(الصفحة 275)
ذلك سقوط الأمر منـه لا من خصوص ذلك البعض(1)، انتهى.
ويرد عليـه أوّلا: أنّ ما أفاده من أنّ الخطابات الغيريّـة في باب التكاليف وفي باب الوضع تكون بمنزلـة الإخبار من دون أن يكون فيها بعث وتحريك فممنوع جدّاً، ضرورة أنّ الأوامر مطلقاً نفسيّـة كانت أو غيريّـة، مولويّـة كانت أو إرشاديّـة إنّما تكون للبعث والتحريك كما مرّت الإشارة إلى ذلك سابقاً.
غايـة الأمر: أنّ الاختلاف بينهما إنّما هو باختلاف الأغراض والدواعي، وأمّا من جهـة البعث والتحريك فلا فرق بينهما أصلا، وحينئذ فيشترط فيـه عقلا القدرة على متعلّقـه، وحيث إنّـه لا قدرة في البين، كما هو المفروض فاللازم سقوطـه وبقاء الأمر بالباقي، بخلاف ما لو كان بمثل قولـه: «لا صلاة إلاّ بفاتحـة الكتاب»، ممّا لا يكون فيـه بعث وتحريك أصلا، فإنّ ظاهره اشتراط الصلاة بالفاتحـة وعدم تحقّقها بدونها، فمع عدم القدرة عليها يسقط الأمر المتعلّق بها، وحينئذ فيتمّ ما أفاده الوحيد (قدس سره)
.
وثانياً: منع ما ذكره من اعتبار القدرة في المجموع لقيام ملاك البعث المولوي بـه، لأنّ البعث مطلقاً مولويّاً كان أو غيريّاً مشروط بالقدرة، وكون المتعلّق في البعث الغيري دخيلا في المطلوب الذاتي جزءً أو شرطاً لا نفس المطلوب الذاتي لا يوجب نفي اعتبار القدرة عليـه، لأنّ اعتبارها إنّما هو لأجل نفس البعث والتحريك، كما هو واضح.
فالإنصاف بطلان هذا الجواب، وكذا فساد أصل التوجيـه. والظاهر أنّ مرجع كلام الوحيد (قدس سره)
إلى ما ذكرناه فتدبّر.
- 1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4: 251 ـ 253.
(الصفحة 276)
وكيف كان: فانقدح أنّ مركز البحث إنّما هو فيما لو لم يكن لشيء من دليلي المركّب والجزء والشرط إطلاق أو كان لهما إطلاق مع عدم حكومـة أحد الإطلاقين على الآخر. إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ الكلام يقع في مقامين:
أحدهما:
فيما تقتضيـه القواعد الأوّليـة.
وثانيهما:
فيما تقتضيـه القواعد الثانويّـة.
مقتضى القواعد الأوليّة في المقام
في جريان البراءة العقليّة
أمّا الكلام في المقام الأوّل، فمحصّلـه: أنّ الظاهر جريان البراءة العقليّـة، لأنّ مرجع الشكّ في اعتبار الشيء في المأمور بـه شطراً أو شرطاً مطلقاً، أو اختصاصـه بصورة التمكّن منـه إلى الشكّ في ثبوت الأمر مع العجز عنـه، وهو مورد لجريان البراءة، كما هو واضح.
وهذا لا فرق فيـه بين ما لو كان العجز من أوّل البلوغ الذي هو أوّل زمان ثبوت التكليف كالأخرس الذي لا يقدر على القراءة، وبين ما لو كان طارئاً في واقعـة واحدة، كمن عرض لـه العجز في أثناء الوقت بعد أن كان متمكّناً في أوّل الوقت، وبين ما لو كان طارئاً في واقعتين، كمن كان قادراً في الأمس وصار عاجزاً في اليوم من أوّل الوقت إلى آخره.
وذلك ـ أي وجـه عدم الفرق ـ أنّ مرجع الشكّ في الجميع إلى الشكّ في أصل ثبوت التكليف، والقاعدة فيـه تقتضي البراءة.
أمّا الصورة الاُولى فرجوع الشكّ فيها إلى الشكّ في أصل التكليف واضح،
(الصفحة 277)
وكذا الصورة الثالثـة، لأنّ ثبوت التكليف في الواقعـة الاُولى لا دلالـة على ثبوتـه في الواقعـة الثانيـة أيضاً، فالتكليف فيها مشكوك.
وأمّا الصورة الثانيـة فلأنّ المكلّف وإن كان عالماً في أوّل الوقت بتوجّـه التكليف إليـه، إلاّ أنّـه حيث كان قادراً على المأمور بـه بجميع أجزائـه وشرائطـه يكون المكلّف بـه في حقّـه هو المأمور بـه مع جميع الأجزاء والشرائط، فتعلّق التكليف بالمركّب التامّ كان معلوماً مع القدرة إليـه.
وأمّا مع العجز عن بعض الأجزاء أو الشرائط فلم يكن أصل ثبوت التكليف بمعلوم، فما علم ثبوتـه قد سقط بسبب العجز، وما يحتمل ثبوتـه فعلا كان من أوّل الأمر مشكوكاً، فلا مانع من جريان البراءة فيـه.
