(الصفحة 391)
ما يرجع إليـه حقيقـة التخيـير بعدما عرفت(1) من كون مقتضى القاعدة العقلائيـة في مقام التعارض تساقط الخبرين وسقوط الحجّتين والطريقين.
قد يقال بأنّ مرجع جعل التخيـير إلى جعل الطريقيّـة عند التعارض.
ويرد عليـه ـ مضافاً إلى أنّ أصل جعل الطريقيّـة والكاشفيـة ولو مع عدم التعارض غير معقول، لأنّ الكاشفيّـة من الاُمور التكوينيّـة واللوازم العقليّـة للكاشف ولا يعقل تعلّق الجعل الشرعي بها ـ أنّـه إن كان المراد جعل الطريقيّـة لكلا الخبرين فهو مستحيل بعد فرض التعارض وعدم إمكان الاجتماع، ضرورة أنّـه لو لم يكن مستحيلا لما كان العقل يحكم بالتساقط، كما هو واضح.
وإن كان المراد جعل الطريقيّـة لأحد الخبرين بالخصوص، فمضافاً إلى أنّـه لا مرجّح في البين، مناف لمقتضى الأدلّـة، حيث إنّها تدلّ على التخيـير لا الأخذ بخصوص واحد منهما، وإن كان المراد جعلها لأحدهما غير المعيّن فمن الواضح أنّ أحدهما لا على سبيل التعيـين ليس شيئاً وراء كلا الخبرين، ضرورة أنّـه ليس هنا أمر آخر في البين، وقد عرفت استحالـة جعل الطريقيـة لكليهما أو واحد معيّن منهما، هذا.
وقد يقال بأنّ التخيـير المجعول في الخبرين المتكافئين هو حكم ظاهري مجعول عند الشكّ وفي مورد التحيّر، ويؤيّده ما في بعض الروايات المتقدّمـة من ترتيب الحكم بالتوسعـة على ما إذا لم يعلم، فهو أيضاً كسائر الاُصول المعتبرة في موارد الشكّ.
ولازم هذا القول الاقتصار في مقام الأخذ بأحد الخبرين على مجرّد
- 1 ـ تقدّم في الصفحـة 379.
(الصفحة 392)
مدلولـه المطابقي دون لازمـه، لعدم حجّيـة اللوازم ولا الملزومات في باب الاُصول، كما عرفت.
والتحقيق في المقام أن يقال:
إنّ الحكم بالتخيـير في المتعارضين ليس حكماً ثانويّاً وراء الحكم بحجّيـة كلّ واحد من الخبرين إمضاءً لحكم العقلاء وبنائهم على العمل بخبر الواحد.
غايـة الأمر أنّ مرجعـه إلى تخطئـة العقلاء في حكمهم بالتساقط مع التعارض، ومرجعـه إلى أنّـه كما كان الواجب عليكم الأخذ بالخبر والتعبّد بمضمونـه وجعلـه حجّـة وطريقاً إلى الواقع مع عدم التعارض مع الخبر الآخر، كذلك يجب عليكم في مقام التعارض أيضاً الأخذ. غايـة الأمر أنّـه حيث لا يكون ترجيح في البين يتخيّر المكلّف في الأخذ بكلّ واحد منهما، فهذا الأخذ لا يكون مغايراً للأخذ بالخبر مع عدم المعارضـة أصلا، وحينئذ لا فرق بينهما من جهـة حجّيـة اللوازم والملزومات.
والدليل على ما ذكرنا: أنّ الظاهر عدم الفرق فيما يرجع إلى معنى الأخذ بين المتكافئين والمتعارضين مع ثبوت المزيّـة لأحدهما، فكما أنّ الأمر بأخذ ذي المزيّـة ليس حكماً آخر وراء الحكم بحجّيـة الخبر، فكذلك الأمر بأخذ أحد الخبرين مع التكافؤ، فإنّـه ليس أيضاً حكماً آخر ناظراً إلى جعل الطريقيّـة وجعل حكم ظاهري، كما هو واضح.
ويرد عليـه: أنّ تخطئـة حكم العقلاء وإن كان بمكان من الإمكان، ولكن لامجال لتخطئـة حكم العقل. وقد عرفت(1) أنّ التساقط مقتضى حكم العقل
- 1 ـ تقدّم في الصفحـة 379.
(الصفحة 393)
أيضاً، وعليـه فيبقى الإشكال بحالـه. والظاهر أنّ الالتزام بالحكم الظاهري والأصل العملي لا مانع منـه واقتضائـه عدم الأخذ بغير المدلول المطابقي وعدم حجّيـة اللوازم، ومثلها ممنوع بعد كون التخيـير هو الأصل العملي والمخيّر فيـه هو الأخذ بكلّ واحد من الخبرين بجميع مداليلـه ولوازمـه ومثلها، ولا مانع من عدم حجّيـة المثبت وكون المخيّر فيـه مطلق الأخذ.
التنبيه الثاني : في حكم تخيير القاضي والمفتي في عمله وعمل مقلّديه
إنّـه بعدما عرفت من كون التخيـير الذي يدلّ عليـه أخباره هو التخيـير في المسألـة الاُصوليّـة، فهل يجوز للمجتهد الفتوى بالتخيـير في المسألـة الفرعيّـة الراجع إلى كون المقلّد مخيّراً في مقام العمل، أم التخيـير ينحصر بالمجتهد ويجب عليـه الأخذ بمضمون أحد الخبرين والفتوى على طبقـه؟ وجهان.
