(الصفحة 320)
أكثرها عنوان الاختلاف. والظاهر أنّـه لا فرق بينهما عند العرف الذي يكون هو المرجع في تشخيص مثل هذه الاُمور الواقعـة في موضوعات الأحكام. فكما أنّ تشخيص الماء والخمر والكلب وغيرها من العناوين المأخوذة في الموضوعات راجع إلى العرف ولا مدخليـة للشارع بما هو شارع فيها، فكذلك تشخيص عنوان التعارض والاختلاف الواقع بين الدليلين أو الأدلّـة راجع إليـه أيضاً، لعدم الفرق بين الموارد أصلا.
نعم يقع الكلام في تعيـين مورد التشخيص وأنّـه في أيّ مورد يحكم بالتعارض فنقول: لا خفاء في أنّ السالبـة الكلّيـة تناقض الموجبـة الجزئيّـة، وكذا في أنّ الموجبـة الكلّيـة تناقض السالبـة الجزئيـة، وقد بيّن ذلك في علم الميزان، ومع ذلك نرى أنّ العرف لا يحكم بالتناقض بينهما في بعض الموارد. ألا ترى أنّ العرف والعقلاء لا يحكم بتعارض الخاصّ والعامّ، مع أنّ أمرهما غالباً لا يخلو عن السالبـة الكلّيـة والموجبـة الجزئيـة أو العكس.
والدليل على عدم حكمهم بتعارضهما ـ مضافاً إلى الوجدان ـ اشتمال القرآن على مثل ذلك مع تصريحـه بعدم الاختلاف فيـه، وأنّـه
(لَو كانَ مِن عِندِ غَيرِ اللّهِ لَوَجَدُوا فِيـه اختِلافاً كَثِيراً )(1) ولو كان مثل ذلك من قبيل الدليلين المتعارضين عند العقلاء لما كان لاعتصامهم بحبل القرآن مع اشتمالـه على ذلك مجال أصلا، كما هو أوضح من أن يخفى، هذا.
ولكن الظاهر أنّ الحكم بعدم تعارضهما ليس مطلقاً وفي جميع الموارد، لأنّا نراهم أيضاً يحكمون بالمعارضـة فيما لو وقعا في كلام متكلّم عادي، أو في تصنيف
(الصفحة 321)
مصنّف كذلك، فإنّـه لو وقع في مورد من الرسالـة العمليّـة لفقيـه: أنّـه يجب الوفاء بجميع العقود مثلا، وفي مورد آخر منها: أنّـه لا يجب الوفاء بالعقد الربوي، يرون التعارض بينهما، مع أنّهم لا يرونـه بالنسبـة إلى القرآن الدالّ على ذلك بقولـه تعالى:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوفُوا بِالعُقُودِ )(1) وقولـه تعالى:
(وَحَرَّمَ الـرِّبَا )(2).
والسرّ في ذلك مغايرة محيط التقنين وجعل الأحكام الكلّيـة والقوانين العامّـة لمحيط غيره، كما هو الشأن في القوانين الموضوعـة عند العقلاء، فإنّ بنائهم أوّلا على جعل القانون على سبيل العموم ثمّ تخصيص بعض الموارد بعنوان التبصرة وغيره مثلا.
ومرجع ذلك إلى أنّ أصالـة العموم بالنسبـة إلى العموم القانوني لا تبلغ مـن القوّة حدّ مثلها الجاري في غير العموم القانوني، فإنّـه في غيره يعتمد عليها من دون لزوم فحص عن مخصّص، بل قد عرفت(3) أنّـه على تقدير ثبوت المخصّص لا يرونـه إلاّ معارضاً لـه يعملون معهما معاملـة المتعارضين، وهذا بخـلاف أصالـة العموم الجـاريـة فـي العمومـات القانونيـة، فإنّها ضعيفـة غير جاريـة قبل الفحص عن المخصّص، وبعد الفحص أيضاً مع الظفر به، لكونه مقدّماً عليه عندهم ولايكون معارضاً له.
- 1 ـ المائدة (5): 1.
- 2 ـ البقرة (2): 275.
- 3 ـ تقدّم في الجزء الأوّل: 302.
(الصفحة 322)
الكلام في وجه تقدّم الخاصّ على العامّ
فانقدح: أنّ الوجه في تقدّم الخاصّ على العامّ هو اختلاف المحيطين وتغايرهما وأنّ عدم تعارضهما إنّما هو في خصوص محيط التقنين دون غيره.
ثمّ إنّ ما ذكرنا إنّما هو في غير ما إذا كان الخاصّ قطعيّاً من حيث السند والدلالـة معاً، وأمّا لو كان كذلك لا يبقى معـه مجال لجريان أصالـة العموم في العامّ، ضرورة أنّ مورده الشكّ وعدم العلم بالتخصيص ومع العلم بـه لا يبقى لها مورد، كما لايخفى.
