(الصفحة 206)
وأمّا من جهـة أصل وجود ما هو المناط في جريان البراءة من ثبوت القدر المتيقّن فلا فرق بينها أصلا.
وأمّا ما أفاده المحقّق النائيني من وجوب الاحتياط فيما إذا كان الأقلّ والأكثر من قبيل الجنس والنوع، لأنّ الترديد بينهما وإن كان يرجع بالتحليل العقلي إلى الأقلّ والأكثر، إلاّ أنّـه خارجاً بنظر العرف يكون من الترديد بين المتباينين; لأنّ الإنسان بما لـه من المعنى المرتكز في الذهن مباين للحيوان عرفاً، فلو علم إجمالا بوجوب إطعام الإنسان أو الحيوان فاللازم هو الاحتياط بإطعام خصوص الإنسان;لأنّ ذلك جمع بين الأمرين، فإنّ إطعام الإنسان يستلزم إطعام الحيوان أيضاً(1).
فيرد عليـه أوّلا: أنّ التنافي بين الحيوان والإنسان بنظر العرف لو سلّم لا يوجب تعميم الحكم لمطلق ما إذا دار الأمر بين الجنس والنوع، فمن الممكن أن لا يكون بعض الأنواع منافياً لجنسـه بنظر العرف أيضاً.
وثانياً: لو سلّم التنافي فمقتضى القاعدة الحاكمـة بوجوب الاحتياط الجمع بين الجنس والنوع بإطعام الحيوان والإنسان معاً في المثال، لا الاقتصار على إطعام الإنسان فقط. وما أفاده من أنّ إطعام الإنسان يستلزم إطعام الحيوان أيضاً رجوع عمّا ذكره أوّلا من المباينـة بينهما بنظر العرف، فإنّ استلزامـه لذلك إنّما هو بملاحظـة التحليل العقلي لا النظر العرفي، كما لايخفى.
ثمّ إنّك عرفت ممّا تقدّم أنّ تمام المناط لجريان البراءة هو وجود القدر المتيقّن في البين، بلا فرق بين أن تكون الخصوصيّـة المشكوكـة من قبيل
- 1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4: 208.
(الصفحة 207)
الخصوصيّات المنوّعـة أو المفرّدة، أو من الخصوصيّات العرضيّـة، بل قد عرفت أوضحيّـة الجريان في القسم الثاني.
كما أنّـه لا فرق فيـه ـ أي في القسم الثاني ـ بين أن يكون القيد المشكوك فيـه بحيث يمكن اتّصاف كلّ فرد من أفراد الطبيعي بـه كالقيام والقعود والإيمان والعدالـة، وبين ما لم يكن كذلك كالهاشميّـة ونحوها.
كما أنّـه لا فرق أيضاً بين أن يكون النوع المأخوذ متعلّقاً للتكليف بنحو كان الجنس مأخوذاً في ضمنـه أيضاً كالحيوان الناطق أو لم يكن كذلك كالإنسان. والسرّ في الجريان في الجميع اشتراكـه فيما هو المناط.
وأمّا ما أفاده المحقّق العراقي من التفصيل في الخصوصيّات العرضيّـة بين قسميها لجريان البراءة في القسم الأوّل دون الثاني(1)، فإنّما هو مبني على الأصل الذي زعمـه من الاختلاف بين الحصص وكون الحصّـة الواجدة لخصوصيّـة الهاشميّـة مغايرة للحصّـة الفاقدة لها، فدوران الأمر بين خصوص تلك الحصّـة والجامع بينها وبين الفاقد من قبيل الدوران بين التعيـين والتخيـير، ولكن عرفت أنّ ذلك بمكان من البطلان.
فتحصّل من جميع ما ذكرناه في المطلبين أنّ الحقّ جريان البراءة في جميع موارد الدوران بين الأقلّ والأكثر.
- 1 ـ نهايـة الأفكار 3: 399.
(الصفحة 208)
المطلب الثالث
في دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر في الأسباب والمحصّلات
وفي جريان البراءة فيها مطلقاً، وعدم جريانها كذلك، والتفصيل بين ما لو كانت الأسباب عاديّـة أو عقليّـة، وبين ما لو كانت شرعيّـة، أو بين ما لو قيل بكون العلم الإجمالي مقتضياً فتجري، أو علّـة تامّـة فلا تجري، أو بين أن يكون العنوان البسيط الذي هو المأمور بـه ذا مراتب متفاوتـة متدرّج الحصول والتحقّق، وبين ما إذا كان دفعي الحصول والتحقّق عند تحقّق الجزء الأخير من علّتـه، بالجريان في الصورة الاُولى وعدمـه في الصورة الثانيـة، وجوه بل أقوال خمسـة.
وليعلم أوّلا: أنّ مركز البحث ومورد النزاع بينهم هو ما إذا كان المسبّب الذي هو مورد تعلّق الأمر معلوماً بجميع خصوصيّاتـه بحيث لم يكن فيـه ترديد أصلا، بل كان الترديد في السبب المحقّق لـه من حيث مدخليّـة جزء أو شرط في سببيّتـه وترتّب المسبّب عليـه. وأمّا لو كان المسبّب أيضاً مشكوكاً بحيث دار أمره بين السعـة والضيق فهو خارج عن البحث في هذا المقام وداخل في المباحث المتقدّمـة.
