(الصفحة 191)
يستحيل أن يؤثّر في انحلالـه، هذا.
ولكن هذه التقريبات الثلاثـة إنّما يتمّ بناءً على مبنى فاسد، وهو القول بكون الأجزاء في المركّبات واجبـة بالوجوب الغيري كالمقدّمات الخارجيّـة، ونحن وإن أنكرنا وجوب المقدّمـة والملازمـة بينـه وبين وجوب ذيها رأساً، كما مرّ تحقيقـه في مبحث مقدّمـة الواجب من مباحث الألفاظ(1)، إلاّ أنّـه لو سلّمنا ذلك في المقدّمات الخارجيّـة فلا نسلّم في المقدّمات الداخليـة أصلا، بل قد عرفت أنّ الأجزاء واجبـة بعين وجوب الكلّ، والأمر المتعلّق بـه يدعو إليها بعين دعوتـه إليـه، إذ لا مغايرة بينها وبينـه أصلا، لأنّ المركّب ليس أمراً وراءها بل هو نفسها. وحينئذ فالأقلّ واجب بالوجوب الأصلي النفسي تفصيلا ولا يكون هذا العلم التفصيلي مسبّباً عن العلم الإجمالي، فلا مانع من التأثير في الانحلال، بل قد عرفت أنّـه ليس هنا إلاّ علم تفصيلي وشكّ بدوي، كما لايخفى.
ومنها:
ما أورده على نفسـه الشيخ المحقّق الأنصاري في الرسالـة(2)بقولـه: «إن قلت» وتقريره: أنّ الأوامر والنواهي الشرعيّـة تابعـة للمصالح والمفاسد النفس الأمريّـة، كما اشتهر ذلك بين العدليّـة، حيث يقولون: إنّ الواجبات الشرعيّـة إنّما وجبت لكونها ألطافاً في الواجبات العقليّـة، فاللطف والمصلحـة النفس الأمريّـة إمّا هو المأمور بـه حقيقةً، والأوامر المتعلّقة بمثل الصلاة والصوم ونظائرهما أوامر إرشاديّـة والغرض منها الإرشاد إلى عدم حصول المأمور بـه حقيقـة إلاّ بمثلها، وإمّا أنّـه غرض للآمر. وعلى كلا التقديرين فيجب
- 1 ـ تقدّم في الجزء الأوّل: 16 ـ 17.
- 2 ـ فرائد الاُصول 2: 461.
(الصفحة 192)
تحصيل العلم بحصول اللطف لعدم العلم بإتيان المأمور بـه على الأوّل وبحصول الغرض على الثاني مع الاقتصار على الأقلّ في مقام الامتثال. ومن الواضح عند العقول لزوم العلم بإتيان المأمور بـه وبحصول الغرض، أمّا الأوّل فبديهي، وأمّا الثاني فلأنّ الغرض إنّما هو العلّـة والداعي للأمر، ومع الشكّ في حصولـه يشكّ في سقوط الأمر. فمرجع الشكّ فيـه إلى الشكّ في الإتيان بالمأمور بـه المسقط للأمر، وقد عرفت أنّ لزوم العلم بإتيانـه من الواضحات عند العقول، هذا.
ولا يخفى أنّ المحقّق الخراساني (قدس سره)
اعتمد في الكفايـة(1) على هذا الكلام وردّ ما أجاب بـه عنـه الشيخ (قدس سره)
في الرسالـة، هذا.
والتحقيق في الجواب عن هذا الإشكال أن يقال: إنّ هذه المسألـة ـ وهي أنّ الأوامر والنواهي الشرعيّـة هل هي تابعـة للمصالح والمفاسد النفس الأمريّـة أم لا ـ مسألـة كلاميّـة، ومنشأ البحث فيها مسألـة اُخرى كلاميّـة أيضاً، وهي أنّـه هل يمتنع على اللّه الإرادة الجزافيّـة، فلا يجوز عليـه الفعل من دون غرض كما عليـه العدليّـة، أو أنّـه لا يمتنع عليـه تعالى ذلك، بل يجوز منـه الإرادة الجزافيّـة والفعل من دون غرض ومصلحـة، كما عليـه الأشاعرة.
