب بالأقلّ معلوم تفصيلا، لما عرفت من أنّ الأمر المتعلّق بالمركّب يدعو إلى أجزائـه بعين داعويّتـه إلى المركّب، وحينئذ فلو كان الأكثر متعلّقاً للتكليف يكون الأقلّ أيضاً واجباً، بمعنى أنّ الأمر يدعو إليـه، كما أنّـه لو كان الأقلّ كذلك يكون واجباً حينئذ، فوجوب الأقلّ معلوم تفصيلا، والشكّ بالنسبـة إلى الزائد شكّ بدوي يجري فيـه البراءة، كما عرفت.
ومنها:
ما أفاده المحقّق الخراساني (قدس سره)
في الكفايـة من أنّ الانحلال مستلزم للخلف أو المحال الذي هو عبارة عن استلزام وجود الشيء لعدمـه(3).
أمّا الخلف، فلأنّـه يتوقّف لزوم الأقلّ فعلا إمّا لنفسـه أو لغيره على تنجّز التكليف مطلقاً ولو كان متعلّقاً بالأكثر، ضرورة أنّه لو لم يتنجّز على تقدير تعلّقه به
- 1 ـ هداية المسترشدين: 441.
- 2 ـ تقدّم في الصفحـة 179.
- 3 ـ كفايـة الاُصول: 413.
(الصفحة 190)
لم يكن الأقلّ واجباً بالوجوب الغيري، لأنّـه تابع لوجوب ذي المقدّمـة، ومع عدمـه لا مجال لـه، كما أنّـه لو لم يتنجّز على تقدير تعلّقـه بالأقلّ لم يكن واجباً بالوجوب النفسي، فوجوبـه الأعمّ من النفسي والغيري يتوقّف على تنجّز التكليف على أيّ تقدير، فلو كان لزومـه كذلك موجباً لعدم تنجّز التكليف إلاّ على تقدير تعلّقـه بالأقلّ يلزم الخلف.
وأمّا استلزام وجوده للعدم، فلأنّ لزوم الأقلّ على الفرض يستلزم عدم تنجّز التكليف على كلّ حال، وهو يستلزم لعدم لزوم الأقلّ مطلقاً، وهو يستلزم عدم الانحلال، فلزم من وجود الإنحلال عدمـه، وما يلزم من وجوده عدمـه فهو محال، هذا.
ويمكن هنا تقريب ثالث زائد على التقريبين المذكورين في كلام المحقّق الخراساني، وهو أنّ العلم التفصيلي لو تولّد من العلم الإجمالي بحيث كان معلولا لـه ومسبّباً عنـه لا يعقل أن يوجب انحلال ذاك العلم الإجمالي، وهل يمكن أن يؤثّر المعلول في عدم علّتـه؟
والمقام من هذا القبيل، فإنّ العلم التفصيلي بوجوب الأقلّ إمّا لنفسـه أو لغيره إنّما نشأ من العلم الإجمالي بوجوب الأقلّ أو الأكثر، كما هو واضح، نظير ما إذا تردّد أمر الوضوء مثلا بين كون وجوبـه نفسيّاً أو غيريّاً ناشئاً من الوجوب المتعلّق بما يكون الوضوء مقدّمـة لـه، ولكن كان وجوب ذي المقدّمـة مشكوكاً، فإنّـه لا يعقل أن يصير العلم التفصيلي بوجوب الوضوء على أيّ تقدير موجباً لانحلال العلم الإجمالي بوجوب الوضوء نفسيّاً أو بوجوب ما يكون هو مقدّمـة لـه، لأنّ مع الانحلال وإجراء البراءة بالنسبـة إلى وجوب ذي المقدّمـة لا يكون العلم التفصيلي باقياً على حالـه، فالعلم التفصيلي المسبّب عن العلم الإجمالي
(الصفحة 191)
يستحيل أن يؤثّر في انحلالـه، هذا.
