(الصفحة 228)
لم يلتفت إلى نسيانـه، بل يرى نفسـه ذاكراً فيقصد الأمر المتوجّـه إليـه بتخيّل أنّـه أمر الذاكر، فيؤول إلى الخطأ في التطبيق، نظير الأمر بالأداء والقضاء في مكان الآخر.
هذا، وأجاب عنـه المحقّق المتقدّم بما حاصلـه: أنّـه يعتبر في صحّـة البعث أن يكون قابلا للانبعاث عنـه، بحيث يمكن أن يصير داعياً لانقداح الإرادة وحركـة العضلات نحو المأمور بـه ولو في الجملـة، وأمّا التكليف الذي لا يصلح لأن يصير داعياً ومحرّكاً للإرادة في وقت من الأوقات فهو قبيح مستهجن.
ومن المعلوم أنّ التكليف بعنوان الناسي غير قابل لأن يصير داعياً لانقداح الإرادة، لأنّ الناسي لا يلتفت إلى نسيانـه في جميع الموارد، فيلزم أن يكون التكليف بما يكون امتثالـه دائماً من باب الخطأ في التطبيق، وهو كما ترى ممّا لايمكن الالتزام بـه، وهذا بخلاف الأمر بالقضاء والأداء، فإنّ الأمر قابل لأن يصير داعياً ومحرِّكاً للإرادة بعنوان الأداء أو القضاء، لإمكان الالتفات إلى كونـه أداءً أو قضاءً.
نعم قد يتّفق الخطأ في التطبيق، وأين هذا من التكليف بما يكون امتثالـه دائماً من باب الخطأ في التطبيق كما فيما نحن فيـه، فقياس المقام بالأمر بالأداء أو القضاء ليس على ما ينبغي(1)، انتهى.
هذا ولكن يرد على هذا الجواب: أنّـه بعد تسليم كون الباعث والمحرِّك للناسي دائماً إنّما هو الأمر الواقعي المتعلّق بالناسي لا مجال لما ذكره، لعدم المانع من كون الخطأ في التطبيق أمراً دائمياً، إذ الملاك هو الانبعاث من البعث
- 1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4: 211 ـ 212.
(الصفحة 229)
المتوجّـه إليـه والمفروض تحقّقـه، لعدم كونـه منبعثاً إلاّ عن الأمر الواقعي المتعلّق بخصوص الناسي، فمع تسليم باعثيّـة ذلك الأمر لا موقع لهذا الإشكال، كما هو واضح.
نعم يرد على هذا البعض المجيب عن إشكال الشيخ: منع كون المحرّك للناسي هو الأمر الواقعي المتعلّق بعنوانـه، بل المحرّك لـه إنّما هو الأمر المتوجّـه إلى الذاكر، لكونـه لا يرى نفسـه إلاّ ذاكراً، ضرورة أنّـه لو فرض عدم ذلك الأمر في الواقع لكان الناسي أيضاً متحرّكاً، فوجود ذلك الأمر وعدمـه سواء، وهذا دليل على أنّ المحرّك لـه إنّما هو الأمر المحرّك للذاكر الواقعي بلا فرق بينهما من هذه الجهـة أصلا.
نعم قد عرفت: أنّ تكليفـه بماعدا الجزء المنسي لا يتوقّف على أخذ الناسي عنواناً للمكلّف بتكليف آخر خاصّ بـه، بل يمكن التوصّل إلى هذا المطلوب بالأمر الواحد المتعلّق بطبيعـة الصلاة المشتركـة بين التامّ والناقص كما مرّ، فتدبّر جيّداً.
ردّ تفصيل المحققّ النائيني بين استيعاب النسيان لجميع الوقت وعدمه
ثمّ إنّـه قد مرّت الإشارة إلى أنّ محـلّ الكلام في جـريان البراءة العقليّـة فـي المقام هو ما إذا لم يكن لشيء مـن دليلي المركّب والأجـزاء إطـلاق، وإلاّ فلا مجال لها أصلا، كما هو واضح. ومع عدم ثبوت الإطلاق لا فرق في جريانها بين كون النسيان مستوعباً لجميع الوقت أو لم يكن كذلك، خلافاً لما صرّح بـه المحقّق النائيني مـن التفصيل، بيـن الصورتين حيث إنّـه بعـد اختيار جـريان البراءة قال ما ملخّصـه:
(الصفحة 230)
إنّ أقصى ما تقتضيـه أصالـة البراءة هو رفع الجزئيـة في حال النسيان فقط، ولا تقتضي رفعها في تمام الوقت إلاّ مع استيعاب النسيان لتمام الوقت، فلو تذكّر في أثنائـه بمقدار يمكنـه إيجاد الطبيعـة بتمام ما لها من الأجزاء فأصالـة البراءة عن الجزء المنسي في حال النسيان لا تقتضي عدم وجوب الفرد التامّ في ظرف التذكّر، بل مقتضى إطلاق الأدلّـة وجوبـه، لأنّ المأمور بـه هو صرف وجود الطبيعـة التامّـة الأجزاء والشرائط في مجموع الوقت، ويكفي في وجوب ذلك التمكّن من إيجادها كذلك ولو في جزء من الوقت، ولا يعتبر التمكّن من ذلك في جميع الآنات.