قد يقال: بانحصار الخطابات الواردة في المسائل الاُصوليّـة بخصوص المجتهد نظراً إلى أنّـه هو الذي يتحقّق عنده موضوع تلك الخطابات، لأنّـه هو الذي يشكّ في الحكم الفلاني بالشبهـة الحكميّـة، وهو الذي يجيء عنده الخبران المتعارضان، وغير ذلك من الموضوعات، ومع انحصار تحقّق الموضوع بـه لاتكون تلك الخطابات شاملـة لغيره، هذا.
ولكن الظاهر خلافـه، لأنّ مجرّد كون المقلّد غير مشخّص لموضوعات تلك الخطابات لا يوجب انحصارها بالمجتهد، بل يمكن أن يقال: بأنّ المجتهد يشخّص الموضوع للمقلّد ويفتي بمضمون تلك الخطابات. فبالنتيجـة يكون جريانها في ذلك الموضوع عند المقلّد، فالمجتهد يعلّم المقلّد بأنّ صلاة الجمعـة كانت واجبـة
(الصفحة 394)
في عصر ظهور أئمّـة النور (عليهم السلام) والآن مشكوك الوجوب، ويفتي بأنّ كلّ شيء كذلك يحرم نقض اليقين فيـه بالشكّ على ما هو مدلول خطابات الاستصحاب، فالمقلّد حينئذ يتمسّك بالاستصحاب ويحكم بوجوبها في هذه الأعصار أيضاً وإن كانت الشبهـة حكميّـة.
وإن شئت قلت: إنّ مورد الاستصحاب لا يختصّ بما إذا كان يقين وجداني، بل مورده أعمّ منـه وممّا إذا قامت أمارة معتبرة، وإلاّ لكان مورده في غايـة القلّـة خصوصاً بالنسبـة إلى الشبهات الحكميّـة. ومن الواضح أنّ فتوى المجتهد من الأمارات المعتبرة، فإذا علم المقلّد بوجوب صلاة الجمعـة في عصر الظهور والشكّ في هذه الأعصار يحصل للمقلّد أمارة معتبرة عليـه والشكّ، فيتحقّق عنده موضوع الاستصحاب ويحكم بجريانـه على تقدير كون المجتهد ممّن يقول باعتباره. فدعوى انحصار الخطابات الواردة في المسائل الاُصوليّـة بالمجتهد ممنوعـة جدّاً.
وممّا ذكرنا يظهر: أنّ المجتهد عند تعارض الخبرين عنده يتخيّر بين الأخذ بمضمون أحد الخبرين والفتوى على طبقـه، لأنّك عرفت أنّـه ليس المراد بالأخذ هو الأخذ بالنسبـة إلى العمل فقط، بل الأخذ مطلقاً كالأخذ بالخبر مع عدم المعارض لـه، وبين إعلام المقلّد بالحال وأنّ هذا المورد ممّا ورد فيـه الخبران المتعارضان وحكمـه التخيـير في الأخذ، وبين الفتوى بالتخيـير في مقام العمل من دون إعلامـه بالحال.
أمّا الأوّل والثاني فواضحان، وأمّا الثالث، فلأنّ التخيـير على ما عرفت حكم طريقي، ومرجعـه إلى جواز أخذ كلّ من الخبرين طريقاً وأمارة، فلا مانع من الفتوى بالتخيـير، فتأمّل جيّداً.
(الصفحة 395)التنبيه الثالث : في أنّ التخيير بدوي أو استمراري
هل التخيـير بدوي مطلقاً، أو استمراري كذلك، أو تفصيل فيـه بين ما إذا كان في المسألـة الاُصوليّـة فبدوي وبين ما إذا كان في المسألـة الفقهيّـة فاستمراري، أو تفصيل فيـه بعد فرض كونـه في المسألـة الاُصوليّـة بين ما إذا قيل باختصاص الخطابات الواردة في المسائل الاُصوليّـة بالمجتهد، فالتخيـير بدوي، وبين ما إذا قيل بعدم الاختصاص فاستمراري؟
وجوه واحتمالات أربعـة، والمستند هو الأخبار الواردة في التخيـير ومع قصورها فالاستصحاب، وتوضيح الحال: أنّـه أفاد الشيخ (قدس سره)
في الرسالـة أنّ مستند التخيـير إن كان هو الأخبار الدالّـة عليـه فالظاهر أنّها مسوقـة لبيان وظيفـة المتحيّر في ابتداء الأمر، فلا إطلاق فيها بالنسبـة إلى حال المتحيّر بعد الالتزام بأحدهما(1)، انتهى.
ويمكن تقريبـه بأنّ هنا أمران:
أحدهما: وظيفـة المتحيّر عند مجيء الخبرين المتعارضين عنده.
وثانيهما: وظيفتـه بعد الأخذ بأحدهما، والسؤال عن هذه الوظيفـة إنّما يصحّ مع ثبوت أصل وظيفـة المتحيّر في ابتداء الأمر ووضوحـه عند السائل. ومن المعلوم كما نراه أنّ الروايات الواردة في التخيـير ليس فيها إلاّ سؤال وجواب واحد، وهو السؤال عن أصل وظيفـة المتحيّر ابتداءً والجواب عنـه، أو بيان أمر واحد وحكم فارد، هذا.
- 1 ـ فرائد الاُصول 2: 764.