(الصفحة 289)
شخص ذلك الحكم مع كون متعلّقـه أمراً آخر مغايراً للأمر الأوّل، لأنّ تشخّص الإرادة إنّما هو بالمراد، ولا يعقل تعدّده مع وحدتها، كما أنّـه لا يعقل وحدتـه مع تعدّدها، ولا يلزم ذلك بناءً على الاحتمال الأوّل، لأنّ الباقي إنّما هو نفس الميسور وإن كانت علّـة البقاء هو تعلّق أمر آخر بـه.
ومن هنا يظهر الخلل فيما أفاده المحقّق الخراساني(1) وتبعـه الأعاظم(2)من تلامذتـه من أنّ المراد من الحديث هو عدم سقوط الميسور بما لـه من الحكم، كما في مثل «لا ضرر ولا ضرار» حيث إنّ ظاهره نفي ما لـه من تكليف أو وضع.
وجـه الخلل ما عرفت من عدم معقوليّـة بقاء شخص ذلك الحكم بعد اختلاف متعلّقـه.
فالإنصاف: أنّـه لا مجال للإشكال في ظهور الحديث فيما ذكرنا، وعليـه فيتمّ الاستدلال بـه للمقام، لعدم اختصاصـه بالميسور من أفراد العامّ، بل الظاهر كونـه أعمّ منـه ومن الميسور من أجزاء الطبيعـة المأمور بها.
نعم يبقى الكلام في اختصاصـه بالواجبات أو شمولـه للمستحبّات أيضاً، والظاهر هو الأوّل، لأنّ اعتبار الثبوت على العهدة واشتغال الذمّـة ينافي مع كونـه مستحبّاً، كما لايخفى.
نعم لو قلنا بشمولـه للمستحبّات لا يبقى مجال للاستدلال بـه حينئذ، لأنّـه يصير عدم السقوط أعمّ من الثبوت بنحو اللزوم، فيحتمل أن يكون الثابت في الواجبات أيضاً هو الثبوت ولو بنحو الاستحباب، كما هو غير خفي.
- 1 ـ كفايـة الاُصول: 421.
- 2 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4: 255، نهايـة الأفكار 3: 457.
(الصفحة 290)
نعم لو كان المراد من الحديث هو عدم سقوط الميسور بما لـه من الحكم تمّ الاستدلال بـه حينئذ ولو قلنا بشمولـه للمستحبّات، ولكن قد عرفت فساد هذا الاحتمال، هذا.
الكلام في مفاد العلوي الثاني
وأمّا العلوي الثاني وهـو قولـه (عليه السلام):
«ما لا يدرك كلّـه لا يترك كلّـه»، فلا يخفى أنّ الظاهر من كلمـة «الكلّ» هو الكلّ المجموعي الذي لـه أجزاء. كما أنّ ظاهـر كلمـة الموصول هـو مطلق الأفعال الراجحـة واجبـة كانت أو مستحبّـة، لكن يعارضـه ظهور قولـه: «لا يترك» في حرمـة الترك، وهي غير متحقّقـة في المستحبّات، فيختصّ بالواجبات بناءً على ترجيح ظهور الذيل وكون «لا يترك» أظهر في مفاده من الموصول في العموم، كما أنّـه لا يدلّ إلاّ على مرجوحيّـة الترك لو قلنا بترجيح ظهور الصدر، فالأمر يدور بين ترجيح أحد الظهورين على الآخر.
وما أفاده الشيخ المحقّق الأنصاري (قدس سره)
من أنّ قولـه: «لا يترك» كما أنّـه يصير قرينـة على تخصيص الصدر بغير المباحات والمكروهات والمحرّمات، كذلك لا مانع من أن يصير قرينـة على إخراج المستحبّات أيضاً، لعدم الفرق بينها(1)، محلّ نظر، بل منع; لأنّ اختصاص الموصول بغير المباحات واختيها إنّما هو بواسطـة قولـه: «لايدرك كلّـه» لأنّ التعبير بالإدراك إنّما هو فيما كان الشيء أمراً راجحاً يحصل الداعي إلى إتيانـه لذلك، ولا يقال في مثل المحرّمات
- 1 ـ فرائد الاُصول 2: 498 ـ 499.
(الصفحة 291)
والمكروهات، بل وكذا المباحات، كما يظهر من تـتبّع موارد استعمالـه، فلم يكن تخصيص الموصول بغيرها لأجل قولـه: «لا يترك» حتّى لا يفرق بينها وبين المستحبّات، فالظاهر دوران الأمر بين ترجيح أحد الظهورين.
فيمكن أن يقال بترجيح ظهور الذيل، لأجل ترجيح ظهور الحكم على ظهور الموضوع كما قد قيل.
ويمكن أن يقال بترجيح ظهـور الصـدر، لأنّـه بعد انعقاد الظهور لـه وتوجّـه المكلّف إليـه يمنع ذلـك مـن انعقاد الظهور; للذيل. فظهور الصـدر مانـع عـن أصل انعقاد الظهـور بالنسبـة إلـى الـذيل، وظهور الـذيل لابـدّ وأن يكون رافعاً لظهور الصـدر، فيدور الأمـر حينئذ بين الرفـع والـدفع، والثاني أهـون مـن الأوّل، فتدبّر.
