(الصفحة 298)
وحينئذ فمع كون الأمر مجهولا للمكلّف لا يعقل أن ينبعث منـه، وبدون تحقّق الانبعاث لا يتحقّق الإطاعـة، واحتمال الأمر وإن كان محرّكاً باعثاً، إلاّ أنّـه لا يكفي; لأنّـه لابدّ من كون الانبعاث مسبّباً عن نفس بعث المولى وتحريكـه، والاحتمال يغاير البعث الواقعي.
ودعوى:
أنّ الانبعاث إنّما هو عن الأمر المحتمل لا احتمال الأمر.
مدفوعـة:
بأنّ الانبعاث عن الأمر المحتمل مستحيل، لأنّـه لابدّ من إحراز ذلك وإحراز وجود الأمر لا يجتمع مع توصيفـه بكونـه محتملا، فمع الاحتمال لا يكون الأمر بمحرز، ومع إحرازه لا يكون الأمر محتملا، فلا يعقل الانبعاث عن الأمر بوصف كونـه محتملا، هذا.
ويمكن توسعـة دائرة هذا الإشكال بالقول بأنّ الانبعاث لا يكون عـن البعث ولو في مـوارد العلم بالبعث، لأنّ المحرّك والباعث ليس هـو البعث بوجوده الواقعي، وإلاّ لكان اللازم ثبوت الملازمـة بينهما وعدم انفكاك أحدهما عن الآخر، مع أنّ الضرورة قاضيـة بخلافـه; لأنّـه كثيراً ما لا يتحقّق الانبعاث مـع تحقّق البعث في الواقع ونفس الأمـر، وكثيراً ما ينبعث المكلّف مع عدم وجـود البعث في الواقع، فهذا دليل على أنّ المحرّك والباعث ليس هو نفس البعث، بل الصورة الذهنيـة الحاكيـة عنـه باعتقاد المكلّف، فوجود البعث وعدمـه سواء.
وهذا لا يختصّ بالبعث، بل يجري في جميع أفعال الإنسان وحركاتـه، ضرورة أنّ المؤثّر في الإخافـة والفرار ليس هو الأسد بوجوده الواقعي، بل صورتـه الذهنيـة المعلومـة بالذات المنكشفـة لدى النفس. ولا فرق في تأثيرها بين كونها حاكيـة عن الواقع واقعاً وبين عدم كونها كذلك; لعدم الفرق في حصول
(الصفحة 299)
الخـوف بين العالم بوجـود الأسد الغير الموجـود، وبين العالم بوجـود الأسد الموجـود.
وبعبارة اُخرى: لا فرق بين العالم وبين الجاهل بالجهل المركّب، ولو كان المؤثّر هو الأسد بوجود الواقعي لكان اللازم عدم تحقّق الخوف بالنسبـة إلى الجاهل، مع أنّ الوجدان يشهد بخلافـه.
فانقدح ممّا ذكر: أنّ الانبعاث عن بعث المولى لا يتوقّف على وجوده في الواقع، بل يتحقّق في صورة الجهل المركّب بـه. والسرّ أنّ الانبعاث إنّما هو عن البعث بصورتـه الذهنيـة المعلومـة بالذات، وإلاّ يلزم عدم انفكاك الانبعاث عن البعث، فلا يتحقّق الانبعاث بدونـه، ولا البعث بدون الانبعاث، ولازمـه عدم تحقّق العصيان أصلا، كما لا يخفى.
وحينئذ: يظهر عدم إمكان تحقّق الإطاعـة أصلا ولو في صورة العلم بعد كـون المعتبر في حقيقتها هـو كون الانبعاث مستنداً إلى نفس البعث بوجـوده الواقعي.
ويمكن تصوير ذلك بصورة البرهان بنحو الشكل الأوّل الذي هو بديهي الانتاج بأن يقال: إنّ الإطاعـة هو الانبعاث ببعث المولى، ولا شيء من الانبعاث ببعث المولى بممكن التحقّق، ينتج: فلا شيء من الإطاعـة بممكن.