وحينئذ فيظهر أنّ الوجـه الأخير الذي اختاره المحقّق العراقي ـ على ما في تقريرات بعض تلامذتـه(1) الراجع إلى التفصيل بين ما لو كان المسبّب عنواناً بسيطاً ذا مراتب متفاوتـة ومتدرّج الحصول وبين ما إذا كان دفعي الحصول، خارج
- 1 ـ نهايـة الأفكار 3: 401.
(الصفحة 209)
عن مورد البحث. فإنّـه لو كان العنوان البسيط ذا مراتب متفاوتـة، فتارة يكون الشكّ في مدخليّـة خصوصيّـة في تحقّق ذلك الأمر البسيط، كما لو فرض الشكّ في اعتبار النيّـة في غسل البدن الذي يؤثّر في حصول الطهارة المأمور بها، واُخرى يكون الشكّ في نفس ذلك الأمر البسيط وأنّـه بأيّـة مرتبـة تعلّق بـه الأمر، فعلى الأوّل لا فرق بينـه وبين ما إذا كان دفعي الحصول أصلا. وعلى الثاني وإن كان بين الصورتين فرق من حيث جريان البراءة وعدمـه، إلاّ أنّ الصورة الاُولى بناءً على هذا لا تكون داخلـة في محلّ البحث، كما عرفت.
إذا ظهر لك ذلك فاعلم: أنّ الأقوى وجوب الاحتياط مطلقاً; لأنّـه بعد تنجّز التكليف وعدم كون المكلّف معذوراً في مخالفتـه من جهـة العلم بـه وبمتعلّقـه يحكم العقل حكماً بتّياً بلزوم العلم بالفراغ عن عهدتـه بالإتيان بكلّ ما يحتمل دخلـه في سببيّـة السبب وترتّب المسبّب عليـه جزءً أو شرطاً، وليس الاقتصار على الأقلّ ـ الذي لا يوجب الإتيان بـه إلاّ مجرّد احتمال تحقّق الامتثال والإتيان بالمأمور بـه ـ إلاّ كالاقتصار على احتمال الإتيان بالمأمور بـه فيما لو احتمل أنّـه لم يأت بشيء من أجزائـه وشرائطـه أصلا.
ومن المعلوم أنّ مقتضى حكم العقل فيـه لزوم إحراز الامتثال، ألا ترى أنّـه لا يكفي لمن احتمل أنّـه لم يصلّ أصلا مجرّد احتمال أنّـه صلّى. نعم بعد خروج الوقت دلّ الدليل النقلي على عدم الاعتناء بهذا الاحتمال في خصوص الصلاة.
ودعوى:
أنّـه بعد الإتيان بما علم مدخليّتـه في السبب لا يعلم ببقاء الأمر حينئذ حتّى يجب عليـه الإتيان بالقيد المشكوك، ضرورة أنّـه يحتمل أن يكون المأتي بـه تمام السبب.
مدفوعـة
بأنّ هذا الاحتمال متحقّق في جميع موارد قاعدة الاشتغال، كما
(الصفحة 210)
هو واضح. والمناط في جريانها هو العلم بتعلّق الأمر وكون المتعلّق معلوماً أيضاً وشكّ في فراغ ذمّتـه عنـه.
وبالجملـة: بعدما علّق الأمر مخلبـه وقامت الحجّـة من المولى على ثبوتـه وعلى تعيـين المكلّف بـه، لا يكون مفرّ من لزوم العلم بتحقّقـه وحصول الامتثال، وهو يقتضي وجوب الاحتياط; بلا فرق بين أن تكون الأسباب عاديّـة أو عقليّـة أو شرعيّـة، وكذا بين أن نقول باقتضاء العلم الإجمالي لوجوب الموافقـة القطعيـة أو بكونـه علّـة تامّـة، ولا بين أن نقول بإمكان جعل السببيّـة وكذا الجزئيـة والشرطيـة، أو لا نقول بذلك.
ولا فرق أيضاً فيما ذكرنا بين أن نقول بأنّ عدم المأمور بـه المنهي عنـه حسب اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن النقيض متكثّر حسب تكثّر أجزاء محقّقـة، لأنّـه ينعدم بانعدام كلّ واحد منها، أو نقول بأنّـه ليس للمأمور بـه إلاّ عدم واحد، إذ كما أنّـه لا يكون لـه إلاّ وجود واحد كذلك لا يكون لـه إلاّ عدم واحد، وقد مرّت الإشارة إلى ذلك في بعض المقدّمات التي مهّدناها لجريان البراءة في الأقلّ والأكثر في الأجزاء، فراجع(1).
أمّا على القول الثاني: فواضح، لأنّ المنهي عنـه إنّما هو عدم واحد، ولايعلم بتركـه وحصول الامتثال إلاّ بالإتيان بكلّ ما يحتمل دخلـه في المحقّق ـ بالكسر ـ شطراً أو شرطاً، إذ مع الاقتصار على المقدار المعلوم لا يعلم بتحقّق المأمور بـه حتّى يعلم بامتثال النهي بترك المنهي عنـه.
وأمّا على القول الأوّل: فقد يقال بأنّـه لا مانع حينئذ من جريان البراءة،
- 1 ـ تقدّم في الصفحـة 176.