(الصفحة 378)
(الصفحة 379)
المقصد الأوّل
في الخبرين المتعارضين المتكافئين
بحيث لم تكن مزيّـة وترجيـح فـي البيـن
والكلام في ذلك قد يقع في حكمهما في نظر العقل، وقد يقع فيما يستفاد من الأخبار الواردة في هذا الباب بالنسبـة إلى المتكافئين، وعلى التقدير الأوّل تارةً يبحث فيهما بناءً على كون الوجـه في اعتبار الخبر هو بناء العقلاء كما عرفت أنّـه الموافق للتحقيق، واُخرى يبحث في حكمهما بناءً على دلالـة الدليل الشرعي على اعتبار خبر الواحد، وعلى التقديرين تارة يتكلّم في ذلك بناءً على الطريقيّـة والكاشفيّـة، واُخرى بناءً على الموضوعيّـة والسببيّـة.
مقتضى الأصل بناءً على الطريقيّة
فنقول:
لو كان الوجـه في اعتبار الخبر هو سيرة العقلاء وبنائهم عملا على الاعتماد على قول المخبر إذا كان موثوقاً ومورداً للاطمئنان، فمع التعارض وعدم المزيّـة لا محيص عن القول بتساقطهما وعدم حجّيـة واحد منهما في مدلولـه المطابقي، وذلك لوجهين:
(الصفحة 380)
أحدهما:
أنّـه لا خفاء في أنّ اعتبار الخبر عند العقلاء إنّما هو لأجل كاشفيّتـه عن الواقع وإرائتـه لـه وأماريّتـه بالنسبـة إليـه. ومن الواضح أنّ الإرائـة والكشف إنّما هو مع عدم ابتلائـه بمعارض مماثل أو أقوى، ضرورة أنّـه مع هذا الابتلاء يتردّد الطريق والكاشف بينهما، إذ لا يعقل كون كلّ واحد منهما مع وجود الآخر كاشفاً، وإلاّ لزم الخروج عن حدّ التعارض، ومع تردّد الطريق والكاشف وعدم وجود مرجّح في البين اللازم منـه الترجيح من غير مرجّح لابدّ من التوقّف، ضرورة أنّ الأخذ بالمجموع ممّا لا يمكن، وبواحد ترجيح من غير مرجّح.
وهذا نظير ما لو أخبر مخبر واحد بخبرين متعارضين، فكما أنّـه لا يكون شيء من الخبرين هناك بكاشف ولا طريق، كذلك لا يكون شيء من الخبرين هنا بكاشف، كما لايخفى.
ثانيهما:
أنّ معنى حجّيـة الخبر إنّما هو عبارة عن صحّـة احتجاج المولى بـه على العبد. ومن المعلوم أنّ ذلك إنّما هـو مع عدم كـون الأمـارة مجهولـة للعبد، ضرورة أنّـه لو كانت كذلك لا يبقى للمولى حـقّ المؤاخـذة والاعتراض، فإذا كانت صلاة الجمعـة واجبـة واقعاً وكانت الأمارة الدالّـة على ذلك غير واصلـة إلى المكلّف، بل كان الموجود عنده هو الأمارة الضعيفـة الدالّـة على التحريم، لايجوز للمولى المؤاخذة والاعتراض لأجل الترك، ضرورة أنّ البيان الـذي بـه يسدّ باب البراءة العقليّـة الراجعـة إلى عـدم استحقاق العقوبـة مـع عدم وصول التكليف إنّما يكون المراد بـه هو البيان الواصل إلى المكلّف، ومع الجهل بـه لا مخرج للمورد عن البراءة. هذا، ومن الواضح أنّ مع ابتلاء البيان الواصل بمعارض مماثل لا يصحّ للمولى الاحتجاج أصلا، وهذا ممّا لا ينبغي الارتياب فيـه.
(الصفحة 381)
فانقدح: أنّ الخبرين المتكافئين لايكون شيء منهما حجّـة بالنسبـة إلى مدلولهما المطابقي.
