(الصفحة 37)
وجوده يشكّ في فعليّتـه، ومع الشكّ فيها يكون المرجع هي البراءة(1).
هذا، ولكن ما أفاده من أنّ القضايا الحقيقيـة تنحلّ إلى القضايا الشرطيـة في غير محلّـه، لأنّ القضايا الحقيقيـة قضايا بتيّـة، كالقضايا الخارجيـة، بلا فرق بينهما من هذه الجهـة أصلا.
غايـة الأمر أنّ الحكم في القضايا الحقيقيـة إنّما يكون على الطبيعـة بوجودها الساري أعمّ من الأفراد المحقّقـة والمقدّرة، وفي القضايا الخارجيّـة يكون مقصوراً على خصوص الأفراد الموجودة.
وبالجملـة فقولنا: كلّ نار حارّة، يكون الحكم بالحرارة فيـه حكماً بتّياً ثابتاً لجميع أفراد طبيعـة النار، ولا يكون حكماً مشروطاً بوجوده، كيف ولو كان الحكم في مثلـه مشروطاً بوجود الموضوع لكان اللازم في مثل ما إذا كان المحمول من لوازم ماهيّـة الموضوع، كقولنا: الأربعـة زوج أن يكون ترتّب الزوجيـة على الأربعـة مشروطاً بوجودها، مع أنّ المفروض كونها من لوازم الماهيّـة التي مرجعها إلى ثبوتها لنفس الماهيّـة مع قطع النظر عن الوجودين، بحيث لو فرض لها تقرّر وثبوت في غير عالم الوجودين لكانت تلزمها.
وبالجملـة: فمعنى القضيّـة الشرطيـة هو كون الشرط فيها دخيلا في ثبوت المحمول وترتّبـه على الموضوع، مـع أنّ القضايا الحقيقيـة لا يكون كلّها كـذلك كما عرفت.
فالحقّ أنّ القضايا الحقيقيـة قضايا بتّيـة غير مشروطـة، ولذا جعلها المنطقيون من الحمليّات التي تكون قسيماً للشرطيّات.
- 1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 393.
(الصفحة 38)
نعم لا شبهـة في أنّ الحكم ما لم يتحقّق موضوعـه لا يثبت، وليس ذلك لاشتراطـه بوجود الموضوع، بل لأنّ الموضوع ما لم يوجد لا يكون موضوعاً، فإنّ النار ما لم تـتحقّق في الخارج لا تكون ناراً، والحكم بالحرارة معلّق على النار وحينئذ فمع الشكّ في وجود الموضوع لا يكون الحكم مترتّباً ولا يكون حجّـة على العبد، لأنّ العلم بالكبرى بمجرّده لا يكون حجّـة ما لم ينضمّ إليـه العلم بالصغرى كما عرفت، لا لأجل الشكّ في وجود الشرط المستلزم للشكّ في المشروط وهو فعليّـة الحكم.
وكيف كان: فالتحقيق في تقريب جريان البراءة في الشبهات الموضوعيـة ما ذكرنا.
هذا كلّـه فيما لو كان متعلّق الحكم مأخوذاً بنحو العامّ الاستغراقي.
حكم ما لو تعلّق الأمر أو النهي بالطبيعة على نحو العامّ المجموعي
وأمّا لو كان مأخوذاً بنحو العامّ المجموعي فقد يقال كما قيل: إنّ جريان البراءة في الشبهات الموضوعيّـة فيـه مبني على جريان البراءة في الأقلّ والأكثر الارتباطيـين، لأنّـه أيضاً من مصاديق تلك المسألـة.
ولكن لا يخفى أنّـه لو قلنا بالجريان في تلك المسألـة فلا يلازم القول بالجريان في المقام; لأنّ مع الشكّ في كون فرد عالماً مثلا وعدم إكرامـه يشكّ في تحقّق العنوان الذي اُخذ موضوعاً للحكم ويجب على المكلّف تحصيلـه وهو إكرام المجموع بما هو مجموع، ومن الواضح لزوم تحصيل هذا العنوان.
وهذا بخلاف ما لو شكّ في لزوم السورة في الصلاة مثلا، فإنّـه يعلم مع
(الصفحة 39)
كونها فاقـدة للسورة بصدق عنوانها، وإلاّ فلو كان الجـزء المشكوك بحيث يشكّ في تحقّق عنوان الصلاة مع فقدانـه فلا مجال لجريان البراءة أصلا، كما هو واضح لا يخفى.
هذا في ناحيـة الأمر، وأمّا لو كان العامّ المجموعي متعلّقاً للنهي فالظاهر جواز ارتكاب الفرد الذي يشكّ في تحقّق المجموع بـه، لأنّ حقيقـة النهي عبارة عن الزجر عن المنهي عنـه، ومع ارتكابـه لا يعلم بتحقّق المنهي عنـه في الخارج وليس النهي كالأمر، فإنّ معناه هو الطلب، ولابدّ من تحصيل مطلوب المولى بعد العلم بالطلب، وحينئذ فلو شكّ في تحقّق المجموع بإكرام غير الفرد المشكوك فمقتضى الاشتغال اليقيني هو تحصيل البراءة اليقينيّـة بإكرام الفرد المشكوك أيضاً، وهذا بخلاف النهي، فإنّـه زجر عن إكرام مجموع الفسّاق مثلا في المقام ومع ارتكاب إكرام الفرد الذي يشكّ في تحقّق المجموع بـه لا يعلم بتحقّق المنهي عنـه حتّى يكون مزجوراً عنـه، كما هو واضح.
