(الصفحة 300)
الذهنيّـة حيث كانت كاشفـة عن الواقع وحاكيـة لـه يكون الانبعاث معها مستنداً إلى الواقع، وهي وسيلـة إلى النيل بـه والوصول إليـه، فالباعث في الحقيقـة هو نفس البعث لا الصورة الذهنيّـة. كيف وهذه الصورة مغفولـة عنها غير متوجّـه إليها، لأنّ العالم بالبعث لا يرى إلاّ نفس البعث، ولا يتوجّـه إلى صورتـه المعلومـة بالذات أصلا، كما لايخفى.
وثانياً:
أنّ المراد بكون الإطاعـة هو الانبعاث ببعث المولى، هل هو لزوم كون الانبعاث مستنداً إلى البعث من دون واسطـة، أو لزوم كون الانبعاث مستنداً إليـه ولو بالعرض؟ فعلى الأوّل نمنع الصغرى، لعدم الدليل على كون الإطاعـة عبارة عن الانبعاث عن البعث بالذات، وعلى الثاني نمنع الكبرى، لوضوح إمكان الانبعاث ببعث المولى بالعرض، بل قد عرفت أنّـه في صورة العلم دائماً يكون الانبعاث مستنداً إلى البعث تبعاً.
وثالثاً:
أنّ ما ذكر في الإشكال مبني على لزوم عنوان الإطاعـة، مع أنّـه لا دليل عليـه. والإطاعـة المأمور بها في قولـه تعالى:
(أَطِيعُوا اللهَ... )(1) إلى آخره ليس المراد بها إلاّ مجرّد الموافقـة وعدم المخالفـة، والدليل عليـه أنّ إطاعـة الرسول واُولي الأمر لابدّ وأن يكون المراد منها ذلك، كما لايخفى. فاتّحاد السياق يقضي بكون المراد من إطاعـة اللّه أيضاً ليس إلاّ مجرّد الموافقـة فتدبّر. هذا كلّـه في الإشكال على مطلق الاحتياط.
وأمّا الإشكال
الذي يختصّ بالشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي، فتارة من جهة التكرار، واُخرى من أجل اعتبار قصد القربـة والوجـه ونظائرهما في العبادة.
(الصفحة 301)
أمّا من الجهـة الاُولى فمحصّلـه:
أنّ تكرار العبادة مع إمكان تحصيل العلم التفصيلي يعدّ لعباً بأمر المولى، واللعب والعبث ينافي العبوديّـة التي هي غايـة الفعل العبادي، بل نقول: إنّ حصول اللعب بالتكرار لا يختصّ بالعبادة، بل يجري في غيرها.
ألا ترى أنّـه لو علم عبد بأنّ المولى طلب منـه شيئاً مردّداً بين اُمور مختلفـة وكان قادراً على تحصيل العلم التفصيلي بمطلوب المولى، ولكن اكتفى بالامتثال الإجمالي، فأحضر عدّة من العلماء وعملـة المولى وجماعـة من الصنوف المختلفـة يعدّ لاعباً بأمر المولى وأنّـه في مقام الاستهزاء والسخريّـة. فيستفاد منـه أنّ التكرار لعب بأمر المولى فلا يجوز.
والجواب أمّا أوّلا:
أنّ المدّعى هو كون التكرار مطلقاً لعباً بأمر المولى، وهو لا يثبت بكونـه لعباً في بعض الموارد كما في مثل المثال، لأنّ كثيراً من موارد التكرار لا يكون فيـه لعب أصلا.