فظهر أنّـه بناءً على مذهب العدليّـة لابدّ من الالتزام بعدم كون الأفعال الاختياريّـة الصادرة من اللّه تعالى خالياً من الغرض والمصلحـة، أمّا أنّـه لابدّ من أن يكون المأمور بـه حقيقـة هو نفس تلك المصلحـة والغرض، أو يكون الغرض أمـراً آخـر مترتّباً على المأمـور بـه فلا يستفاد مـن ذلك، بل اللازم هـو أن يقال بعدم كون إرادتـه تعالى المتعلّقـة بإتيان المأمور بـه إرادة جزافيّـة غير
(الصفحة 193)
ناشئـة من المصلحـة في المراد. وهو كما يتحقّق بأحد الأمرين المذكورين، كذلك يتحقّق بأن يكون المأمور بـه الذي هو عبارة عن مثل الصلاة والصوم والحجّ بنفسـه مصلحةً ومحبوباً; لأنّـه لا فرق في عدم كون الإرادة جزافيّـة بين أن تكون الصلاة مؤثِّرة في حصول غرض ومصلحـة وهي معراج المؤمن كما قيل، أو أن تكون بنفسها محبوبـة ومصلحـة، لاشتمالها على التهليل والتكبير والتسبيح مثلا، كما أنّـه يتحقّق ذلك بأن تكون المصلحـة في نفس الأمر لا في المأمور بـه.
وبالجملـة: فمقتضى مذهب العدليّـة أنّـه لابدّ أن يكون في البين غرض وغايـة ومصلحـة ولطف، أمّا لزوم أن يكون هو متعلّق الأمر بحيث كانت الأوامر المتعلّقـة بمثل الصلاة والصوم إرشاداً إليـه أو أن يكون أمراً آخر وراء المأمور بـه فلا، فمن المحتمل أن يكون نفس المأمور بـه محبوباً بذاتـه وغايـة بنفسـه، أو يكون الغرض في نفس الأمر، وعلى هذين التقديرين لا وجـه للاحتياط بالإتيان بالأكثر.
أمّا على التقدير الأوّل: فلأنّ محبوبيـة الأقلّ معلومـة، ولم يقم دليل على محبوبيـة الخصوصيّـة الزائدة، والعقل يحكم بعدم جواز العقوبـة عليها مع عدم قيام الحجّـة عليها، كما أنّـه على التقدير الثاني حصل الغرض بمجرّد الأمر والبعث ولا يكون المكلّف مأخوذاً بأزيد ممّا قام الدليل على لزوم الإتيان بـه.
هذا كلّـه مضافاً إلى أنّـه لو فرض كون الغرض مترتّباً على المأمور بـه نمنع لزوم العلم بحصولـه، لأنّ المكلّف إنّما هو مأخوذ بالمقدار الذي ورد البيان من قبل المولى على دخالتـه في المأمور بـه، ومع الإتيان بـه لا معنى لعقوبتـه وإن كان شاكّاً في حصول الغرض، لأنّ الأمر لم يتعلّق بتحصيل الغرض بل تعلّق بالأجزاء التي يعلم بانحلال المركّب إليها، وتعلّقـه بالزائد مشكوك يحكم العقل
(الصفحة 194)
بالبراءة عنـه. كيف ولو كان اللازم العلم بحصول الغرض لم يحصل العلم بامتثال كثير من المركّبات الشرعيّـة، إذ ما من مركّب إلاّ ونحتمل دخالـة أمر آخر فيـه شطراً أو شرطاً واقعاً وإن لم يصل إلينا دليلـه، كما هو واضح، فاللازم بحسب نظر العقل هو العلم بإتيان المأمور بـه الذي قامت الحجّـة عليـه وهو يحصل بإتيان الأقلّ، فتدبّر.