وأمّا بالنسبـة إلى المدلول الالتزامي الذي يشترك فيـه الخبران ولا معارضـة بينهما فيـه، كعدم الاستحباب والكراهـة، والإباحـة في ما إذا قام أحد الخبرين على الوجوب والآخر على التحريم، فلا شبهـة في حجّيتهما بالنسبـة إليـه، إنّما الإشكال في أنّ الحجّـة بالنسبـة إليـه هل هو كلا الخبرين أو واحد منهما معيّن بحسب الواقع وهو الخبر الذي لم يعلم كذبـه؟
قد يقال بالأوّل، كما أفاده المحقّق النائيني (قدس سره)
على ما في التقريرات، حيث دفع توهّم سقوط المتعارضين عن الحجّيـة بالنسبـة إلى نفي الثالث أيضاً، نظراً إلى أنّ الدلالـة الالتزاميّـة فرع الدلالـة المطابقيّـة، وبعد سقوط المتعارضين في المدلول المطابقي لا مجال لبقاء الدلالـة الالتزاميّـة لهما في نفي الثالث; فإنّ الدلالـة الالتزاميّـة إنّما تكون فرع الدلالـة المطابقيّـة في الوجود لا في الحجّيـة، ثمّ قال: وبعبارة أوضح: الدلالـة الالتزاميّـة للكلام تـتوقّف على دلالتـه التصديقيّـة; أي دلالتـه على المؤدّى، وأمّا كون المؤدّى مراداً فهو ممّا لا يتوقّف عليـه الدلالـة الالتزاميّـة، فسقوط المتعارضين عن الحجّيـة في المؤدّى لا يلازم سقوطهما عن الحجّيـة في نفي الثالث(1)، انتهى.
ويرد عليـه: أنّـه مع العلم بكذب أحدهما واقعاً بالنسبـة إلى المدلول المطابقي كيف يكون مـع ذلك حجّـة بالنسبـة إلى المدلول الالتزامي، ألا ترى أنّـه لو كان هنا خبر واحد فقط مع عدم الابتلاء بالمعارض وعلم من الخارج
- 1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4: 755 ـ 756.
(الصفحة 382)
بكذبـه، فهل يرضى مع ذلك أحد بكون العلم بالكذب يوجب سقوطـه في خصوص مدلولـه المطابقي، وأمّا المدلول الالتزامي فهو بالنسبـة إليـه حجّـة، وكـذلك المقـام، فإنّـا لا نتعقّل مـع العلم بكذب واحـد مـن الخبريـن أن يكونـا معـاً حجّـة بالنسبـة إلى نفي الثالث الذي هو من اللوازم العقليّـة للمدلول المطابقي.
وما أفاده من التفكيك بين الوجود والحجّيـة ممّا لم يظهر وجهـه لنا، فإنّـه إذا كان حجّـة يكون مدلولـه المطابقي موجوداً، ومع الوجود لا مجال للتفكيك بين المدلولين وليست الدلالـة الالتزاميـة من الدلالات اللفظيـة حتّى لا يكون دلالـة اللفظ عليها متوقّفـة على دلالتـه على المدلول المطابقي وإن عدّت هذه الدلالـة في المنطق من جملـة تلك الدلالات، وذلك لأنّ دلالـة اللفظ على أمر خارج عمّا وضع لـه مع عدم كونـه مجازاً ممّا لا يتصوّر، بل قد عرفت أنّ في المجازات أيضاً لا يكون اللفظ دالاّ إلاّ على المعنى الحقيقي.
وكيف كان: فمع العلم بكذب أحد الخبرين بالنسبـة إلى مدلولـه المطابقي لاوجـه لتوهّم حجّيتـه بالنسبـة إلى المدلول الالتزامي.
فالحقّ في هذا الباب ما اختاره المحقّق الخراساني (قدس سره)
من كون الحجّـة على نفي الثالث هو أحدهما الغير المعيّن الذي هو الخبر الذي لم يعلم كذبـه، لا الخبرين معاً(1)، فتأمّل جيّداً.
هذا كلّـه بناءً على كون الوجـه في اعتبار الخبر هو بناء العقلاء على العمل بـه في جميع أمورهم كما أنّـه هو الوجـه.