ألا ترى أنّـه لو كان لـه ثوبان أحدهما طاهر والآخر نجس، وكان قادراً على غسل أحدهما، ولكن كان ذلك متوقّفاً على تحمّل مشقّـة وصرف وقت كثير، فصلّى فيهما معاً هل يعدّ هذا الشخص لاعباً ولاغياً؟ وكذا لو دار الواجب في يوم الجمعـة بين الظهر وصلاة الجمعـة وكان قادراً على السؤال عن الفقيـه ـ مثلا ـ لكن كان لـه محذور عرفي في السؤال إمّا من ناحيتـه، أو من ناحيـة الفقيـه، فجمع بينهما هل يعدّ لاعباً؟ كلاّ. وبالجملـة فالمدّعى لا يثبت بما ذكره.
وأمّا ثانياً: لو فرض كون التكرار لعباً وعبثاً، لكن نقول: إنّ المعتبر في صحّـة العبادة أن يكون أصل الإتيان بها بداعي تعلّق الأمر بها من المولى، وأمّا الخصوصيات الخارجـة عن حقيقـة العبادة كالمكان والزمان ونحوهما في مثل
(الصفحة 302)
الصلاة فلا يعتبر أن يكون الإتيان بها بداعي الأمر، بل لا وجـه لـه بعد كونها خارجـة عن متعلّق الأمر. كيف ولو اعتبر الاخلاص فيها يلزم عدم صحّـة شيء من العبادات، كما هو واضح. هذا مع أنّ التكرار لا يكون من الخصوصيّات أصلا، ضرورة أنّ الإتيان بالصلاة في ثوبين لا يكون شيء من الصلاتين من خصوصيات الصلاة الاُخرى ككونها واقعـة في مكان كذا أو زمان كذا، بل كلّ منهما أمر مستقلّ، كما لايخفى.
وبالجملـة: فالمراد بكون التكرار لعباً إن كان هو اللعب بأمر المولى فنمنع ذلك جدّاً; لأنّـه ليس لعباً إلاّ في كيفيّـة الإطاعـة، وإن كان هو اللعب ولو في خصوصيّات العمل، فنمنع كون هذا اللعب مؤثّراً في البطلان.
وأمّا من الجهـة الثانيـة فمحصّلـه:
أنّـه يعتبر في العبادة قصد القربـة والوجه والتميـيز والجزم بالنيّة، ولا يتحقّق ذلك إلاّ مع العلم التفصيلي بالمأموربه.
والجواب ـ مضافاً إلى منع توقّف قصد القربـة والوجـه والتميـيز على العلم التفصيلي، بل يتحقّق في الامتثال الإجمالي أيضاً بداهةً. نعم الجزم بالنيّة لا يتحقّق إلاّ مع العلم التفصيلي ـ أنّـه لا دليل على اعتبار ذلك في العبادة، لعدم الدليل عليـه لا عقلا ولا شرعاً.
أمّا عقلا فواضح، وأمّا شرعاً فلخلوّ النصوص عن الدلالـة على اعتبارها، ومن الواضح أنّ الأمر بالشيء لا يقتضي إلاّ مجرّد الإتيان بـه في الخارج، فإطلاق دليل الأمر دليل على العدم، بناءً على ما حقّقنا في مباحث الألفاظ من إمكان أخذ ذلك كلّـه في متعلّق الأمر، وعلى تقدير القول بعدم الإمكان فحيث إنّـه لا سبيل للعقل إلى تشخيص كونها معتبرة، بل اللازم أن يبيّنـه الشارع، والمفروض عدم دليل شرعي على اعتبارها، فلا وجـه للقول بـه.
(الصفحة 303)
نعم قد يستدلّ بالإجماع على ذلك، كما ادّعاه السيّد الرضي(1) على بطلان صلاة من صلّى ولا يعلم أحكامها، كما أنّـه قد اُدّعي الإجماع على بطلان عبادة تارك طريقي الاجتهاد والتقليد والأخذ بالاحتياط، ولكن كلّ ذلك ممّا لم يثبت.
