(الصفحة 291)
والمكروهات، بل وكذا المباحات، كما يظهر من تـتبّع موارد استعمالـه، فلم يكن تخصيص الموصول بغيرها لأجل قولـه: «لا يترك» حتّى لا يفرق بينها وبين المستحبّات، فالظاهر دوران الأمر بين ترجيح أحد الظهورين.
فيمكن أن يقال بترجيح ظهور الذيل، لأجل ترجيح ظهور الحكم على ظهور الموضوع كما قد قيل.
ويمكن أن يقال بترجيح ظهـور الصـدر، لأنّـه بعد انعقاد الظهور لـه وتوجّـه المكلّف إليـه يمنع ذلـك مـن انعقاد الظهور; للذيل. فظهور الصـدر مانـع عـن أصل انعقاد الظهـور بالنسبـة إلـى الـذيل، وظهور الـذيل لابـدّ وأن يكون رافعاً لظهور الصـدر، فيدور الأمـر حينئذ بين الرفـع والـدفع، والثاني أهـون مـن الأوّل، فتدبّر.
ثمّ إنّ المراد بكلمـة «كلّ» في الموضعين يحتمل أن يكون هو الكلّ المجموعي، ويحتمل أن يكون كلّ جزء من أجزاء المجموع ويحتمل أن يكون المراد بها في الموضع الأوّل هو المعنى الأوّل وفي الموضع الثاني هو المعنى الثاني، ويحتمل العكس فهذه أربعـة احتمالات متصوّرة بحسب بادئ النظر.
ولكن التأمّل يقضي بأنّـه لا سبيل إلى حمل كلمـة «كلّ» في الموضع الثاني على الكلّ المجموعي، لأنّ معنى درك المجموع هو الإتيان بـه، وعدم دركـه قد يتحقّق بعدم درك شيء منـه، وقد يتحقّق بعدم درك بعض الأجزاء فقط، ضرورة أنّـه يصدق عدم إدراك المجموع مع عدم إدراك جزء منـه. وأمّا ترك المجموع فهو كعدم دركـه، وعدم تركـه كدركـه، فمعنى عدم ترك المجموع هو إدراكـه والإتيان بـه بجميع أجزائـه.
وحينئذ فلـو حمـل الكـلّ فـي الموضـع الثاني علـى الكـلّ المجموعـي
(الصفحة 292)
يصير مضمون الروايـة هكـذا: ما لا يـدرك مجموعـه أو كلّ جـزء منـه لا يترك مجموعـه ويجب الإتيان بـه، وهـذا بيّن الفساد، فيسقط مـن الاحتمالات الأربعـة احتمالان.
وأمّا الاحتمالان الآخران المشتركان في كون المراد بكلمـة «كلّ» في الموضع الثاني هـو كلّ جـزء مـن أجـزاء المجموع فلا مانـع منهما، لأنّـه يصير المراد مـن الروايـة على أحـد الاحتمالين هكـذا: ما لا يدرك مجموعـه لا يترك كـلّ جزء من أجزائـه، وعلى الاحتمال الآخر: ما لا يدرك كلّ جزء من أجزائـه لا يترك كلّ جزء منها، وهذا أيضاً كالمعنى الأوّل معنى صحيح، لأنّ عـدم درك كـلّ جـزء يصـدق بدرك بعض الأجـزاء، كمـا أنّ عـدم ترك كـلّ جـزء يتحـقّق بالإتيان بالبعض.
فالمستفاد منـه أنّـه مع عدم إدراك جميع الأجزاء ودرك البعض يجب الإتيان بالبعض ولا يجوز ترك الكلّ.
نعم ذكـر الشيخ المحقّق الأنصاري (قدس سره)
أنّـه لابدّ مـن حمل كلمـة «كلّ» في قولـه: «ما لا يدرك كلّـه» على الكلّ المجموعي لا الأفرادي، إذ لو حمل على الأفرادي كان المراد:
«ما لايدرك شيء منها، لايترك شيء منها» ولا معنى له(1).
ولا يخفى: أنّ ما أفاده الشيخ هنا من فروع النزاع المعروف بينـه(2) وبين المحقّق صاحب الحاشيـة(3) في باب المفاهيم، وهو أنّـه إذا كان الحكم في
- 1 ـ فرائد الاُصول 2: 499.
- 2 ـ الطهارة، الشيخ الأنصاري: 49 / السطر26، مطارح الأنظار: 174 / السطر31.
- 3 ـ هداية المسترشدين: 291.
(الصفحة 293)
المنطوق حكماً عامّاً فهل المنفي في المفهوم نفي ذلك الحكم بنحو العموم، أو نفي العموم الغير المنافي لثبوت البعض، مثلا قولـه (عليه السلام): «الماء إذا بلغ قدر كرّ لا ينجّسـه شيء»(1)، هل يكون مفهومـه أنّـه إذا لم يبلغ ذلك المقدار ينجّسـه جميع الأشياء النجسـة، أو أنّ مفهومـه تنجّسـه بشيء منها الغير المنافي لعدم تنجّسـه ببعض النجاسات.
والحقّ مع صاحب الحاشيـة، لأنّ المفهوم عبارة عن انتفاء الحكم في المنطوق عند انتفاء الشرط، لا ثبوت حكم نقيض للحكم في المنطوق، وقد حقّقنا ذلك في باب المفاهيم من مباحث الألفاظ(2).
