(الصفحة 358)
أفهام الناس عن الوصول إليها وإدراكها.
وكيف كان: فلا ينبغي الارتياب فيما ذكرنا من صدور جميع الأحكام عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)وتبليغـه (صلى الله عليه وآله وسلم) لها إلى الناس، وحينئذ فلا يلزم من الالتزام بالتخصيص في تلك المخصّصات الكثيرة تأخير البيان عن وقت العمل أصلا، فتدبّر جيّداً.
إذا عرفت ذلك: يقع الكلام فيما إذا دار الأمر بين التخصيص والنسخ في ترجيح الأوّل على الثاني أو العكس، وقد ذهب إلى كلّ فريق، ولابدّ قبل الورد في المطلب من بيان أنّ محلّ الكلام يختص بمجرّد دوران الأمر بينهما مع قطع النظر عن وجود ما يدلّ بظاهره على ترجيح أحد الأمرين.
فما أفاده المحقّق النائيني ـ من تقدّم التخصيص على النسخ نظراً إلى أنّ النسخ يتوقّف على ثبوت حكم العامّ لما تحت الخاصّ من الأفراد، ومقتضى حكومـة أصالـة الظهور في طرف الخاصّ على أصالـة الظهور في طرف العامّ هو عدم ثبوت حكم العامّ لأفراد الخاصّ، فيرتفع موضوع النسخ(1) كأنـه خروج عن محلّ البحث، إذ حكومـة أصالـة الظهور في طرف الخاصّ على أصالـة الظهور في طرف العامّ متفرّعـة على ثبوت كون المشكوك في المقام خاصّاً لا نسخاً، ضرورة أنّـه مع كونـه نسخاً لا يبقى مجال لهذه الدعوى، مع أنّـه أوّل الكلام.
وبالجملـة: فليس الكلام في تقدّم الخاصّ على العامّ حتّى يدفع بما ذكر، بل الكلام في تقدّم التخصيص على النسخ وتأخّره عنـه، وما أفاده لا يفيد كونـه خاصّاً لا نسخاً، كما لايخفى.
- 1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4: 738.
(الصفحة 359)وجوه ورود العامّ والخاصّ والدوران بين النسخ والتخصيص
وكيف كان فصور الدوران ثلاث:
إحداها: ما إذا كان العامّ متقدّماً، ودار أمر المتأخّر بين كونـه نسخاً أو تخصيصاً لاحتمال كون العموم حكماً ظاهريّاً والخاصّ حكماً واقعياً، فلا محذور في تأخير بيانـه عن وقت العمل.
ثانيتها: ما إذا كان الخاصّ متقدّماً والعامّ متأخّراً، ودار الأمر بين تخصيصـه وكونـه ناسخاً للخاصّ.
ثالثتها: ما إذا ورد عامّ وخاصّ ولم يعلم المتقدّم منهما عن المتأخّر، ودار الأمر بين النسخ والتخصيص.
ثمّ إنّ استمرار الحكم زماناً قد يستفاد من إطلاق الدليل، وقد يستفاد من عمومـه الراجع إلى كلّ ما وجد وكان فرداً لـه، وهو الذي يعبّر عنـه بالقضيّـة الحقيقيّـة، وقد يستفاد من الدليل اللفظي كقولـه (عليه السلام):
«حلال محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) حلال إلى يوم القيامـة وحرامـه (صلى الله عليه وآله وسلم) حرام إلى يوم القيامـة»(1). وقولـه (صلى الله عليه وآله وسلم):
«حكمي على الأوّلين حكمي على الآخرين»(2). ونظائرهما.
إذا عرفت ذلك فنقول: إذا كانت صورة الدوران بين النسخ والتخصيص من قبيل الصورة الاُولى من الصور الثلاثـة المتقدّمـة التي هي عبارة عن تقدّم العامّ ودوران الأمر في المتأخّر بينهما، وفرض استفادة الاستمرار الزماني من إطلاق
- 1 ـ الكافي 1: 58 / 19.
- 2 ـ اُنظر الكافي 5: 18 / 1، وفيـه: «لأنّ حكم اللّه في الأوّلين والآخرين... سواء».
(الصفحة 360)
الدليل، فقد يقال فيها: بأنّ مرجع هذا الدوران إلى الدوران بين التخصيص والتقيـيد، وحيث قد رجّح الثاني على الأوّل هناك فلابدّ من الالتزام هنا أيضاً بتقديم النسخ على التخصيص.
ولكنّـه يرد عليـه بأنّ ترجيح التقيـيد على التخصيص فيما سبق إنّما هو فيما إذا كان العامّ والمطلق متنافيـين بأنفسهما ولم يكن في البين دليل ثالث، بل كان الأمر دائراً بين ترجيح العامّ وتقيـيد المطلق وبين العكس كقولـه: «أكرم العلماء»، مع قولـه: «لا تكرم الفاسق». وهنا لا منافاة بين العامّ والمطلق أصلا، بل التعاند بينهما إنّما نشأ من أجل دليل ثالث لا يخلو أمره من أحد أمرين: كونـه مخصّصاً للعامّ، ومقيّداً للمطلق، ولا دليل على ترجيح شيء منهما على الآخر بعد كون كلّ واحد منهما دليلا تامّاً، بخلاف ما هناك، فإنّ التعارض من أوّل الأمر كان بين العامّ الذي هو ذو لسان، وبين المطلق الذي هو ألكن، ومن الواضح أنّـه لا يمكنـه أن يقاوم ذا اللسان، كما لايخفى.
ثمّ إنّـه قد يقال: بأنّ الأمر في المقام دائـر بين التخصيص والتقيـيد معاً وبين التقيـيد فقط، ضرورة أنّـه مع التخصيص لابدّ من الالتزام بتقيـيد الإطلاق المقامي الدالّ على الاستمرار الزماني أيضاً، وهذا بخلاف العكس.