ثمّ إنّـه قد ذكر
في وجـه تقديم الخاصّ على العامّ وجوه اُخر لابأس بذكرها وما يرد عليها:
كلام الشيخ الأنصاري وما يرد عليه
أحدها:
ما أفاده الشيخ (قدس سره)
في رسائلـه حيث قال بعد تفسير الورود والحكومـة والفرق بين الحكومـة والتخصيص ما ملخّصـه: إنّ ما ذكرنا من الورود والحكومـة جار في الاُصول اللفظيـة أيضاً، فإنّ أصالـة الحقيقـة أو العموم معتبرة إذا لم يعلم هناك قرينـة على المجاز فإن كان المخصّص دليلا علمياً كان وارداً على الأصل المذكور، وإن كان ظنّياً معتبراً كان حاكماً على الأصل، لأنّ معنى حجّيـة الظنّ جعل احتمال مخالفـة مؤدّاه للواقع بمنزلـة العدم في عدم ترتّب ما كان يترتّب عليـه من الأثر لولا حجّيـة هذه الأمارة، وهو وجوب العمل بالعموم عند وجود المخصّص وعدمـه، فعدم العبرة باحتمال عدم التخصيص إلغاء للعمل بالعموم، فثبت أنّ النصّ وارد على أصالـة الحقيقـة إذا كان قطعيّاً من جميع
(الصفحة 323)
الجهات وحاكم عليـه إذا كان ظنّياً في الجملـة كالخاصّ الظنّي السند مثلا، ويحتمل أن يكون الظنّ أيضاً وارداً بناءً على كون العمل بالظاهر عرفاً وشرعاً معلّقاً على عدم التعبّد بالتخصيص، فحالها حال الاُصول العقليّـة، فتأمّل. هذا على تقدير كون أصالـة الظهور من حيث أصالـة عدم القرينـة.
وأمّا إذا كان من جهـة الظنّ النوعي الحاصل بإرادة الحقيقـة الحاصل من الغلبـة أو غيرها فالظاهر أنّ النصّ وارد عليـه مطلقاً وإن كان النصّ ظنّياً، لأنّ الظاهر أنّ دليل حجّيـة هذا الظنّ مقيّد بصورة عدم وجود ظنّ معتبر على خلافـه، فإذا وجد ارتفع موضوع ذلك الدليل، ويشهد لـه أنّا لم نجد ولا نجد من أنفسنا مورداً يقدّم فيـه العامّ من حيث هو على الخاصّ وإن فرض كونـه أضعف الظنون المعتبرة. نعم لو فرض الخاصّ ظاهراً خرج عن النصّ وصار من باب تعارض الظاهرين، فربّما يقدّم العامّ(1)، انتهى.
وفيـه مواقع للنظر:
منها: أنّ الحكم بورود النصّ على أصالـة الحقيقـة إذا كان قطعيّاً من جميع الجهات خلاف ما جرى عليـه الاصطلاح، بل الظاهر أنّ مفاده خارج عن أصالـة الظهور بالتخصّص، لأنّ ورود أحد الدليلين على الآخر إنّما يكون بمعونـة التعبّد بأحدهما، والنصّ القطعي السند لا يحتاج إلى التعبّد، بل الورود إنّما هو في مثل تقدّم الأمارات على أصل البراءة ـ مثلا ـ بناءً على أن يكون المراد بـ
«ما لا يعلمون» في حديث الرفع هو مطلق ما لا حجّـة فيـه، لا خصوص ما لا علم بـه، كما اخترناه سابقاً في مبحث البراءة، فإنّـه حينئذ يكون قيام الأمارة المعتبرة شرعاً رافعاً لموضوع الأصل لأجل كونها حجّـة شرعيّـة، كما لايخفى.
- 1 ـ فرائد الاُصول 2: 751 ـ 752.
(الصفحة 324)
ومنها: أنّ ما أفاده على سبيل الاحتمال وأمر في ذيلـه بالتأمّل وهو مشعر ببطلانـه من أن يكون الظنّ وارداً على أصالـة الظهور ـ بناءً على كون العمل بالظاهر معلّقاً على عدم التعبّد بالتخصيص ـ حقّ لا محيص عنـه، فإنّـه لو كان مستند أصالـة الظهور هي أصالـة عدم القرينـة ـ كما هـو المفروض ـ يكون التعبّد بالظنّ واعتباره تعبّداً بوجود القرينـة، ومع وجودها بحكم التعبّد يكون الظنّ وارداً عليها قطعاً، لخروج مؤدّاه عنها بمعونـة التعبّد بوجود القرينـة، كما هو غير خفي.
ومنها: أنّ الحكم بورود النصّ الظنّي على أصالـة الظهور التي مستندها الظنّ النوعي بإرادتـه الحاصل من الغلبـة أو من غيرها، لكون دليل حجّيـة هذا الظنّ مقيّد بصورة عدم وجود ظنّ معتبر على خلافـه، غير تامّ; لأنّ الطرفين حينئذ ثابتان ببناء العقلاء، ضرورة أنّ حجّيـة الظواهـر لا مستند لها إلاّ بناء العقلاء، كما أنّـه المستند الفرد لاعتبار خبر الواحـد ـ بناءً على ما هو التحقيق على ما مرّ في بحث خبر الواحد ـ ولا معنى لورود أحدهما على الآخـر، كما أنّـه لا معنى لحكومـة الثاني على الأوّل بناءً على كون أصالـة الظهور من حيث أصالـة عدم القرينـة على ما صرّح بـه في أوّل كلامـه، لأنّ الحكومـة والورود مـن أحـوال الدليل اللفظي كما اعترف بـه في تفسير الحكومـة حيث قال: ضابطها أن يكون أحد الدليلين بمدلولـه اللفظي متعرّضاً لحال الدليل الآخر... إلى آخره(1).
وأمّا ما استشهد بـه لما أفاده من أنّا لم نجد ولا نجد من أنفسنا مورداً يقدّم فيـه العامّ على الخاصّ... إلى آخره، فغايـة ذلك هو تقدّم الخاص على العامّ.
- 1 ـ فرائد الاُصول 2: 750.