(الصفحة 307)
وبالجملـة: فالبعث الواقعي لا يكون باعثاً ما لم يصر مكشوفاً، والكاشف عنـه إنّما هو العلم ونحوه. وأمّا الاحتمال فلا يعقل أن يكون كاشفاً، وإلاّ لكان اللازم أن يكشف عن طرفي الوجود والعدم، كما هو واضح. فمع الاحتمال لا يكون البعث الواقعي باعثاً ومحرّكاً، وبدون الباعثيّـة لا يمكن أن يكون منجّزاً، ومع عدم التنجّز لا وجـه لاستحقاق العقوبـة على مخالفتـه، وهذا بلا فرق بين كون المكلّف قادراً على الفحص وعدمـه.
ويرد عليـه أوّلا: النقض بما إذا قامت الحجّـة المعتبرة من قبل المولى على ثبوت التكليف وفرض عدم إفادتها الظنّ، بل كان التكليف مع قيام الأمارة أيضاً مشكوكاً أو مظنون الخلاف، فإنّـه يجري فيـه هذا الإشكال، ومقتضاه حينئذ عدم ثبوت العقاب على مخالفتـه على تقدير ثبوتـه في الواقع، مع أنّـه واضح البطلان، وإلاّ يلزم لغويّـة اعتبار الأمارة، كما هو واضح، مضافاً إلى أنّـه لا يلتزم بـه المستشكل أيضاً.
وثانياً: الحلّ بأنّـه لا نسلّم أن يكون المنجّزيّـة متفرّعـة على الباعثيّـة، لأنّ المنجّزيـة الراجعـة إلى صحّـة عقوبـة المولى على المخالفـة والعصيان حكم عقلي، وقد عرفت أنّ العقل يحكم بعدم المعذوريّـة وبصحّـة العقوبـة لو بيّن المولى التكليف بنحو المتعارف، بحيث كان العبد متمكّناً من الاطّلاع عليـه بالمراجعـة إلى مظانّ ثبوتـه ولم يراجع، فخالف اعتماداً على البراءة كما عرفت في مثال المكتوب الواصل من المولى إلى العبد ويحتمل اشتمالـه على بعض التكاليف، والظاهر أنّ هذا من الوضوح بمكان، فلا موقع لهذا الإشكال.
ثمّ إنّـه قد يقرّر وجوب الفحص بوجـه آخر
،
ومحصّلـه: أنّ ارتكاب التحريم قبل الفحص والمراجعـة إلى مظانّ ثبوتـه ظلم على المولى، والظلم خصوصاً
(الصفحة 308)
على المولى قبيح محرّم، فلو اقتحم في المشتبـه قبل الفحص يستحقّ العقوبـة لأجل الظلم على المولى، كما أنّـه في موارد التجرّي يستحقّ العقوبـة عليـه وإن كان لا يستحقّ العقوبـة على مخالفـة الواقع في المقامين.
ويرد عليـه: أنّ تحقّق عنوان الظلم في المقام ليس إلاّ من جهـة احتمال حصول المخالفـة بالاقتحام في المشتبـه، ضرورة أنّـه مع العلم بعدم وجود التكليف في البين لا يكون مجرّد ترك الفحص من مصاديق ذلك العنوان، فترك الفحص وارتكاب محتمل التحريم إنّما يكون ظلماً لأجل احتمال تحقّق المخالفـة التي هي قبيحـة موجبـة لاستحقاق العقوبـة.
وحينئذ نقول: بعد جريان حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ولو قبل ترك الفحص ـ كما هو المفروض ـ لا يبقى مجال لاحتمال تحقّق المخالفـة القبيحـة أصلا ومع انتفاء هذا الاحتمال يخرج المقام عن تحت عنوان الظلم على المولى، كما هو واضح.