ومن الواضح أنّـه مع كون الأمر هكذا لا مجال للإشكال في ترجيح التقيـيد، كما هو واضح، هذا.
ويرد عليـه: منع كون التخصيص مستلزماً للتقيـيد أيضاً، ضرورة أنّـه بالتخصيص يستكشف عدم كون مورد الخاصّ مراداً من أوّل الأمر، ومعـه لا يكون الدليل الدالّ على الاستمرار الزماني شاملا لـه من رأس، لعدم كـونـه موضوعاً له، ضرورة أنّ موضوعـه هو الحكم الثابت في زمان، كما لايخفى، هذا.
(الصفحة 361)
وقد يقال في المقام أيضاً: بأنّ العلم الإجمالي بالتخصيص أو النسخ يرجع إلى دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر، لأنّ عدم ثبوت حكم العامّ بالنسبـة إلى مورد الخاصّ بعد ورود الخاصّ متيقّن على أيّ تقدير، سواء كان على نحو التخصيص أو النسخ، وثبوتـه بالنسبـة إلى مورده قبل وروده مشكوك، لأنّها تـتفرّع على كونـه نسخاً وهو غير معلوم، فالأمر يدور بين الأقلّ المتيقّن والأكثر المشكوك، وبـه ينحلّ العلم الإجمالي، ومقتضى جريان البراءة في المشكوك عدم كونـه محكوماً بحكم العامّ، وحينئذ تـتحقّق نتيجـة التخصيص.
وبعبارة اُخرى: مقتضى العلم الإجمالي بالتخصيص أو النسخ هو ترجيح الأوّل على الثاني، لما عرفت، هذا.
ويدفعـه ما أشرنا إليـه مراراً من أنّ ما يكون مقوّماً للعلم الإجمالي من الاحتمالين لا يمكن أن يكون العلم الإجمالي الذي قوامـه بـه سبباً لإفنائـه.
وبعبارة اُخرى: لا يمكن أن يصير العلم الإجمالي سبباً لارتفاعـه وانقلابـه إلى العلم التفصيلي والشكّ البدوي، ضرورة أنّـه لا يعقل أن يكون الشيء سبباً لارتفاع نفسـه. فدعوى أنّ العلم الإجمالي بالتخصيص والنسخ يتولّد منـه تعيّن التخصيص ممّا لا ينبغي الإصغاء إليـه.
هذا كلّـه إذا كان الاستمرار الزماني مستفاداً من الإطلاق المقامي، وأمّا لو فرض كونـه مدلولا عليـه بالعموم الراجع إلى القضيّـة الحقيقيّـة، ودار الأمر بين تخصيصـه وتخصيص العموم، فالظاهر ترجيح تخصيص العموم المستفاد منـه الاستمرار الزماني، لأنّ الأمر وإن كان دائراً بين التخصيصين، إلاّ أنّـه لمّا كان النسخ الذي مرجعـه إلى تخصيص العموم الدالّ على الاستمرار الزماني مستلزماً لقلّـة التخصيص، بخلاف تخصيص العموم، فالترجيح معـه، كما هو ظاهر.
(الصفحة 362)
كما أنّـه لو كان الاستمرار الزماني مستفاداً من الدليل اللفظي فإن قلنا بدلالتـه على العموم نظراً إلى أنّ المفرد المضاف يفيد العموم، فحكمـه حكم الصورة السابقـة التي يستفاد الاستمرار الزماني فيها من العموم، وإن لم نقل بذلك فحكمـه حكم الصورة التي يستفاد الاستمرار من الإطلاق، كما لايخفى.
هذا كلّـه فيما إذا كان العامّ متقدّماً والخاصّ المردّد متأخّراً.
وأمّا في الصورة الثانيـة التي هي عكس هذه الصورة، فإن كان الاستمرار مستفاداً من الإطلاق فالظاهر ترجيح التخصيص على النسخ، لأنّ النسخ وإن كان مرجعـه حينئذ إلى تقيـيد الإطلاق المقامي الدالّ على استمرار الزمان، وقد قلنا: إنّ التقيـيد مقدّم على التخصيص، إلاّ أنّ ذلك إنّما هـو فيما إذا كان النسبـة بين الدليلين العموم مـن وجـه كقولـه: «أكرم العلماء» و«لا تكرم الفاسق».
وأمّا لو كانت النسبـة بين الدليلين العموم مطلقاً ـ كما هنا ـ فالظاهر ترجيح التخصيص على التقيـيد، لأنّـه لا يلاحظ في العامّ والخاصّ قوّة الدلالـة وضعفها كما عرفت مقتضى التحقيق من أنّ بناء العقلاء على تقديم الخاصّ على العامّ من دون فرق بين كونـه متقدّماً عليـه أو متأخّراً عنـه.
وأمّا لـو كان الاستمرار مستفاداً مـن العموم الثابت للخاصّ لكونـه قضيّـة حقيقيّـة، فلا إشكال هنا في التخصيص أصلا، لقوّة دلالـة الخاصّ على ثبوت الحكم لمورده حتّى بعد ورود العامّ، فلابدّ من أن يكون مخصّصاً لـه، كما لايخفى.
كما أنّـه لو كان الاستمرار مستفاداً من الدليل اللفظي لابدّ من ترجيح التخصيص، لأنّ الخاصّ وإن لم يكن قويّاً من حيث هو، إلاّ أنّـه يتقوّى بذلك الدليل اللفظي الذي يدلّ على استمرار حكمـه حتّى بعد ورود العامّ، ومعـه يخصّص العامّ لا محالـة، هذا في الصورة الثانيـة.