والحاصل أنّ رفع الجزئيّـة في حال النسيان لا يلازم رفعها في ظرف التذكـر، لأنّ الشكّ فـي الأوّل يرجـع إلى ثبوت الجزئيّـة في حـال النسيان، وفي الثاني يرجع إلى سقوط التكليف بالجزء في حال الذكر، والأوّل مجرى البراءة، والثاني مجـرى الاشتغال. هـذا إذا لم يكن ذاكـراً فـي أوّل الوقت ثمّ عـرض لـه النسيان في الأثناء، وإلاّ فيجـري استصحاب التكليف الثابت عليـه فـي أوّل الـوقت، للشـكّ فـي سقـوطـه بسبب النسيـان الطـارئ الـزائـل فـي الوقت(1)، انتهى.
وفيـه :
أنّك عرفت أنّ محلّ الكلام هو ما إذا لم يكن للدليل المثبت للجزئيـة إطلاق، وإلاّ فلا مجال لأصالـة البراءة العقليّـة مطلقاً، ومع عدم الإطلاق، كما هو المفروض نقول: لاموقع لهذا التفصيل، لأنّ الناسي في حال النسيان لا إشكال في عدم كونـه مكلّفاً بالمركّب التامّ المشتمل على الجزء
- 1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4: 220 ـ 221.
(الصفحة 231)
المنسي، لعدم كونـه قادراً عليـه، بل إمّا أن نقول بعدم كونـه مأموراً بالمركّب الناقص أيضاً، كما حكي عن السيّد المحقّق الميرزا الشيرازي (قدس سره)
. وإمّا أن نقول بكونـه مكلّفاً بماعدا الجزء المنسي، كما حكي عن تقريرات بعض الأجلّـة لبحث الشيخ، وإمّا أن نقول بما أفاده المحقّق الخراساني(1) الذي ارتضاه المحقّق النائيني(2) من كون المكلّف بـه أوّلا في خصوص الذاكر والناسي هو خصوص ماعدا الجزء المنسي، ويختصّ الذاكر بخطاب يخصّـه بالنسبـة إلى الجزء المنسي. وعلى التقادير الثلاثـة تجري البراءة مطلقاً.
أمّا على التقدير الأوّل، فلأنّـه بعد الإتيان بالفرد الناقص في حال النسيان يشكّ في أصل ثبوت التكليف، لاحتمال اختصاص اقتضاء الجزء المنسي بحال العمد، وكذا على التقدير الثاني، فإنّـه بعد الإتيان بما هو المأمور بـه بالنسبـة إليـه يشكّ في توجّـه الأمر بالمركّب التامّ، وهو مجرى البراءة، كما أنّـه بناءً على التقدير الثالث يشكّ في كونـه مشمولا للخطاب الآخر المختصّ بالذاكرين، والمرجع فيـه ليس إلاّ البراءة.
وبالجملـة: لا مجال للإشكال في سقوط الجزء عن الجزئيّـة في حال النسيان وبعده يرجع الشكّ إلى الشكّ في توجّـه الأمر المتعلّق بالفرد التامّ.
نعم قد عرفت: أنّـه لو لم يأت بالمأمور بـه أصلا في حال النسيان لا يبقى شكّ في عدم سقوط الأمر، وهذا واضح، وأمّا مع الإتيان بالفرد الناقص ـ كما هو المفروض ـ لا يعلم ببقاء الأمر وتوجّهـه إليـه.
- 1 ـ كفايـة الاُصول: 418.
- 2 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4: 213 ـ 214.
(الصفحة 232)
وأمّا ما ذكره من الاستصحاب فيما إذا كان ذاكراً في أوّل الوقت ثمّ عرض لـه النسيان، ففيـه أنّـه في حال النسيان نقطع بارتفاعـه، ونشكّ بعد الإتيان بالفرد الناقص وزوال النسيان في عوده، والأصل يقتضي البراءة، كما هو واضح.
تتمّة : في ثبوت الإطلاق لدليل الجزء والمركّب
قد عرفت أنّ مركز البحث في جريان البراءة العقليّـة هو ما إذا لم يكن للدليل المثبت للجزئيـة إطلاق يقتضي الشمول لحال النسيان أيضاً، وكذا ما إذا لم يكن لدليل المركّب إطلاق يؤخذ بـه ويحكم بعدم كون المنسي جزءاً في حال النسيان، اقتصاراً في تقيـيد إطلاقـه بخصوص حال الذكر. فالآن نتكلّم في قيام الدليل وثبوت الإطلاق لشيء من الدليلين وعدمـه وإن كان خارجاً عن بحث الاُصولي، فنقول:
قد أفاد المحقّق العراقي في هذا المقام ما ملخّصـه: أنّ دعوى ثبوت الإطلاق لدليل المركّب مثل قولـه تعالى:
(أَقِيمُوا الصَلاةَ )(1) ساقطـة عن الاعتبار، لـوضوح أنّ مثل هـذه الخطابات إنّما كانت مسوقـة لبيان مجـرّد التشريع بنحو الإجمال.
وأمّا الدليل المثبت للجزئيـة فلا يبعد هذه الدعوى فيـه، لقوّة ظهوره في الإطلاق مـن غير فرق بين أن يكون بلسان الوضع كقولـه:
«لا صلاة إلاّ بفاتحـة الكتاب»(2) وبين أن يكون بلسان الأمر كقولـه: اركع في الصلاة، مثلا.
- 1 ـ البقرة (2): 43.
- 2 ـ عوالي اللآلي 1: 196 / 2، مستدرك الوسائل 4: 158، كتاب الصلاة، أبواب القراءة في الصلاة، الباب1، الحديث5.