وحينئذ: فالمراد بـ«ما لا يدرك كلّـه» في المقام بناءً على هذا الاحتمال: ما لا يدرك ولو بعض أجزائـه، لا ما لا يدرك شيء منها، كما لايخفى، هذا. ولكنّ الظاهر أنّ المراد بـه هو الكلّ المجموعي في الموضع الأوّل. وأمّا الموضع الثاني فقد عرفت أنّـه لابدّ من حملـه على الكلّ الأفرادي.
تتمّة : في اعتبار صدق الميسور في جريان القاعدة
قد اشتهر بينهم أنّـه لابدّ في جريان قاعدة الميسور من صدق الميسور على الباقي عرفاً، ولابدّ من ملاحظـة أدلّتها ليظهر حال هذا الشرط.
فنقول: أمّا قولـه (صلى الله عليه وآله وسلم):
«إذا أمرتكم بشيء فأتوا منـه ما استطعتم»
- 1 ـ راجع وسائل الشيعـة 1: 158، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب9، الحديث1 و 2 و 5 و 6.
- 2 ـ تقدّم في الجزء الأوّل: 255.
(الصفحة 294)
فدلالتـه على ذلك تـتوقّف على أن يكون المراد منـه: إذا أمرتكم بطبيعـة لها أفراد ومصاديق فأتوا من تلك الطبيعـة ـ أي من أفرادها ـ ما يكون مستطاعاً لكم، وحينئذ فالفرد المستطاع أيضاً فرد للطبيعـة صادق عليـه عنوانها كالصلاة والوضوء ونحوهما. وحينئذ فلو لم يكن عنوانها صادقاً على الفاقد للأجزاء المعسورة لا يمكن إثبات وجوبـه بهذا الحديث، لأنّـه لابدّ أن يكون مصداقاً لها، غايـة الأمر أنّـه مصداق ناقص والمعسور فرد كامل.
وأمّا بناءً على ما استظهرنا من الحديث من كون المراد منه هوالإتيانبالطبيعة المأمور بها زمان الاستطاعـة والقدرة، فلا يستفاد منه هذا الشرط، كما هو واضح.
وأمّا قولـه (عليه السلام):
«الميسور لا يسقط بالمعسور»، ففيـه احتمالات أربعـة:
أحدها: أن يكون المراد: الميسور من أفراد الطبيعـة المأمور بها لا يسقط بالمعسور.
ثانيها: أن يكون المراد: الميسور من أجزاء الطبيعـة المأمور بها لا يسقط بالمعسور من تلك الأجزاء.
ثالثها: أن يكون المراد: الميسور من أفراد الطبيعـة المأمور بها لا يسقط بالمعسور من أجزائها.
رابعها: عكس الثالث وهو: أنّ الميسور من أجزاء الطبيعـة المركّبـة المأمور بها لا يسقط بالمعسور من أفرادها.
ودلالـة هذا الحديث على الشرط المذكور مبنيّـة على الاحتمال الأوّل والثالث، وأمّا بناءً على الاحتمال الثاني والرابع فلا دلالـة لـه على ذلك. ولا يخفى أنّـه ليس في البين ما يرجّح أحد الاحتمالين بعد سقوط الاحتمال الثالث والرابع، لكونهما مخالفاً للظاهر، والقدر المتيقّن هي صورة وجدان الشرط وكون
(الصفحة 295)
الباقي صادقاً عليـه أنّـه ميسور المأمور بـه، كما هو غير خفي.
وأمّا قولـه (عليه السلام):
«ما لا يدرك كلّـه لا يترك كلّـه» فيحتمل أن يكون المراد بـه أنّ المركّب الذي لا يدرك كلّـه لا يترك ذلك المركّب بكلّيتـه، ومعناه حينئذ لزوم الإتيان بالمركّب الناقص بعد تعذّر درك التامّ.
ويحتمل أن يكون المراد بـه أنّ المركّب الذي لا يدرك كلّـه لا يترك كلّ ذلك المركّب; أي لا يترك كلّ جزء من أجزائـه. فعلى الأوّل يدلّ على كون الباقي لابدّ وأن يكون مصداقاً للطبيعـة المأمور بها، وعلى الثاني لا دلالـة لـه على ذلك، والظاهر هو المعنى الثاني.
المرجع في تعيين الميسور
ثـمّ إنّ المرجـع فـي تعيـين الميسور هل هـو العرف أو الشرع؟ وجهـان مبنيّان على أنّ المراد مـن قولـه (عليه السلام):
«الميسور لا يسقط بالمعسور»، هل هـو أنّ الـميسور مـن المصلحـة الكائنـة فـي الطبيعـة المأمـور بهـا لا يسقـط بالمعسـور منها، أو أنّ المراد أنّ الميسور من نفس الطبيعـة المأمور بها لا يسقط بالمعسور منها؟
فعلى الأوّل يكون المرجع هو الشرع، لعدم اطّلاع العرف على قيام الباقي المقدور ببعض المصلحـة، لاحتمالـه أن تكون المصلحـة متقوّمـة بالمجموع، وعلى الثاني يكون المرجع هو العرف، كما هو واضح. وهذا هو الظاهر.
وحينئذ فكلّ مورد حكم العرف فيـه بأنّ الباقي في المقدور ميسور للطبيعـة المأمور بها يحكم فيـه بلزوم الإتيان بـه.