(الصفحة 29)
ولا يعمّ الخبر القائم على الاستحباب.
فإن قلت:
كيف تكون أخبار من بلغ مخصّصـة لما دلّ على اعتبار الشرائط في حجّيـة الخبر، مع أنّ النسبـة بينهما العموم من وجـه، حيث إنّ ما دلّ على اعتبار الشرائط يعمّ الخبر القائم على الوجوب وعلى الاستحباب، وأخبار من بلغ وإن كانت تختصّ بالخبر القائم على الاستحباب، إلاّ أنّـه أعمّ من أن يكون واجداً للشرائط وفاقداً لها، ففي الخبر القائم على الاستحباب الفاقد للشرائط يقع التعارض، ولا وجـه لتقديم أخبار من بلغ.
قلت:
ـ مع أنّـه يمكن أن يقال: إنّ أخبار من بلغ ناظرة إلى إلغاء الشرائط في الأخبار القائمـة على المستحبّات فتكون حاكمـة على ما دلّ على اعتبار الشرائط في أخبار الآحاد، وفي الحكومـة لا تلاحظ النسبـة ـ إنّ الترجيح لأخبار من بلغ; لعمل المشهور بها، مع أنّـه لو قدّم ما دلّ على اعتبار الشرائط في مطلق الأخبار لم يبق لأخبار من بلغ مورد، بخلاف ما لو قدّمت أخبار من بلغ، وهذا الوجـه ـ أي الوجـه الثاني ـ أقرب كما عليـه المشهور(1)، انتهى ملخّص موضع الحاجـة من كلامـه (قدس سره)
.
وفيـه وجوه من النظر:
أمّا أوّلا:
فلأنّ جعل أخبار من بلغ مخصّصـة أو معارضـة لما دلّ على اعتبار الشرائط في أخبار الآحاد ممّا لا وجـه لـه، بعد كون كلّ منهما مثبتاً، فإنّ ما دلّ على اعتبار خبر الثقـة مطلقاً لا ينفي ما يدلّ على اعتبار الخبر مطلقاً في باب المستحبّات ولا مضادّة بينهما حتّى يجعل الثاني مخصّصاً أو معارضاً. نعم في بعض
- 1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 409 ـ 414.
(الصفحة 30)
أدلّـة اعتبار خبر الثقـة ما يشعر بعدم حجّيـة قول الفاسق كآيـة النبأ، ولكنّـه كما عرفت لا يخلو من المناقشـة.
وثانياً:
فإنّـه لو سلّم التعارض فجعل أخبار من بلغ حاكمـة على ما يدلّ على اعتبار الشرائط في الخبر الواحد ممّا لا وجـه لـه، فإنّ ملاك الحكومـة أن يكون الدليل الحاكم ناظراً إلى الدليل المحكوم ومتعرّضاً لحالـه من حيث السعـة والضيق وهذا الملاك مفقود في المقام، فإنّ غايـة ما يدلّ عليـه أخبار من بلغ بناءً على هذا القول هو بيان حجّيـة الخبر مطلقاً في المستحبّات. وأمّا كونها ناظرة إلى تلك الطائفـة ومفسّرة لها فلا يظهر منها أصلا، كما لايخفى.
وثالثاً:
فما أفاد من أنّـه لو قدّم ما دلّ على اعتبار الشرائط في مطلق الخبر لميبق لأخبار من بلغ مورد، محلّ نظر; لأنّ هذه الأخبار كما اعترف (قدس سره)
تكون شاملـة بإطلاقها لخبر الثقـة وغيرها وإخراج الثاني من تحتها لا يوجب أن لايكون لها مورد بعد بقاء الأوّل مشمولا لها، ولا يلزم أن يكون المورد الباقي مختصّاً بهذه الأخبار، مع أنّ جعل ذلك مـن المرجّحات ممّا لا دليل عليـه، فإنّـه لم يذكر في باب التراجيح أنّ من جملـة المرجّحات خلوّ الدليل الراجح عن المورد، كما لايخفى.
والأظهر في بيان مفاد أخبار من بلغ أن يقال: إنّها بصدد جعل الثواب لمن بلغـه ثواب على عمل، فعملـه رجاء إدراك ذلك الثواب، نظير الجعل في باب الجعالـة والغرض من هذا الجعل التحريص والترغيب على إتيان مؤدّيات الأخبار الواردة في السنن، لئلاّ تفوت السنن الواقعيـة والمستحبّات النفس الأمريّـة، فالغرض منـه هو التحفّظ عليها بالإتيان بكلّ ما يحتمل كونـه سنّـة، سواء كان بلغ استحبابـه بسند معتبر أو غيره.
(الصفحة 31)
وحينئذ: فلا يستفاد من هذه الأخبار استحباب العمل الذي بلغ استحبابـه مطلقاً، بحيث كان ترتّب الثواب عليـه لخصوصيـة في نفس العمل ومزيّـة فيـه مقتضيـة لـه، بل مفادها مجرّد جعل الثواب عليـه تفضّلا لأجل التحفّظ على المستحبّات التي تكون فيها خصوصيـة راجحـة ويكون ترتّب الثواب عليها لأجلها. فهذه الأخبار نظير الأخبار الدالّـة على ترتّب الثواب على المشي إلى الحجّ(1) أو زيارة قبر أبيعبداللّه الحسين (عليه السلام)(2); فإنّ المشي إنّما يكون مقدّمـة، والمقدّمـة لا تكون راجحـة ذاتاً محبوبةً بنفسها، ولكن جعل الثواب عليها إنّما هو لأجل الحثّ والتحريك على ذي المقدّمـة، كما لايخفى.