ثمّ إنّ المراد بكلمـة «كلّ» في الموضعين يحتمل أن يكون هو الكلّ المجموعي، ويحتمل أن يكون كلّ جزء من أجزاء المجموع ويحتمل أن يكون المراد بها في الموضع الأوّل هو المعنى الأوّل وفي الموضع الثاني هو المعنى الثاني، ويحتمل العكس فهذه أربعـة احتمالات متصوّرة بحسب بادئ النظر.
ولكن التأمّل يقضي بأنّـه لا سبيل إلى حمل كلمـة «كلّ» في الموضع الثاني على الكلّ المجموعي، لأنّ معنى درك المجموع هو الإتيان بـه، وعدم دركـه قد يتحقّق بعدم درك شيء منـه، وقد يتحقّق بعدم درك بعض الأجزاء فقط، ضرورة أنّـه يصدق عدم إدراك المجموع مع عدم إدراك جزء منـه. وأمّا ترك المجموع فهو كعدم دركـه، وعدم تركـه كدركـه، فمعنى عدم ترك المجموع هو إدراكـه والإتيان بـه بجميع أجزائـه.
وحينئذ فلـو حمـل الكـلّ فـي الموضـع الثاني علـى الكـلّ المجموعـي
(الصفحة 292)
يصير مضمون الروايـة هكـذا: ما لا يـدرك مجموعـه أو كلّ جـزء منـه لا يترك مجموعـه ويجب الإتيان بـه، وهـذا بيّن الفساد، فيسقط مـن الاحتمالات الأربعـة احتمالان.
وأمّا الاحتمالان الآخران المشتركان في كون المراد بكلمـة «كلّ» في الموضع الثاني هـو كلّ جـزء مـن أجـزاء المجموع فلا مانـع منهما، لأنّـه يصير المراد مـن الروايـة على أحـد الاحتمالين هكـذا: ما لا يدرك مجموعـه لا يترك كـلّ جزء من أجزائـه، وعلى الاحتمال الآخر: ما لا يدرك كلّ جزء من أجزائـه لا يترك كلّ جزء منها، وهذا أيضاً كالمعنى الأوّل معنى صحيح، لأنّ عـدم درك كـلّ جـزء يصـدق بدرك بعض الأجـزاء، كمـا أنّ عـدم ترك كـلّ جـزء يتحـقّق بالإتيان بالبعض.
فالمستفاد منـه أنّـه مع عدم إدراك جميع الأجزاء ودرك البعض يجب الإتيان بالبعض ولا يجوز ترك الكلّ.
نعم ذكـر الشيخ المحقّق الأنصاري (قدس سره)
أنّـه لابدّ مـن حمل كلمـة «كلّ» في قولـه: «ما لا يدرك كلّـه» على الكلّ المجموعي لا الأفرادي، إذ لو حمل على الأفرادي كان المراد:
«ما لايدرك شيء منها، لايترك شيء منها» ولا معنى له(1).
ولا يخفى: أنّ ما أفاده الشيخ هنا من فروع النزاع المعروف بينـه(2) وبين المحقّق صاحب الحاشيـة(3) في باب المفاهيم، وهو أنّـه إذا كان الحكم في
- 1 ـ فرائد الاُصول 2: 499.
- 2 ـ الطهارة، الشيخ الأنصاري: 49 / السطر26، مطارح الأنظار: 174 / السطر31.
- 3 ـ هداية المسترشدين: 291.
(الصفحة 293)
المنطوق حكماً عامّاً فهل المنفي في المفهوم نفي ذلك الحكم بنحو العموم، أو نفي العموم الغير المنافي لثبوت البعض، مثلا قولـه (عليه السلام): «الماء إذا بلغ قدر كرّ لا ينجّسـه شيء»(1)، هل يكون مفهومـه أنّـه إذا لم يبلغ ذلك المقدار ينجّسـه جميع الأشياء النجسـة، أو أنّ مفهومـه تنجّسـه بشيء منها الغير المنافي لعدم تنجّسـه ببعض النجاسات.
والحقّ مع صاحب الحاشيـة، لأنّ المفهوم عبارة عن انتفاء الحكم في المنطوق عند انتفاء الشرط، لا ثبوت حكم نقيض للحكم في المنطوق، وقد حقّقنا ذلك في باب المفاهيم من مباحث الألفاظ(2).
وحينئذ: فالمراد بـ«ما لا يدرك كلّـه» في المقام بناءً على هذا الاحتمال: ما لا يدرك ولو بعض أجزائـه، لا ما لا يدرك شيء منها، كما لايخفى، هذا. ولكنّ الظاهر أنّ المراد بـه هو الكلّ المجموعي في الموضع الأوّل. وأمّا الموضع الثاني فقد عرفت أنّـه لابدّ من حملـه على الكلّ الأفرادي.
تتمّة : في اعتبار صدق الميسور في جريان القاعدة
قد اشتهر بينهم أنّـه لابدّ في جريان قاعدة الميسور من صدق الميسور على الباقي عرفاً، ولابدّ من ملاحظـة أدلّتها ليظهر حال هذا الشرط.
فنقول: أمّا قولـه (صلى الله عليه وآله وسلم):
«إذا أمرتكم بشيء فأتوا منـه ما استطعتم»
- 1 ـ راجع وسائل الشيعـة 1: 158، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب9، الحديث1 و 2 و 5 و 6.
- 2 ـ تقدّم في الجزء الأوّل: 255.