ومن هنا يظهر الفرق بين المقام وبين مسألـة التجرّي: فإنّ الموضوع للحكم بالقبح والحرمـة هناك على تقدير ثبوتـه إنّما هو نفس عنوان التجرّي، الراجع إلى الطغيان على المولى والخروج عن رسم الرقيّـة والعبوديّـة، وهذا لا يتوقّف تحقّقـه على ثبوت التكليف، بل يصدق على كلا التقديرين، بخلاف المقام. فإنّ تحقّق عنوان الظلم يتوقّف على عدم حكم العقل بقبح العقاب ولو قبل الفحص، والمفروض حكمـه بذلك مطلقاً، فتدبّر، هذا.
وقد يقرّر حكم العقل بوجوب الفحص بوجـه ثالث وهو:
أنّ كلّ من التفت إلى المبدء والشريعـة يعلم إجمالا بثبوت أحكام فيها، ومقتضى العلم الإجمالي هو الفحص عن تلك الأحكام.
(الصفحة 309)
ولا يخفى ضعف هذا الوجـه، لأنّ الكلام إنّما هو في شرائط جريان أصل البراءة بعد كون المورد المفروض مجرى لها، وقد عرفت أنّ مجريها هو الشكّ في أصل التكليف وعدم العلم بـه لا إجمالا ولا تفصيلا. فلو فرض ثبوت العلم الإجمالي يخرج المورد عن مجريها، فالتمسّك لاعتبار وجوب الفحص في جريانها بالعلم الإجمالي لا يبقى لـه موقع أصلا، كما هو أظهر من أن يخفى. ولكن حيث إنّـه وقع مورداً للنقض والإبرام بين الأعلام فلا مانع من التعرّض لحالـه بما يسعـه المقام، فنقول:
قد نوقش في الاستدلال بالعلم الإجمالي لوجوب الفحص تارةً: بأنّـه أخصّ من المدّعى، لأنّ المدّعى هو وجوب الفحص والاستعلام في كلّ مسألـة تعمّ بها البلوى، وهذا الاستدلال إنّما يوجب الفحص قبل استعلام جملـة من الأحكام بمقدار يحتمل انحصار المعلوم بالإجمال فيـه، لانحلال العلم الإجمالي بذلك.
واُخرى: بأنّـه أعمّ من المدّعى، لأنّ المدّعي هو الفحص عن الأحكام في خصوص ما بأيدينا من الكتب، والمعلوم بالإجمال معنى أعمّ من ذلك، لأنّ متعلّق العلم هي الأحكام الثابتـة في الشريعـة واقعاً، لا خصوص ما بأيدينا، والفحص فيما بأيدينا من الكتب لا يرفع أثر العلم الإجمالي، بل العلم باق على حالـه ولو بعد الفحص التامّ عمّا بأيدينا، هذا.
وأجاب المحقّق النائيني
(قدس سره)
ـ على ما في التقريرات ـ عن المناقشـة الاُولى بأنّ استعلام مقدار من الأحكام يحتمل انحصار المعلوم بالإجمال فيها لا يوجب انحلال العلم الإجمالي، لأنّ متعلّق العلم تارة: يتردّد من أوّل الأمر بين الأقلّ والأكثر، كما لو علم بأنّ في هذا القطيع من الغنم موطوء وتردّد بين كونـه عشرة أو
(الصفحة 310)
عشرين. واُخرى: يكون المتعلّق عنواناً ليس بنفسـه مردّداً بين الأقلّ والأكثر من أوّل الأمر، بل المعلوم بالإجمال هو العنوان بما لـه في الواقع من الأفراد، كما لو علم بموطوئيّـة البيض من هذا القطيع وتردّدت البيض بين كونها عشراً أو عشرين، ففي الأوّل ينحلّ العلم الإجمالي، وفي الثاني لا ينحلّ، بل لابدّ من الفحص التامّ عن كلّ ما يحتمل انطباق العنوان المعلوم بالإجمال عليـه، لأنّ العلم الإجمالي يوجب تنجيز متعلّقـه بما لـه من العنوان.