ولكن قد يتوهّم أنّ المقام نظير الشكّ في القدرة، والقاعدة فيـه تقتضي الاحتياط بحكم العقل، ولا يخفى أنّ التنظير غير صحيح، لأنّ في مسألـة الشكّ في القدرة يكون أصل ثبوت التكليف معلوماً بلاريب. غايـة الأمر أنّـه يشكّ في سقوطـه لأجل احتمال العجز عن إتيان متعلّقـه.
وأمّا في المقام يكون أصل ثبوت التكليف مجهولا، لما عرفت من أنّ التكليف بالمركّب التامّ قد علم سقوطـه بسبب العجز، وبالمركّب الناقص يكون مشكوكاً من أوّل الأمر، فالتنظير في غير محلّـه.
كما أنّ قياس المقام بالعلم الإجمالي الذي طرء الاضطرار على بعض أطرافـه، حيث يحكم العقل بحرمـة المخالفـة القطعيّـة مع العجز عـن الموافقـة القطعيّـة ـ كما يظهر من الدرر(1)، حيث اختار وجوب الإتيان بالمقدور عقلا
- 1 ـ درر الفوائد، المحقّق الحائري: 498.
(الصفحة 278)
فيما لو كان العجز طارئاً عليـه في واقعـة واحدة، لأنّـه يعلم بتوجّـه التكليف إليـه، فإن لم يأت بالمقدور لـزم المخالفـة القطعيـة ـ ممّا لا يتمّ أيضاً، لعـدم ثبوت العلم الإجمالي في المقام، بل الثابت هـو العلم التفصيلي بالتكليف المتعلّق بالمركّب التامّ الساقط بسبب العجز عنـه والشكّ البدوي في ثبوت التكليف بالباقي المقدور. فالحقّ جريان البراءة العقليّـة في جميع الصور الثلاثة.
في جريان البراءة الشرعيّة
وأمّا البراءة الشرعيّـة التي يدلّ عليها حديث الرفع فالظاهر عدم جريانها فيما لو يكن لشيء من الدليلين إطلاق، لا لما ذكره المحقّق الخراساني(1) من أنّ الحديث في مقام الامتنان ولا منّـة في إيجاب الباقي المقدور بل لأنّ غايـة مدلول الحديث هو رفع الجزئيـة والشرطيـة في حال العجز، وهو لا يدلّ على ثبوت التكليف بالباقي.
وإن شئت قلت: إنّ مدلول الحديث ليس إلاّ الرفع ولا دلالـة لـه على الوضع. ومن المعلوم أنّـه في رفعـه امتنان ليس إلاّ، كما لايخفى.
وأمّا لو كان لكلا الدليلين إطلاق مع عدم تقدّم أحدهما على الآخر فيمكن التمسّك بالحديث لرفع الجزئيـة أو الشرطيـة في حال العجز ويكون مقتضى إطلاق دليل المركّب حينئذ وجوب الإتيان بالباقي المقدور لأنّ حديث الرفع بمنزلـة المخصّص بالنسبـة إلى إطلاق دليل الجزء أو الشرط فلا يكون لـه مع ملاحظـة حديث الرفع تعارض مع إطلاق دليل المركّب، كما لايخفى.
(الصفحة 279)
مقتضى القواعد الثانوية في المقام
التمسّك بالاستصحاب لإثبات وجوب باقي الأجزاء
وأمّا الكلام في المقام الثاني: فقد يتمسّك لوجوب الباقي المقدور بالاستصحاب وتقريره من وجوه:
الأوّل:
استصحاب الوجوب الجامع بين الوجوب النفسي والغيري بأن يقال: إنّ البقيّـة كانت واجبـة بالوجوب الغيري في حال وجوب الكلّ بالوجوب النفسي، وقد علم بارتفاع ذلك الوجوب عند تعذّر بعض الأجزاء أو الشرائط للعلم بارتفاع وجوب الكلّ، ولكن شكّ في حدوث الوجوب النفسي بالنسبـة إلى البقيّـة مقارناً لزوال الوجوب الغيري عنها، فيقال: إنّ الجامع بين الوجوبين كان متيقّناً والآن يشكّ في ارتفاعـه بعد ارتفاع بعض مصاديقـه، فهو من قبيل القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلّي.
ويمكن أن يقرّر هذا الوجه بنحو آخر، وهو أنّ البقيّة كانت واجبة بالوجوب النفسي الضمني، وقد علم بارتفاعه، وشكّ في حدوث الوجوبالنفسيالاستقلالي، فأصل الوجوب الجامع بين الضمني والاستقلالي كان متيقّناً، والآن شكّ في ارتفاعه بعد ارتفاع بعض مصاديقه لأجل احتمال حدوث مصداق آخر، هذا.
ويرد على هـذا الوجـه مضافاً إلى منع كون الأجـزاء واجبـة بالوجـوب الغيري أو النفسي الضمني، بل قد عرفت(1) أنّها واجبـة بعين وجوب الكلّ.
- 1 ـ تقدّم في الصفحـة 176 ـ 178.