(الصفحة 342)
وإن كان هو التعارض المستقرّ الغير الزائل بالتأمّل والتوجّـه فمن المعلوم عدم تحقّقـه في الأظهر والظاهر أيضاً، فلا وجـه لدعوى دخولـه فيها موضوعاً، مع أنّـه على تقدير دخولـه فيها لا وجـه لدعوى الخروج الحكمي، فإنّـه ليس في شيء من الأخبار العلاجيّـة الإشعار بالجمع الدلالي وكونـه متقدّماً على إعمال المرجّحات السنديّـة، كما هو واضح.
وأمّا الثاني: فلأنّ تقديم النصّ على الظاهر أيضاً مشروط بكونـه مـورداً لقبول العقلاء، ألا تـرى أنّهم لا يقدّمـون قولـه: صلِّ فـي الحمام ـ مثلا ـ على قولـه: لا تصلِّ في الحمام كـذلك.
مـع أنّ الأوّل نصّ في الجـواز، والثاني ظاهـر في عدمـه، بل يعاملون معهما معاملـة المتعارضين، كما يظهر بالمراجعـة إليهم.
فانقدح من ذلك: عدم الفرق بين النصّ والظاهر والأظهر والظاهر، وأنّـه لابـدّ فـي الحكم بتقديم النصّ أو الأظهـر مـن مساعـدة العقلاء، ثـمّ الحكـم بالخروج من أخبار العلاج موضوعاً، وليس في البين خروج حكمي، بل الأمر يدور بين الدخول في الموضوع وترتّب الآثار المترتّبـة عليـه وخروجـه عنـه، كما عرفت.
(الصفحة 343)
الفصل الخامس
في الموارد التي قيل أو يمكن أن يقال
باندراجها في النصّ والظاهر
، أو في الأظهر والظاهر
وهي وإن كانت غير منضبطة، لاختلافها باختلاف المقامات، إلاّ أنّـه يمكن ضبط كلّياتها غالباً، وحيث إنّ كلام المحقّق النائيني (قدس سره)
في هذا المقام أحسن وأشمل من حيث التعرّض لأكثر الموارد فنحن أيضاً نقتفي أثره ونتعرّض للموارد التي تعرّض لها مع ما أفاده فيها، ونضمّ إليه ما عندنا من الإيراد عليه لو كان.
في الموارد التي ادّعي اندراجها في النصّ والظاهر
فنقول:قال:
وجود قدر المتيقّن في مقام التخاطب
من جملـة ا لموارد ا لمندرجـة في ا لنصوصيّـة :
ما إذا كان لأحد الدليلين قدر متيقّن في مقام التخاطب، فإنّ القدر المتيقّن في مقام التخاطب وإن كان لا ينفع في مقام تقيـيد الإطلاق ما لم يصل إلى حدّ يوجب انصراف المطلق إلى المقيّد ـ كما تقدّم تفصيلـه في مبحث المطلق والمقيّد ـ إلاّ أنّ وجود القدر المتيقّن ينفع في مقام رفع التعارض عن الدليلين، فإنّ الدليل يكون كالنصّ في القدر المتيقّن، فيصلح لأن يكون قرينـة على التصرّف في الدليل الآخر.
(الصفحة 344)
مثلا لو كان مفاد أحد الدليلين وجوب إكرام العلماء، وكان مفاد الآخر حرمـة إكرام الفسّاق، وعلم من حال الآمر أنّـه يبغض العالم الفاسق ويكرهـه أشدّ كراهـة من الفاسق الغير العالم، فالعالم الفاسق متيقّن الاندراج في عموم قولـه: «لا تكرم الفسّاق» ويكون بمنزلـة التصريح بحرمـة إكرام العالم الفاسق، فلابدّ من تخصيص قولـه: «أكرم العلماء» بماعدا الفسّاق منهم(1)، انتهى.
ويرد عليـه:
أوّلا: أنّ القدر المتيقّن الذي يوجب أن يكون الـدليل نصّاً بالنسبـة إليـه هـو ما يوجب الانصراف، وليس لـه فردان، فرد موجب للانصراف، وفرد غير موجب لـه ومع وجود الانصراف لا تعارض بين الدليلين أصلا، بل يصيران من قبيل العـامّ والخـاصّ المطلـق الـذي عـرفت(2) أنّـه لا يصـدق عليهمـا عنـوان التعارض أصلا.
وثانياً: أنّـه على تقدير تسليم كون القدر المتيقّن مطلقاً موجباً لصيرورة الدليل نصّاً بالنسبـة إليـه نقول: تخصيص ذلك بخصوص ما إذا كان هنا قـدر متيقّن في مقام التخاطب لا وجـه لـه، فإنّ النصوصيّـة على تقديرها ثابتـة بالنسبـة إلـى مطلـق القـدر المتيقّن، سـواء كان فـي مقام التخـاطب أو في غيـر هـذا المقام.