ومن هنا يظهر الخلل فيما أفاده المحقّق الخراساني (قدس سره)
في الكفايـة ممّا تقدّم نقلـه، فتدبّر جيّداً.
- 1 ـ راجع وسائل الشيعـة 11: 78، كتاب الحج، أبواب وجوبـه وشرائطـه، الباب32.
- 2 ـ راجع وسائل الشيعـة 14: 439، كتاب الحج، أبواب المزار، الباب41.
(الصفحة 32)
التنبيه الثالث
أنحاء متعلّق الأمر والنهي
الأوامر والنواهي قد يتعلّقان بنفس الطبيعـة من غير لحاظ شيء معها أصلا من الوحدة والكثرة وغيرهما.
وقد يتعلّقان بصرف الوجود، والمراد بـه هو الطبيعـة المأخـوذة على نحو لا ينطبق إلاّ على أوّل وجود الطبيعـة، واحداً كان أو كثيراً.
وقد يتعلّقان بالطبيعـة على نحو العامّ المجموعي.
وقد يتعلّقان بها على نحو العامّ الاستغراقي.
فإذا تعلّق الأمر والنهي بنفس الطبيعـة من غير لحاظ الوحدة والكثرة فالأمر يكون باعثاً إلى نفسها، كما أنّ النهي يكون زاجراً عنها. ومن المعلوم أنّ الطبيعـة متكثّرة في الخارج بتكثّر أفرادها; لأنّ كلّ فرد منها هي تمام الطبيعـة مع خصوصيـة الفرديّـة، وحينئذ فإذا أتى بوجود واحد من وجودات الطبيعـة يتحصّل الغرض، لأنّـه تمام الطبيعـة المأمور بها، فيسقط الأمر، لحصول الغرض.
وأمّا إذا أتى بوجودات متكثّرة دفعـة واحدة، فهل يتحقّق هنا إطاعات متعدّدة حسب تعدّد الوجودات المأتي بها، نظراً إلى أنّ المطلوب على ما هو المفروض هو نفس الطبيعـة، وهي تـتكثّر بتكثّر وجوداتها، فتكثّر الطبيعـة مستلزم لتكثّر المطلوب، كما أنّ في الواجب الكفائي لو قام بالإتيان بـه أزيد من واحد يكون كلّ من أتى بـه مستحقّاً للمثوبـة، مع أنّ المطلوب فيـه أيضاً هي نفس طبيعـة الواجب، ولذا يحصل الغرض بالإتيان بوجود واحد منها من مكلّف واحد.
(الصفحة 33)
أو أنّـه ليس هنا أيضاً إلاّ إطاعـة واحدة، نظراً إلى أنّ الطبيعـة وإن كانت متكثّرة بتكثّر الأفراد، إلاّ أنّها بوصف كونها مطلوبـة ومأموراً بها لا تكون متكثّرة، كيف وتكثّر المطلوب بما هو مطلوب لا يعقل مع وحدة الطلب بعد كونهما من الاُمور المتضايفـة، وتنظير المقام بباب الواجب الكفائي في غير محلّـه بعد كون الطلب في ذلك متعدّداً، أو كـون كل واحـد من المكلّفين مأمـوراً. غايـة الأمر أنّـه مـع إتيان واحد منهم يحصل الغرض، فيسقط الأمر عـن الباقين، فالأمـر الواحـد لا يكون لـه إلاّ إطاعـة واحدة.
وأمّا النهي والزجر عن نفس الطبيعـة فهو وإن كان أيضاً بحسب نظر العقل يتحقّق إطاعتـه بترك وجود واحد منها، لأنّـه كما أنّ الطبيعـة يوجد بوجود فرد منها كذلك ينعدم بانعدام فرد مّا، لأنّـه إذا فرض أنّ وجوداً واحداً منها يكون تمام الطبيعـة فوجوده وجود لها، وعدمـه عدم لها، ولا يعقل أن يكون وجوده وجوداً لها ولا يكون عدمـه عدماً لها، إلاّ أنّ العقلاء يرون أنّ المطلوب في باب النواهي عدم تحقّق الطبيعـة أصلا، وقد ذكرنا ذلك في باب النواهي من مباحث الألفاظ فراجع(1). هذا كلّـه فيما إذا تعلّق الأمر أو النهي بنفس الطبيعـة.
وأمّا لو تعلّق بصرف الوجود الذي مرجعـه إلى وجوب نقض العدم في ناحيـة الأمر والزجر عنـه في ناحيـة النهي، فيتحقّق إطاعـة الأمر بإيجادها; أي الطبيعـة مرّة أو أكثر، فإنّـه إذا وجد ألف فرد من الطبيعـة دفعـة لا يكون الصرف إلاّ واحداً، كما إذا أوجد فرداً واحداً، بخلاف ما إذا أوجد أفراداً تدريجاً، فإنّـه يتحقّق الصرف بأوّلها، لأنّ الصرف لا يتكرّر، فيكون للأمر بـه إطاعـة واحدة
- 1 ـ تقدّم في الجزء الأوّل: 165.