والجواب عن هذا الإشكال أوّلا:
أنّـه لا يعتبر في تحقّق الإطاعـة بنظر العرف والعقلاء إلاّ وجود البعث والعلم بـه، فإذا تحقّق البعث وصار موجـوداً واقعاً وعلم بـه المكلّف بتوسّط صورتـه الذهنيـة ففعل بداعي ذلك يتحقّق حينئذ عنوان الإطاعـة.
ودعوى: أنّ الانبعاث لم يكن مسبّباً عن البعث، مدفوعـة: بأنّ الصورة
(الصفحة 300)
الذهنيّـة حيث كانت كاشفـة عن الواقع وحاكيـة لـه يكون الانبعاث معها مستنداً إلى الواقع، وهي وسيلـة إلى النيل بـه والوصول إليـه، فالباعث في الحقيقـة هو نفس البعث لا الصورة الذهنيّـة. كيف وهذه الصورة مغفولـة عنها غير متوجّـه إليها، لأنّ العالم بالبعث لا يرى إلاّ نفس البعث، ولا يتوجّـه إلى صورتـه المعلومـة بالذات أصلا، كما لايخفى.
وثانياً:
أنّ المراد بكون الإطاعـة هو الانبعاث ببعث المولى، هل هو لزوم كون الانبعاث مستنداً إلى البعث من دون واسطـة، أو لزوم كون الانبعاث مستنداً إليـه ولو بالعرض؟ فعلى الأوّل نمنع الصغرى، لعدم الدليل على كون الإطاعـة عبارة عن الانبعاث عن البعث بالذات، وعلى الثاني نمنع الكبرى، لوضوح إمكان الانبعاث ببعث المولى بالعرض، بل قد عرفت أنّـه في صورة العلم دائماً يكون الانبعاث مستنداً إلى البعث تبعاً.
وثالثاً:
أنّ ما ذكر في الإشكال مبني على لزوم عنوان الإطاعـة، مع أنّـه لا دليل عليـه. والإطاعـة المأمور بها في قولـه تعالى:
(أَطِيعُوا اللهَ... )(1) إلى آخره ليس المراد بها إلاّ مجرّد الموافقـة وعدم المخالفـة، والدليل عليـه أنّ إطاعـة الرسول واُولي الأمر لابدّ وأن يكون المراد منها ذلك، كما لايخفى. فاتّحاد السياق يقضي بكون المراد من إطاعـة اللّه أيضاً ليس إلاّ مجرّد الموافقـة فتدبّر. هذا كلّـه في الإشكال على مطلق الاحتياط.
وأمّا الإشكال
الذي يختصّ بالشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي، فتارة من جهة التكرار، واُخرى من أجل اعتبار قصد القربـة والوجـه ونظائرهما في العبادة.
(الصفحة 301)
أمّا من الجهـة الاُولى فمحصّلـه:
أنّ تكرار العبادة مع إمكان تحصيل العلم التفصيلي يعدّ لعباً بأمر المولى، واللعب والعبث ينافي العبوديّـة التي هي غايـة الفعل العبادي، بل نقول: إنّ حصول اللعب بالتكرار لا يختصّ بالعبادة، بل يجري في غيرها.
ألا ترى أنّـه لو علم عبد بأنّ المولى طلب منـه شيئاً مردّداً بين اُمور مختلفـة وكان قادراً على تحصيل العلم التفصيلي بمطلوب المولى، ولكن اكتفى بالامتثال الإجمالي، فأحضر عدّة من العلماء وعملـة المولى وجماعـة من الصنوف المختلفـة يعدّ لاعباً بأمر المولى وأنّـه في مقام الاستهزاء والسخريّـة. فيستفاد منـه أنّ التكرار لعب بأمر المولى فلا يجوز.