وثالثاً ـ وهو العمدة في الجواب ـ: أنّ المراد بالقدر المتيقّن إن كان هو المقدار الذي علم حكمـه بحيث لم يكن في الحكم المتعلّق بـه ريب ولا شبهـة،
- 1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4: 728.
- 2 ـ تقدّم في الصفحـة 319 ـ 321.
(الصفحة 345)
مثلا علم في المثال أنّ العالم الفاسق محرّم الإكرام، فمع وجود هذا العلم يتحقّق الانصراف بالنسبـة إلى الدليل الآخر الدالّ بظاهره على وجوب إكرام العلماء عموماً، فإنّـه مع العلم بعدم وجوب إكرام العالم الفاسق بل حرمتـه كيف يبقى شكّ في مقدار دلالـة ذلك الدليل وإن كان ظاهره العموم؟
وإن كان المراد بـه أنّ ذلك المقدار متيقّن على تقدير ثبوت الحكم بالنسبـة إلى غيره، مثلا لو كان الجاهل الفاسق محرّم الإكرام لكان العالم الفاسق كذلك قطعاً بحيث كان المعلوم هو الملازمـة بين الأمرين، بل ثبوت الحكم في القدر المتيقّن بطريق أولى، فمن المعلوم أنّ ذلك لا يوجب كون الدليل الظاهر في حرمـة إكرام مطلق الفسّاق نصّاً بالنسبـة إلى العالم الفاسق، بل غايتـه عدم إمكان التفكيك وإدراج مورد الاجتماع في الدليل الآخر، وأمّا تقديمـه على ذلك الدليل فلا، فلِمَ لا يعمل معهما معاملـة المتعارضين؟
وبعبارة اُخرى: اللازم ممّا ذكر عدم جواز تقديم الدليل الآخر على هذا الدليل، لاستلزام التقديم الانفكاك الذي يكون معلوم الخلاف، وأمّا لزوم تقديم هذا الدليل والحكم بحرمـة إكرام جميع الفسّاق لأجل ما ذكر فلا دليل عليـه، بل يمكن معهما معاملـة المتعارضين، لأنّها أيضاً لا يوجب الانفكاك، فتدبّر جيّداً.
لزوم استهجان التخـصيص
ومنها:
ما إذا كانت أفراد أحد من العامّين من وجـه بمرتبـة من القلّـة بحيث لو خصّص بماعدا مورد الاجتماع مع العامّ الآخر يلزم التخصيص المستهجن، فيجمع بين الدليلين بتخصيص ما لا يلزم منـه التخصيص المستهجن وإبقاء ما يلزم
(الصفحة 346)
منـه ذلك على حالـه، لأنّ العامّ يكون نصّاً في المقدار الذي يلزم من خروجـه عنـه التخصيص المستهجن، ولا عبرة بقلّـة أحد أفراد العامين وكثرتها، بل العبرة باستلزام التخصيص المستهجن(1)، انتهى.
ويرد عليـه ـ مضافاً إلى أنّ النصوصيّـة إنّما هي من حالات الدلالـة، واستلزام التخصيص للاستهجان لا يغيّر حال الدلالـة أصلا، كما لايخفى ـ أنّ استلزام تقديم العامّ الآخر للتخصيص المستهجن إنّما يمنع عن التقديم، ولا يوجب تقديم ما يلزم من تخصيصـه ذلك، فيمكن المعاملـة معهما معاملـة المتعارضين.
وبالجملـة: الدليل لا ينطبق على المدّعى، فإنّ المدّعى هو تقديم ما يلزم من تخصيصـه الاستهجان، والدليل لا يدلّ إلاّ على المنع من تقديم العامّ الآخر الذي لايوجب تخصيصـه ذلك.
ورود أحد الدليلين مورد التحديدات والأوزان والمقادير
ومنها:
ما إذا كان أحد الدليلين وارداً مورد التحديدات والأوزان والمقادير والمسافـة ونحو ذلك، فإنّ وروده في هذه الموارد يوجب قوّة الظهور في المدلول بحيث يلحقـه بالنصّ، فيقدّم على غيره عند التعارض(2)، انتهى.
ويرد عليـه: أنّ الورود في تلك الموارد لا يقتضي ذلك، فإنّ التحديدات والمقادير والأوزان الواقعـة في لسان الشارع لا يراد بها إلاّ العرفي منها لا العقلي الدقيق، والمراد من العرفي ليس المتسامحي منـه بحيث كان التشخيص بيد
- 1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4: 728.
- 2 ـ نفس المصدر.