(الصفحة 355)
مدفوعـة:
بما أفاده أميرالمؤمنين (عليه السلام) في جواب سليم بن قيس من تقسيم الصحابـة إلى أربع طوائف، وتفصيل القضيّـة: أنّـه حكى أبان عن سليم قال: قلت يا أميرالمؤمنين إنّي سمعت من سلمان والمقداد وأبيذر شيئاً من تفسير القرآن، ومن الروايـة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ثمّ سمعت منك تصديق ما سمعت منهم ورأيت في أيدي الناس أشياء كثيرة من تفسير القرآن، ومن الأحاديث عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)تخالف الذي سمعتـه منكم، وأنتم تزعمون أنّ ذلك باطل، أفترى الناس يكذبون على رسولاللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) متعمّدين ويفسّرون القرآن برأيهم؟ قال: فأقبل علي (عليه السلام)فقال لي:
«يا سليم قد سألت فافهم الجواب: إنّ في أيدي الناس حقّاً وباطلا وصدقاً وكذباً وناسخاً ومنسوخاً وخاصّاً وعامّاً ومحكماً ومتشابهاً وحفظاً ووهماً، وقد كذب على رسولاللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) على عهده حتّى قام خطيباً فقال: أيّها الناس قد كثرت عليَّ الكذّابـة، فمن كذب عليَّ متعمّداً فليتبوّء مقعده من النار، ثمّ كذب عليـه من بعده حتّى توفّي رحمـة اللّه على نبيّ الرحمـة وصلّى اللّه عليـه وآلـه، وإنّما يأتيك بالحديث أربعـة نفر ليس لهم خامس:
رجل منافق مظهر للإيمان متصنّع بالإسلام لا يتأثمّ ولا يتحرّج أن يكذب على رسولاللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) متعمّداً، فلو علم المسلمون أنّـه منافق كذّاب لم يقبلوا منـه ولم يصدّقوه، ولكنّهم قالوا: هذا صاحب رسولاللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) رآه وسمع منـه، وهو لا يكذب ولا يستحلّ الكذب على رسولاللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد أخبر اللّه عن المنافقين بما أخبر ووصفهم، بما وصفهم فقال اللّه عزّوجلّ: (وَإِذَا رَأَيتَهُم تُعجِبُكَ أَجسَامُهُم وَإِن يَقُولُوا تَسمَع لِقَولِهِم ) (1) ثمّ بقوا بعده وتقرّبوا إلى أئمّـة
(الصفحة 356)
الضلال والدعاة إلى النار بالزور والكذب والنفاق والبهتان، فولّوهم الأعمال وحملوهم على رقاب الناس وأكلوا بهم من الدنيا، وإنّما الناس مع الملوك في الدنيا إلاّ من عصم اللّه، فهذا أوّل الأربعـة.
ورجل سمع من رسولاللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) فلم يحفظـه على وجهـه ووهم فيـه ولم يتعمّد كذباً وهو في يده يرويـه ويعمل بـه ويقول: أنا سمعتـه من رسولاللّه (صلى الله عليه وآله وسلم)، فلو علم المسلمون أنّـه وهم لم يقبلوا، ولو علم هو أنّـه وهم فيـه لرفضـه.
ورجل ثالث سمع من رسولاللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) شيئاً أمر بـه ثمّ نهى عنـه وهو لا يعلم، أو سمعـه نهى عن شيء ثمّ أمر بـه وهو لا يعلم، حفظ المنسوخ ولم يحفظ الناسخ فلو علم أنّـه منسوخ لرفضـه، ولو علم المسلمون أنّـه منسوخ إذ سمعوه لرفضوه.
ورجل رابع لم يكذب على اللّه ولا على رسولاللّه بغضاً للكذب وتخوّفاً من اللّه وتعظيماً لرسولـه (صلى الله عليه وآله وسلم) ولم يوهم، بل حفظ ما سمع على وجهـه فجاء بـه كما سمعـه ولم يزد فيـه ولم ينقص، وحفظ الناسخ من المنسوخ فعمل بالناسخ ورفض المنسوخ، وأنّ أمر رسولاللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) ونهيـه مثل القرآن ناسخ ومنسوخ وعامّ وخاصّ ومحكم ومتشابـه، وقد كان يكون من رسولاللّه (صلى الله عليه وآله وسلم)الكـلام لـه وجـهان: كـلام خـاصّ وكـلام عامّ مثل القرآن يسمعـه مـن لا يعر(أي الغريب الذي أتاه عن قريب من غير اُنس بـه وبكلامـه) والأعرابي فيسأل رسولاللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) حتّى يسمعوا منـه، وكنت أدخل
(الصفحة 357)
على رسولاللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) كلّ يوم دخلـة وكلّ ليلـة دخلـة، فيخلّيني فيها أدور معـه حيث دار وقد علم أصحاب رسولاللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّـه لم يكن يصنع ذلك بأحد من الناس غيري، وربّما كان ذلك في منزلي يأتيني رسولاللّه (صلى الله عليه وآله وسلم)، فإذا دخلت عليـه في بعض منازلـه خلا بي وأقام نساءه، فلم يبق غيري وغيره، وإذا أتاني للخلوة في بيتي لم تقم من عندنا فاطمـة ولا أحد من ابني وإذا سألتـه أجابني، وإذا سكت أو نفدت مسائلي ابتدأني، فما نزلت عليـه آيـة(1) إلى آخر الحديث.