والجواب أمّا أوّلا:
أنّ المدّعى هو كون التكرار مطلقاً لعباً بأمر المولى، وهو لا يثبت بكونـه لعباً في بعض الموارد كما في مثل المثال، لأنّ كثيراً من موارد التكرار لا يكون فيـه لعب أصلا.
ألا ترى أنّـه لو كان لـه ثوبان أحدهما طاهر والآخر نجس، وكان قادراً على غسل أحدهما، ولكن كان ذلك متوقّفاً على تحمّل مشقّـة وصرف وقت كثير، فصلّى فيهما معاً هل يعدّ هذا الشخص لاعباً ولاغياً؟ وكذا لو دار الواجب في يوم الجمعـة بين الظهر وصلاة الجمعـة وكان قادراً على السؤال عن الفقيـه ـ مثلا ـ لكن كان لـه محذور عرفي في السؤال إمّا من ناحيتـه، أو من ناحيـة الفقيـه، فجمع بينهما هل يعدّ لاعباً؟ كلاّ. وبالجملـة فالمدّعى لا يثبت بما ذكره.
وأمّا ثانياً: لو فرض كون التكرار لعباً وعبثاً، لكن نقول: إنّ المعتبر في صحّـة العبادة أن يكون أصل الإتيان بها بداعي تعلّق الأمر بها من المولى، وأمّا الخصوصيات الخارجـة عن حقيقـة العبادة كالمكان والزمان ونحوهما في مثل
(الصفحة 302)
الصلاة فلا يعتبر أن يكون الإتيان بها بداعي الأمر، بل لا وجـه لـه بعد كونها خارجـة عن متعلّق الأمر. كيف ولو اعتبر الاخلاص فيها يلزم عدم صحّـة شيء من العبادات، كما هو واضح. هذا مع أنّ التكرار لا يكون من الخصوصيّات أصلا، ضرورة أنّ الإتيان بالصلاة في ثوبين لا يكون شيء من الصلاتين من خصوصيات الصلاة الاُخرى ككونها واقعـة في مكان كذا أو زمان كذا، بل كلّ منهما أمر مستقلّ، كما لايخفى.
وبالجملـة: فالمراد بكون التكرار لعباً إن كان هو اللعب بأمر المولى فنمنع ذلك جدّاً; لأنّـه ليس لعباً إلاّ في كيفيّـة الإطاعـة، وإن كان هو اللعب ولو في خصوصيّات العمل، فنمنع كون هذا اللعب مؤثّراً في البطلان.
وأمّا من الجهـة الثانيـة فمحصّلـه:
أنّـه يعتبر في العبادة قصد القربـة والوجه والتميـيز والجزم بالنيّة، ولا يتحقّق ذلك إلاّ مع العلم التفصيلي بالمأموربه.
والجواب ـ مضافاً إلى منع توقّف قصد القربـة والوجـه والتميـيز على العلم التفصيلي، بل يتحقّق في الامتثال الإجمالي أيضاً بداهةً. نعم الجزم بالنيّة لا يتحقّق إلاّ مع العلم التفصيلي ـ أنّـه لا دليل على اعتبار ذلك في العبادة، لعدم الدليل عليـه لا عقلا ولا شرعاً.
أمّا عقلا فواضح، وأمّا شرعاً فلخلوّ النصوص عن الدلالـة على اعتبارها، ومن الواضح أنّ الأمر بالشيء لا يقتضي إلاّ مجرّد الإتيان بـه في الخارج، فإطلاق دليل الأمر دليل على العدم، بناءً على ما حقّقنا في مباحث الألفاظ من إمكان أخذ ذلك كلّـه في متعلّق الأمر، وعلى تقدير القول بعدم الإمكان فحيث إنّـه لا سبيل للعقل إلى تشخيص كونها معتبرة، بل اللازم أن يبيّنـه الشارع، والمفروض عدم دليل شرعي على اعتبارها، فلا وجـه للقول بـه.