نعم القدر المتيقّن أنّـه يعتبر في صحّـة العبادة أن لا يكون الداعي لها أمراً دنيوياً بل أمراً مرتبطاً باللّه جلّ شأنـه، والزائد على ذلك مشكوك مورد لجريان البراءة على ما عرفت سابقاً(2) من أنّ مقتضى التحقيق هو جريان البراءة في الأقلّ والأكثر.
والفرق بين نيّـة الوجـه وبين سائر الشروط من حيث جريان البراءة كما ذكره الشيخ في الرسالـة(3) ممّا لا يتمّ. كما أنّ دعوى كون المقام من صغريات مسألـة التعيـين والتخيـير لا مسألـة الأقلّ والأكثر ممنوعـة جدّاً.
وبالجملـة: فالظاهر صحّـة عبادة المحتاط، هذا كلّـه في الإشكال في الاحتياط في أطراف العلم الإجمالي.
وأمّا الإشكال
الراجع إلى الاحتياط فيما إذا كان على خلافـه حجّـة شرعيّـة، فهو ما ذكره المحقّق النائيني على ما في التقريرات، ومحصّلـه: أنّـه يعتبر في حسن الاحتياط إذا كان على خلافـه حجّـة شرعيّـة أن يعمل المكلّف أوّلا بمؤدّى الحجّـة، ثمّ يعقّبـه بالعمل على خلاف ما اقتضتـه الحجّـة إحرازاً للواقع، وليس للمكلّف أن يعمل بالعكس إلاّ إذا لم يستلزم الاحتياط استئناف
- 1 ـ اُنظر ذكرى الشيعـة 4: 325، فرائد الاُصول 2: 508.
- 2 ـ تقدّم في الصفحـة 176 و 195.
- 3 ـ فرائد الاُصول 2: 507.
(الصفحة 304)
جملـة العمل وتكراره. والسرّ في ذلك أنّ معنى اعتبار الطريق إلقاء احتمال مخالفتـه للواقع عملا وعدم الاعتناء بـه، والعمل أوّلا برعايـة احتمال مخالفـة الطريق للواقع ينافي إلقاء احتمال الخلاف، فإنّ ذلك عين الاعتناء باحتمال الخلاف، وهذا بخلاف ما إذا قدّم العمل بمؤدّى الطريق، فإنّـه حيث قد أدّى المكلّف ما هو الوظيفـة وعمل بما يقتضيـه الطريق فالعقل يستقلّ بحسن الاحتياط لرعايـة إصابـة الواقع، هذا مضافاً إلى أنّـه يعتبر في حسن الطاعـة الاحتماليّـة عدم التمكّن من الطاعـة التفصيليّـة، وبعد قيام الطريق المعتبر يكون المكلّف متمكّناً من الامتثال التفصيلي بمؤدّى الطريق، فلا يحسن منـه الامتثال الاحتمالي(1)، انتهى.
ويرد عليـه أوّلا:
أنّ معنى حجّيـة الأمارة واعتبارها ليس إلاّ مجرّد وجوب العمل على طبقها وترتيب آثار الواقع عليها في مقام العمل، وأمّا دلالـة دليل الحجّيـة على لزوم إلقاء احتمال الخلاف فلم نعرف لها وجهاً. وبالجملـة: فحجّيـة الأمارة معناها مجرّد عدم جواز ترك العمل بها وهذا لا ينافي الإتيان على طبق الاحتمال المخالف من باب الاحتياط، كما هو واضح.
وثانياً:
أنّ تقدّم رتبـة الامتثال التفصيلي على الامتثال الاحتمالي ممنوع، بل الظاهر كونهما في عرض واحد ورتبـة واحدة، فمع التمكّن مع تحصيل العلم يجوز لـه الاقتصار على الامتثال الاحتمالي. والسرّ أنّـه لا يعتبر في تحقّق الإطاعـة أزيد من الإتيان بالمأمور بـه مع جميع القيود المعتبرة فيـه ولو بداعي احتمال الأمر، ولا فرق بينهما في نظر العقل أصلا.
- 1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4: 265.