ومنها:
ما يختصّ بالواجبات التعبّديـة ولا يجري في التوصّليات، وهو أنّـه لابدّ فيها من قصد التقرّب، وهو لا يكون إلاّ بالواجب النفسي، لأنّ الواجب الغيري لا يكون مقرّباً، وحينئذ فمع الاقتصار على الأقلّ لا يكاد يمكن قصد التقرّب، لأنّـه يحتمل أن يكون الواجب في الواقع هو الأكثر وكان الأقلّ واجباً غيريّاً، وهذا بخلاف ما إذا أتى بالأكثر، فإنّـه يقطع بكونـه مقرّباً إمّا بنفسـه، وإمّا بالأقلّ المتحقّق في ضمنـه.
والتحقيق في الجواب أن يقال: أمّا أوّلا، فلأنّ المعتبر في العبادات أن لا يكون الإتيان بها بداع نفساني، بل بداع إلهي اُخروي. ومن المعلوم أنّـه لافرق في ذلك بين الإتيان بالأقلّ أو بالأكثر، ضرورة أنّ الآتي بالأقلّ لا يكون الداعي لـه إلى الإتيان بـه إلاّ أمر إلهي. نعم لا يعلم بكون المأتي بـه هو المأمور بـه، كما أنّ الآتي بالأكثر أيضاً لا يعلم بذلك.
وبالجملـة: لا فرق بين الإتيان بالأقلّ أو بالأكثر في إمكان قصد التقرّب الذي مرجعـه إلى الإتيان بالعمل لا لداع نفساني من رياء وغيره، وكذا في عدم العلم بكون ما يأتي بـه هو المأمور بـه.
وأمّا ثانياً: فلأنّ مبنى الإشكال على كون الأقلّ واجباً بالوجوب الغيري على تقدير كون متعلّق التكليف هو الأكثر، وقد عرفت غير مرّة منع ذلك وأنّ
(الصفحة 195)
الأجزاء واجبـة بعين وجوب المركّب، والأمر المتعلّق بـه يدعو إلى الأجزاء بعين دعوتـه إليـه، وحينئذ فالأقلّ واجب بالوجوب النفسي على التقديرين.
وبالجملـة: لا فرق في الداعي بين القائل بالبراءة والقائل بالاشتغال، فإنّ الداعي بالنسبـة إليهما هو الأمر المتعلّق بإقامـة الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل. غايـة الأمر أنّـه لا يصلح للداعويّـة في نظر القائل بالبراءة إلاّ بالنسبـة إلى ما علم انحلال الصلاة إليـه من الأجزاء، كما أنّـه في نظر القائل بالاشتغال يدعو إلى جميع ما تنحلّ إليـه واقعاً ولو كان هو الأكثر، ولذا لا يتحقّق العلم بامتثالـه إلاّ بالإتيان بـه. فلا اختلاف للداعي بالنسبـة إليهما، فيجوز الإتيان بالأقلّ بداعي الأمر المتعلّق بالصلاة بلاريب ولا يوجب ذلك قدحاً في عباديّتها أصلا، كما هو واضح لا يخفى.
هذا كلّـه في البراءة العقليّـة، وقد عرفت جريانها وعدم ورود شيء من الإشكالات الثمانيـة المتقدّمـة عليها.
في جريان البراءة الشرعيّة في المقام
وأمّا البراءة الشرعيّـة: فالظاهر أنّـه لا مانع من جريانها بناءً على ما هو مقتضى التحقيق من انحلال العلم الإجمالي إلى العلم التفصيلي بوجوب الأقلّ والشكّ في وجوب الأكثر، كما عرفت. وذلك لأنّ الأقلّ معلوم وجوبـه النفسي تفصيلا والأكثر مشكوك، فيكون مرفوعاً بمثل حديث الرفع(1)، ولا فرق في ذلك
- 1 ـ الخصال: 417 / 9، وسائل الشيعـة 15: 369، كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، الباب56، الحديث1.