ففي المثال: العلم الإجمالي تعلّق بعنوان البيض بما لـه من الأفراد في الواقع، فكلّ ما كان من أفراد البيض واقعاً قد تنجّز التكليف بـه، ولازم ذلك هو الاجتناب عن كلّ ما يحتمل كونـه من أفراد البيض، والمقام من هذا القبيل، لأنّ المعلوم بالإجمال هي الأحكام الموجودة فيما بأيدينا من الكتب، فقد تنجّزت بسبب هذا العلم الإجمالي جميع الأحكام المثبتـة في الكتب، ولازم ذلك هو الفحص التامّ عن جميع الكتب التي بأيدينا، ولا ينحلّ العلم الإجمالي باستعلام جملـة من الأحكام يحتمل انحصار المعلوم بالإجمال فيها.
ألا ترى أنّـه ليس للمكلّف الأخذ بالأقل لو علم باشتغال ذمّتـه لزيد بما في الطومار وتردّد ما في الطومار بين الأقلّ والأكثر، بل لابدّ لـه من الفحص التامّ في جميع صفحات الطومار، كما عليـه بناء العرف والعقلاء، وما نحن فيـه يكون بعينـه من هذا القبيل.
وعن المناقشـة الثانيـة بأنّـه وإن علم إجمالا بوجود أحكام في الشريعـة أعمّ ممّا بأيدينا من الكتب، إلاّ أنّـه يعلم إجمالا أيضاً بأنّ فيما بأيدينا من الكتب أدلّـة مثبتـة للأحكام مصادفـة للواقع بمقدار يحتمل انطباق ما في الشريعـة عليها، فينحلّ العلم الإجمالي العامّ بالعلم الإجمالي الخاصّ، ويرتفع الإشكال بحذافيره
(الصفحة 311)
ويتمّ الاستدلال لوجوب الفحص، فتدبّر جيّداً(1)، انتهى.
ويرد عليـه أوّلا:
أنّ ما ذكره من الفرق في الانحلال وعدمـه بين ما لو كان متعلّق العلم الإجمالي بنفسـه مردّداً بين الأقلّ والأكثر، وبين ما كان عنواناً ليس مردّداً بينهما من أوّل الأمر إنّما يتمّ لو كان متعلّق العلم الإجمالي في القسم الثاني نسبتـه إلى المعنون كنسبـة المحصِّل إلى المحصَّل، وأمّا لو لم يكن من هذا القبيل كما في المثال الذي ذكره فلا وجـه لعدم الانحلال، لانحلال التكليف إلى التكاليف المتعدّدة المستقلّـة حسب تعدّد المعنونات وتكثّرها، وحينئذ فلا يبقى فرق بين القسمين.
وثانياً:
لو قطع النظر عن ذلك نقول: إنّ تعلّق العلم الإجمالي بعنوان يوجب تنجيز متعلّقـه إذا كان متعلّقـه موضوعاً للحكم الشرعي، وأمّا إذا لم يكن ممّا يترتّب عليـه الحكم في الشريعـة فلا أثر لـه بالنسبـة إليـه، كما في المثال الذي ذكره. فإنّ الموضوع للحكم بالحرمـة ووجوب نفي البلد ـ مثلا ـ إنّما هو الحيوان الموطوء بما أنّـه موطوء، وأمّا كونـه أبيض أو أسود فلا دخل لـه في ترتّب الحكم وحينئذ فالعلم الإجمالي بموطوئيّـة البيض من هذا القطيع لا يؤثّر إلاّ بالنسبـة إلى ما علم كونـه موطوءاً، لكونـه الموضوع للأثر الشرعي.
وكذا المقام، فإنّا إنّما نكون مأخوذين بالأحكام الواقعيـة الثابتـة في الشريعـة، وأمّا عنوان كونها مضبوطـة في الكتب التي بأيدينا فهو ممّا لا ارتباط لـه بذلك أصلا، كما هو واضح.
ومن المعلوم أنّ العلم الإجمالي بتلك الأحكام الثابتـة في الشريعـة يكون
- 1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4: 279 ـ 280.