وقد انقدح ممّا ذكرنا: أنّ ما نراه من المخصّصات المنفصلـة الصادرة عن الأئمّـة المعصومين (عليهم السلام) كلّها قد صدرت عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وكانت مضبوطـة محفوظـة عند أميرالمؤمنين (عليه السلام). غايـة الأمر أنّ إعراض الناس وعدم مساعدة المحيط أوجب تأخير بيانـه الثانوي.
أضف إلى ما ذكـرنا: أنّـه يمكـن أن يقال باستفادة أحكـام جميع الفروع مـن الأحكام الكلّيـة التي بلّغها الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، غايـة الأمر اختلاف الناس في الاستفادة وعدمها، وما بيّنـه الأئمـة المعصومون ـ صلوات اللّه عليهم أجمعين ـ هو ما فهموه من تلك الخطابات الصادرة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). غايـة الأمر قصور
- 1 ـ كتاب سليم بن قيس الكوفي: 181.
(الصفحة 358)
أفهام الناس عن الوصول إليها وإدراكها.
وكيف كان: فلا ينبغي الارتياب فيما ذكرنا من صدور جميع الأحكام عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)وتبليغـه (صلى الله عليه وآله وسلم) لها إلى الناس، وحينئذ فلا يلزم من الالتزام بالتخصيص في تلك المخصّصات الكثيرة تأخير البيان عن وقت العمل أصلا، فتدبّر جيّداً.
إذا عرفت ذلك: يقع الكلام فيما إذا دار الأمر بين التخصيص والنسخ في ترجيح الأوّل على الثاني أو العكس، وقد ذهب إلى كلّ فريق، ولابدّ قبل الورد في المطلب من بيان أنّ محلّ الكلام يختص بمجرّد دوران الأمر بينهما مع قطع النظر عن وجود ما يدلّ بظاهره على ترجيح أحد الأمرين.
فما أفاده المحقّق النائيني ـ من تقدّم التخصيص على النسخ نظراً إلى أنّ النسخ يتوقّف على ثبوت حكم العامّ لما تحت الخاصّ من الأفراد، ومقتضى حكومـة أصالـة الظهور في طرف الخاصّ على أصالـة الظهور في طرف العامّ هو عدم ثبوت حكم العامّ لأفراد الخاصّ، فيرتفع موضوع النسخ(1) كأنـه خروج عن محلّ البحث، إذ حكومـة أصالـة الظهور في طرف الخاصّ على أصالـة الظهور في طرف العامّ متفرّعـة على ثبوت كون المشكوك في المقام خاصّاً لا نسخاً، ضرورة أنّـه مع كونـه نسخاً لا يبقى مجال لهذه الدعوى، مع أنّـه أوّل الكلام.
وبالجملـة: فليس الكلام في تقدّم الخاصّ على العامّ حتّى يدفع بما ذكر، بل الكلام في تقدّم التخصيص على النسخ وتأخّره عنـه، وما أفاده لا يفيد كونـه خاصّاً لا نسخاً، كما لايخفى.
- 1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4: 738.
(الصفحة 359)وجوه ورود العامّ والخاصّ والدوران بين النسخ والتخصيص
وكيف كان فصور الدوران ثلاث:
إحداها: ما إذا كان العامّ متقدّماً، ودار أمر المتأخّر بين كونـه نسخاً أو تخصيصاً لاحتمال كون العموم حكماً ظاهريّاً والخاصّ حكماً واقعياً، فلا محذور في تأخير بيانـه عن وقت العمل.
ثانيتها: ما إذا كان الخاصّ متقدّماً والعامّ متأخّراً، ودار الأمر بين تخصيصـه وكونـه ناسخاً للخاصّ.
ثالثتها: ما إذا ورد عامّ وخاصّ ولم يعلم المتقدّم منهما عن المتأخّر، ودار الأمر بين النسخ والتخصيص.
ثمّ إنّ استمرار الحكم زماناً قد يستفاد من إطلاق الدليل، وقد يستفاد من عمومـه الراجع إلى كلّ ما وجد وكان فرداً لـه، وهو الذي يعبّر عنـه بالقضيّـة الحقيقيّـة، وقد يستفاد من الدليل اللفظي كقولـه (عليه السلام):
«حلال محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) حلال إلى يوم القيامـة وحرامـه (صلى الله عليه وآله وسلم) حرام إلى يوم القيامـة»(1). وقولـه (صلى الله عليه وآله وسلم):
«حكمي على الأوّلين حكمي على الآخرين»(2). ونظائرهما.
إذا عرفت ذلك فنقول: إذا كانت صورة الدوران بين النسخ والتخصيص من قبيل الصورة الاُولى من الصور الثلاثـة المتقدّمـة التي هي عبارة عن تقدّم العامّ ودوران الأمر في المتأخّر بينهما، وفرض استفادة الاستمرار الزماني من إطلاق
- 1 ـ الكافي 1: 58 / 19.
- 2 ـ اُنظر الكافي 5: 18 / 1، وفيـه: «لأنّ حكم اللّه في الأوّلين والآخرين... سواء».