(الصفحة 21)
تصحّ نيّـة القربـة، مع أنّ الأمر ليس كذلك، فإنّ قصد الأمر وإن كان يمكن أن يؤخذ في متعلّق الأمر ـ كما عرفت ذلك في مبحث التعبّدي والتوصّلي ـ إلاّ أنّـه لم يقع ذلك في الخارج، والأمر لا يدعو إلاّ إلى متعلّقـه، وحينئذ فيمكن الإتيان بـه بجميع ما اعتبر فيـه برجاء كونـه مقرّباً ومحبوباً، لأنّـه لا يعتبر الجزم بكون المأتي بـه مأموراً بـه ومقرّباً، بل يكفي الإتيان بـه برجاء ذلك وإن كان قادراً على تحصيل العلم.
وما يتوهّم من عدم كفايـة الامتثال الاحتمالي مع القدرة على الامتثال العلمي، مدفوع بعدم قيام الدليل على ذلك، كما لايخفى.
وأمّا الإشكال الثاني: فيدفعـه أنّ الانبعاث لا يعقل أن يكون مستنداً إلى نفس بعث المولى بحيث يكون وجوده وتحقّقـه في الواقع مؤثّراً في حصول الانبعاث، وإلاّ لزم أن لا ينفكّ عنـه، مع أنّ الوجدان يقضي بخلافـه بعد ملاحظـة العصاة، وكذلك يلزم أن لا يتحقّق الانبعاث بدونـه، مع أنّا نرى تحقّقـه بالنسبـة إلى الجاهل المركّب، فلا يدور الانبعاث وعدمـه مدار وجود البعث وعدمـه.
فالحقّ أنّ الانبعاث إنّما يكون مستنداً إلى الاعتقاد بوجود البعث، لا بنحو يكون للصورة الاعتقاديّـة مدخليّـة في تحقّقـه بحيث لا يمكن أن يتحقّق بدونها، بل الغرض نفي مدخليّـة البعث بوجوده الواقعي ولو بنحو الجزئيـة، وحينئذ فالآتي بالفعل بداعي احتمال تعلّق الأمر بـه أيضاً مطيع.
اللهمّ إلاّ أن يقال: إنّ في صورة العلم بوجود البعث يكون الانبعاث مستنداً إلى نفس البعث، لأنّـه نال الواقع ووصل إليـه بالعرض، وهذا بخلاف صورة الاحتمال، فإنّ الانبعاث فيها لا محالـة يكون مستنداً إلى الاحتمال الذي لايكون لـه كاشفيـة بوجـه، وهذا هو الفارق بينهما في صدق الإطاعـة
(الصفحة 22)
والامتثال، فإنّ المحرّك والداعي في الصورة الاُولى هو الواقع المنكشف، وفي الصورة الثانيـة هو نفس الاحتمال.
والذي يسهّل الخطب: أنّ ذلك كلّـه مبني على اعتبار تحقّق الإطاعـة والامتثال في صحّـة العبادة، مع أنّـه لم يدلّ على ذلك دليل، فإنّـه لا يعتبر فيها أزيد من الإتيان بها بداعي كونها مقرّبـة ومحبوبـة لـه تعالى أو برجاء ذلك، وصحّتها على الوجـه الثاني لا تـتوقّف على تعذّر الوجـه الأوّل المتوقّف على العلم بأمر الشارع تفصيلا أو إجمالا.
وما أفاده بعض الأعاظم على ما في تقريرات بحثـه من أنّ للامتثال مراتب أربعـة بحسب نظر العقل، آخرها الامتثال الاحتمالي ولا يحسن إلاّ عند تعذّر سائر المراتب(1)، ممّا لا يعرف لـه وجـه، وقد عرفت شطراً من الكلام على ذلك في مبحث القطع.