ولكن هذه التقريبات الثلاثـة إنّما يتمّ بناءً على مبنى فاسد، وهو القول بكون الأجزاء في المركّبات واجبـة بالوجوب الغيري كالمقدّمات الخارجيّـة، ونحن وإن أنكرنا وجوب المقدّمـة والملازمـة بينـه وبين وجوب ذيها رأساً، كما مرّ تحقيقـه في مبحث مقدّمـة الواجب من مباحث الألفاظ(1)، إلاّ أنّـه لو سلّمنا ذلك في المقدّمات الخارجيّـة فلا نسلّم في المقدّمات الداخليـة أصلا، بل قد عرفت أنّ الأجزاء واجبـة بعين وجوب الكلّ، والأمر المتعلّق بـه يدعو إليها بعين دعوتـه إليـه، إذ لا مغايرة بينها وبينـه أصلا، لأنّ المركّب ليس أمراً وراءها بل هو نفسها. وحينئذ فالأقلّ واجب بالوجوب الأصلي النفسي تفصيلا ولا يكون هذا العلم التفصيلي مسبّباً عن العلم الإجمالي، فلا مانع من التأثير في الانحلال، بل قد عرفت أنّـه ليس هنا إلاّ علم تفصيلي وشكّ بدوي، كما لايخفى.
ومنها:
ما أورده على نفسـه الشيخ المحقّق الأنصاري في الرسالـة(2)بقولـه: «إن قلت» وتقريره: أنّ الأوامر والنواهي الشرعيّـة تابعـة للمصالح والمفاسد النفس الأمريّـة، كما اشتهر ذلك بين العدليّـة، حيث يقولون: إنّ الواجبات الشرعيّـة إنّما وجبت لكونها ألطافاً في الواجبات العقليّـة، فاللطف والمصلحـة النفس الأمريّـة إمّا هو المأمور بـه حقيقةً، والأوامر المتعلّقة بمثل الصلاة والصوم ونظائرهما أوامر إرشاديّـة والغرض منها الإرشاد إلى عدم حصول المأمور بـه حقيقـة إلاّ بمثلها، وإمّا أنّـه غرض للآمر. وعلى كلا التقديرين فيجب
- 1 ـ تقدّم في الجزء الأوّل: 16 ـ 17.
- 2 ـ فرائد الاُصول 2: 461.
(الصفحة 192)
تحصيل العلم بحصول اللطف لعدم العلم بإتيان المأمور بـه على الأوّل وبحصول الغرض على الثاني مع الاقتصار على الأقلّ في مقام الامتثال. ومن الواضح عند العقول لزوم العلم بإتيان المأمور بـه وبحصول الغرض، أمّا الأوّل فبديهي، وأمّا الثاني فلأنّ الغرض إنّما هو العلّـة والداعي للأمر، ومع الشكّ في حصولـه يشكّ في سقوط الأمر. فمرجع الشكّ فيـه إلى الشكّ في الإتيان بالمأمور بـه المسقط للأمر، وقد عرفت أنّ لزوم العلم بإتيانـه من الواضحات عند العقول، هذا.
ولا يخفى أنّ المحقّق الخراساني (قدس سره)
اعتمد في الكفايـة(1) على هذا الكلام وردّ ما أجاب بـه عنـه الشيخ (قدس سره)
في الرسالـة، هذا.
والتحقيق في الجواب عن هذا الإشكال أن يقال: إنّ هذه المسألـة ـ وهي أنّ الأوامر والنواهي الشرعيّـة هل هي تابعـة للمصالح والمفاسد النفس الأمريّـة أم لا ـ مسألـة كلاميّـة، ومنشأ البحث فيها مسألـة اُخرى كلاميّـة أيضاً، وهي أنّـه هل يمتنع على اللّه الإرادة الجزافيّـة، فلا يجوز عليـه الفعل من دون غرض كما عليـه العدليّـة، أو أنّـه لا يمتنع عليـه تعالى ذلك، بل يجوز منـه الإرادة الجزافيّـة والفعل من دون غرض ومصلحـة، كما عليـه الأشاعرة.
فظهر أنّـه بناءً على مذهب العدليّـة لابدّ من الالتزام بعدم كون الأفعال الاختياريّـة الصادرة من اللّه تعالى خالياً من الغرض والمصلحـة، أمّا أنّـه لابدّ من أن يكون المأمور بـه حقيقـة هو نفس تلك المصلحـة والغرض، أو يكون الغرض أمـراً آخـر مترتّباً على المأمـور بـه فلا يستفاد مـن ذلك، بل اللازم هـو أن يقال بعدم كون إرادتـه تعالى المتعلّقـة بإتيان المأمور بـه إرادة جزافيّـة غير