نعم لو كان النهي عبارة عن طلب الترك فلابدّ حينئذ أيضاً من تحصيل مطلوب المولى وهو ترك المجموع، فلا يجوز ارتكاب إكرام الفرد الذي يشكّ في تحقّق المجموع بـه، لأنّـه لا يعلم مع ارتكابـه بحصول المطلوب، كما لايخفى.
ومن هنا يعلم أنّ ما أفاده في الكفايـة من أنّـه لو كان النهي عن شيء في زمان أو مكان بحيث لو وجد في ذاك الزمان أو المكان ولو دفعـة لما امتثل أصلا كان اللازم على المكلف إحراز أنّـه تركـه بالمرّة ولو بالأصل، فلا يجوز الإتيان بشيء يشكّ معـه في تركـه(1).
(الصفحة 40)
إنّما يتمّ بناء على ما ذهب إليـه في باب النواهي من أنّ معنى النهي هو طلب الترك، وأمّا بناءً على ما هو التحقيق في معناه فلا يلزم على المكلّف إحراز أنّـه تركـه بالمرّة، بل يلزم عليـه أن لا يعلم بحصول الشيء المنهي عنـه. وبعبارة اُخرى أن لا يرتكب ما علم بكونـه منهيّاً عنـه، كما لايخفى.
هذا كلّـه فيما لو تعلّق الأمر أو النهي بالطبيعـة على نحو العامّ المجموعي.
حكم ما لو تعلّق الأمر أو النهي بالطبيعة على نحو صرف الوجود
وأمّا لو تعلّق الأمر بصرف الوجود الذي يكون عبارة عن الأمر المتحصّل من أوّل الوجودات أو المنتزع منـه، فلا شبهـة في أنّـه لا يكتفى في مقام الامتثال بالإتيان بالفرد الذي يشكّ في كونـه مصداقاً للمأمور بـه; لأنّ مقتضى الاشتغال اليقيني هي البراءة اليقينيـة، وأمّا لو تعلّق النهي بـه فيجوز الإتيان بالفرد المشكوك، لعدم العلم بكونـه مصداقاً للمنهي عنـه، فيشكّ في تحقّق الزجر بالنسبـة إليـه، هذا.
حكم ما لو تعلّق الأمر والنهي بنفس الطبيعة
ولو تعلّق الأمر أو النهي بنفس الطبيعـة فحكمـه حكم ما لو تعلّق بصرف الوجود، فلا يكتفى في مقام امتثال الأمر بالإتيان بالفرد المشكوك، ويجوز الإتيان بـه فيما لو كانت متعلّقـة للنهي.
فانقدح مـن جميع مـا ذكرنا: أنّ الإتيان بالفرد الـذي يشكّ في تحقّق المنهي عنـه بـه جائز في جميع الأقسام الأربعـة المتقدّمـة، والسرّ في أكثرها
(الصفحة 41)
هـو ما ذكرنا مـن أنّ النهي ليس بمعنى طلب الترك حتّى يلزم على المكلّف تحصيل المطلوب وهو ترك المنهي عنـه جـزماً، كيف والترك الذي هـو العدم كيف يعقل أن يكون متعلّقاً للطلب ومورداً للاشتياق؟! لأنّـه ليس شيئاً حتّى يمكن أن يصير مطلوباً ومشتاقاً إليـه، وهذا لا فرق فيـه بين العدم المطلق والعدم المضاف.
وأمّا ما في بعض الكتب العقليّـة من أنّ العدم المضاف وأعدام الملكات لها حظّ من الوجود ونصيب من التحقّق(1) فلا ينبغي الاغترار بما يدلّ عليـه ظاهر عبائرهم، فإنّ مراد أساطين الفنّ هو تقريب أذهان المتعلّمين، وإلاّ فمن الواضح أنّ العدم لا يمكن أن يصير وجوداً.
وأمّا الإتيان بالفرد الذي يشكّ في تحقّق المأمور بـه فلا يجب في العامّ الاستغراقي ولا يكتفى بـه في امتثال الأمر المتعلّق بنفس الطبيعـة أو بصرف الوجود ويجب الإتيان بما يشكّ في تحقّق المجموع بـه في العامّ المجموعي كما عرفت.
ثمّ إنّـه يقع الكلام بعد ذلك في الأصل المحرز للموضوع فنقول: لو كان المتعلّق مأخوذاً بنحو العامّ الاستغراقي، وكان هنا فرد داخل في العامّ سابقاً، والآن شكّ في بقائـه فيـه، فالظاهر جريان الاستصحاب، ويترتّب عليـه كون إكرامـه أيضاً مأموراً بـه; لما عرفت من أنّ الحكم في العامّ الاستغراقي إنّما تعلّق بعنوان الكلّ، لا بما أنّـه عنوان واحد كسائر العناوين، بل بما أنّـه عنوان إجمالي
- 1 ـ الحكمـة المتعاليـة 1: 345 ـ 352، شرح المنظومـة، قسم الحكمـة: 47 ـ 48.