تصحيح الاحتياط في العبادات بالأمر المتعلّق بنفس الاحتياط
ثمّ إنّـه لو قيل بعدم إمكان الاحتياط في العبادات في الشبهات البدويّـة; لاحتياج ذلك إلى ثبوت الأمر من ناحيـة المولى، فهل يمكن تصحيح ذلك بالأمر المتعلّق بنفس الاحتياط في مثل قولـه (عليه السلام):
«أخوك دينك فاحتط لدينك»(2)؟
قد يقال: نعم. ولكنّ التحقيق العدم; لأنّ شمول مثل ذلك القول للعبادات
- 1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 69 و400.
- 2 ـ الأمالي، الشيخ الطوسي: 110 / 168، وسائل الشيعـة 27: 167، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب12، الحديث46.
(الصفحة 23)
في الشبهات البدويّـة متفرّع على إمكان الاحتياط فيها; لأنّ شمول الحكم فرع تحقّق موضوعـه، فإثبات إمكان الاحتياط فيها بمثل ذلك القول دور واضح، كما لايخفى.
نعم، قد يقال في توجيـه ذلك بأنّ الأمر بالاحتياط قد تعلّق بذات العمل الذي يحتمل وجوبـه، لا بالعمل بقيد أنّـه محتمل الوجوب بحيث يكون احتمال الوجوب قيداً في المأمور بـه، بل متعلّق الأمر نفس العمل الذي يحتمل وجوبـه، فإن كان توصّلياً، يكفي الإتيان بـه بلا قصد الأمر المتعلّق بـه، وإن كان عباديّاً ـ أي كان بحيث لو تعلّق الأمر بـه لكان أمره عباديّاً ـ فلابدّ من قصد الأمر الذي تعلّق بـه وهو الأمر بالاحتياط الذي فرض تعلّقـه بذات العمل، فينوي التقرّب بـه ويقصد امتثالـه.
هذا، ولكن لايخفى أنّ الأمر المتعلّق بالاحتياط إنّما تعلّق بعنوان الاحتياط، ولا يعقل أن يتجاوز عنـه ويسري إلى ذات العمل الذي لـه عنوان آخر كالصلاة ونظائرها، ومجرّد أنّ تحقّق هذا العنوان في الخارج إنّما هو بإيجاد ذلك العنوان لايوجب سرايـة الأمر إليـه بعد وضوح تغايرهما في عالم المفهوميّـة وعدم كون الخارج ظرفاً لتعلّق الأمر وثبوتـه، وقد حقّقنا ذلك بما لا مزيد عليـه في مبحث اجتماع الأمر والنهي فراجع.
ثمّ إنّ المحقّق النائيني أجاب
عن هذا التوجيـه على ما في تقريرات بحثـه بما ملخّصـه: أنّ الأمر بالعمل إمّا أن يكون بنفسـه عباديّاً ـ أي كان الغرض من الأمر التعبّد والتقرّب بـه ـ كالأمر المتعلّق بالصلاة، وإمّا أن يكتسب العباديّـة من أمر آخر لأجل اتّحاد متعلّقهما، كوجوب الوفاء بالنذر، فإنّ الأمر بالوفاء بالنذر
(الصفحة 24)
لا يكون عباديّاً، بل هو كسائر الأوامر التوصليّـة، ولكن لو تعلّق النذر بما يكون عبادة كنذر صلاة الليل يكتسب الأمر بالوفاء بالنذر العباديّـة من الأمر بصلاة الليل، كما أنّ الأمر بصلاة الليل يكتسب الوجوب من الأمر بالوفاء.
والسرّ أنّ النذر إنّما يتعلّق بذات صلاة الليل، لا بها بما أنّها مستحبّـة، وإلاّ كان النذر باطلا; لعدم القدرة على وفائـه، فإنّها تصير بالنذر واجبـة، فلابدّ وأن يتعلّق النذر بذات صلاة الليل، والأمر الاستحبابي أيضاً تعلّق بها لا بوصف كونها مستحبّـة، كما هو واضح، فيكون كلّ من الأمر الاستحبابي والأمر بالوفاء بالنذر قـد تعلّق بذات صلاة الليل، ولمكان اتحاد متعلّقهما يكتسب كـلّ منهما مـن الآخر ما كان فاقداً لـه، هذا إذا اتّحد متعلّق الأمرين.
وأمّا إذا لم يتّحد فلا يكاد يمكن أن يكتسب أحـد الأمرين العباديّـة مع كونـه فاقداً لها من الآخر الواجد لها، كالأمر بالوفاء بالإجارة إذا كان متعلّق الإجارة أمراً عباديّاً، كما لو اُوجر الشخص على الصلاة الواجبـة أو المستحبّـة على الغير، فإنّ الأجير إنّما يستأجر لتفريغ ذمّـة الغير، فالإجارة إنّما تـتعلّق بما في ذمّـة المنوب عنـه، ومـا في ذمّـة المنوب عنـه إنّما هـي الصلاة الواجبـة أو المستحبّـة بوصف كونها واجبـة أو مستحبّـة، فمتعلّق الإجارة إنّما تكون الصلاة بقيد كونها مستحبّـة على المنوب عنـه، لا بذات الصلاة بما هي هي، ومتعلّق الأمـر الاستحبابي إنّما هـو نفس الصلاة، فلا يتّحد الأمـر الاستحبابي مع الأمـر الإجاري.
وكيف كـان: فقد عرفت أنّ الأمـر العبادي إمّا أن يكون بنفسـه عبادة، وإمّا أن يكتسب العباديّـة من أمر آخر، والأوامر المتعلّقـة بالاحتياط فاقدة لكلتا
(الصفحة 25)
الجهتين، أمّا الجهـة الاُولى فواضح، وأمّا الجهـة الثانيـة فلأنّ الأمر بالاحتياط لم يتعلّق بذات العمل مرسلا عن قيد كونـه محتمل الوجوب، بل التقيـيد بذلك مأخوذ في موضوع أوامر الاحتياط، وإلاّ لم يكن من الاحتياط بشيء، بخلاف الأمر المتعلّق بالعمل المحتاط فيـه، فإنّـه على تقدير وجوده الواقعي إنّما تعلّق بذات العمل، فلم يتّحد متعلّق الأمرين حتّى يكتسب الأمر بالاحتياط العباديّـة من الأمر المتعلّق بالعمل لو فرض أنّـه كان ممّا تعلّق الأمر العبادي بـه، وقد عرفت أنّـه ما لم يتّحد متعلّق الأمر الغير العبادي مع متعلّق الأمر العبادي لا يمكن أن يصير الأمر الغير العبادي عبادياً(1)، انتهى ملخّصاً.
ولا يخفى ما فيـه
;
فإنّ اكتساب الأمر الغير العبادي العباديّـة من الأمر العبادي نظراً إلى اتّحاد متعلّقهما ممّا لا نتصوّره بعد عدم إمكان اتّحاد متعلّق الأمرين، فإنّـه كيف يعقل تعلّق إرادتين مستقلّتين بأمر واحد وشيء فارد. ولذا لو تعلّق أمران بطبيعـة واحدة لابدّ من جعل الأمر الثاني تأكيداً للأمر الأوّل لو لم يكن المقصود الإتيان بفردين منها; لوضوح استحالـة أن يكون أمراً تأسيسيّاً ناشئاً من إرادة مستقلّـة، فاتّحاد متعلّق الأمرين ممّا لا يعقل. وعلى تقدير الإمكان فاكتساب الأمر الغير العبادي العباديّـة من الأمر الآخر العبادي ممّا لا وجـه لـه بعد كون كلّ من الأمرين لـه مبادئ مخصوصـة ومقدّمات خاصّـة بـه، فإنّ مجرّد اتّحاد المتعلّق لا يوجب سرايـة العباديّـة بعد عدم كون الأمر الناشئ من مقدّماتـه الخاصّـة بـه أمراً عباديّاً كان الغرض التعبّد والتقرّب بـه.
- 1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 403 ـ 406.