(الصفحة 398)
أحدها: أن يكون الموضوع هو شخص المكلّف فيما إذا لم يعلم بما هو الحقّ من الخبرين المتعارضين.
ثانيها: أن يكون الموضوع هو من لم يعلم حقيّـة واحد منهما.
ثالثها: أن يكون الموضوع هو المتحيّر بما هو المتحيّر.
رابعها: أن يكون الموضوع خصوص من لم يختر أحد الخبرين، كما يظهر من الشيخ (قدس سره)
(1).
فعلى الأوّلين لا مانع من الاستصحاب، لبقاء الموضوع المأخوذ في الدليل بعد الأخذ أيضاً، وعلى الأخيرين أيضاً لا مانع منـه، لأنّـه بعدما صار الشخص الخارجي مورداً للحكم بالتخيـير نقول: هذا الشخص كان مخيّراً والآن نشكّ في بقاء تخيـيره، فهو بعد باق عليـه، نظير الاستصحاب الجاري في الماء المتغيّر بعد زوال تغيّره من قبل نفسـه، كما أومأنا إليـه مراراً. وعلى الثاني والثالث يصير هذا الاستصحاب من أفراد القسم الثاني من الأقسام الثلاثـة من استصحاب الكلّي، كما لايخفى.
فانقدح من جميع ما ذكرنا دلالـة الأدلّـة من الأخبار والاستصحاب على كون التخيـير استمراريّاً.
ثمّ إنّـه قد يناقش في جريان الاستصحاب بناءً على الوجـه الثاني وكذا الثالث، نظراً إلى ما ذكرناه في باب الاستصحاب الكلّي من أنّ استصحاب الكلّي إنّما يجري إذا كان ذلك الكلّي مجعولا شرعيّاً أو موضوعاً لترتّب أثر شرعي.
فيقال حينئذ: إنّ التخيـير الجامع بين البدوي والاستمراري لا يكون أمراً مجعولا من الشارع، لأنّ المجعول الشرعي إمّا خصوص التخيـير البدوي، وإمّا
- 1 ـ فرائد الاُصول 2: 764.
(الصفحة 399)
خصوص التخيـير الاستمراري، والجامع بينهما أمر انتزاعي غير مجعول أصلا، نظير القدر الجامع بين الوجوب والاستحباب مثلا، فلا يجري في شيء منهما الاستصحاب أصلا.
إلاّ أن يقال: بأنّ هذا الإشكال إنّما يجري فيما لو اُريد استصحاب التخيـير الكائن بالكون الناقص، بأن يكون المستصحب عبارة عن جملـة «كان التخيـير ثابتاً للمكلّف» وأمّا لو اُريد استصحاب جملـة «كان المكلّف مخيّراً» فلا مانع من جريانـه. أو يقال بالفرق بين المقام وبين المثال المزبور، وهو القدر الجامع بين الوجوب والاستحباب بأنّـه لا يعقل جعل القدر الجامع هناك، وأمّا أصل التوسعـة فيمكن تعلّق الجعل بـه بقولـه (عليه السلام):
«فموسّع عليك» وشبهـه، فتأمّل.
وكيف كان: فنحن لا نحتاج إلى هذا الاستصحاب حتّى يورد عليـه بما ذكر، لما عرفت من دلالـة الروايات على استمرار التخيـير، مضافاً إلى أنّ الشكّ فيـه على تقديره إنّما هو بعد الفراغ عن ثبوتـه في خصوص المسألـة الاُصوليّـة وعدم اختصاص الخطابات الواردة فيها بالمجتهد، وقد عرفت(1) أنّـه على هذا التقدير يجري الاستصحاب بلا كلام.
التنبيه الرابع : في شمول أخبار التخيـير لجميع صور الخبرين المختلفين
إنّـه لا إشكال في تحقّق الموضوع المأخوذ في أخبار التخيـير ـ وهو مجيء الرجلين بحديثين مختلفين ـ فيما إذا كان سند الروايتين مختلفين جميعاً في الإخبار مع الواسطـة بأن لم يشتركا أصلا حتّى في واحد، إنّما الإشكال فيما إذا اشتركا في منتهى السلسلـة، سواء اشتركا في غيره أيضاً أم لا، كما إذا روى
- 1 ـ تقدّم في الصفحـة 393 ـ 394.
(الصفحة 400)
الكليني بإسناده حديثاً عن زرارة دالاّ على وجوب شيء، وروى الشيخ بإسناده حديثاً عنـه أيضاً دالاّ على حرمـة ذلك الشيء، أو روى الكليني عنـه أيضاً ذلك الحديث، فإنّـه ربّما يمكن أن يقال بعدم كون هذا المورد مشمولا لأخبار التخيـير أصلا، نظراً إلى أنّ المورد هو مجيء الرجلين بحديثين مختلفين، وهنا كان الجائي بهما شخصاً واحداً وهو زرارة فقط، فلا يشملـه أدلّـة التخيـير، هذا.
ويرد عليـه: أنّ الظاهر عدم دخالـة مجيء الرجلين بما هما رجلان، ولذا لو أتى بحديثين غير رجلين بل امرأتان أو مرء ومرأة لا خفاء في دخولـه في موردها، مضافاً إلى أنّـه يستفاد من أدلّـة التخيـير أنّ الشارع لم يرض برفع اليد عن المتعارضين مع كون القاعدة تقتضي التساقط، فخلافـه يوجب عدم رفع اليد في المقام أيضاً، كما لايخفى، هذا.
ولو كان الحديث المنقول في الجوامع المتأخّرة مختلفاً من حيث النقل عن الجوامع الأوّليّـة، مثل ما إذا روى الكليني في الكافي حديثاً عن كتاب حسين بن سعيد الأهوازي، وروى الشيخ في التهذيب ـ مثلا ـ ما يغايره عن ذلك الكتاب أيضاً فالظاهر أيضاً شمولـه في أخبار التخيـير أيضاً إذا لم يعلم بكون الاختلاف مستنداً إلى اختلاف نسخ ذلك الكتاب، لأنّ الظاهر أنّ مثل الكليني والشيخ لم يكن في أخذ الحديث معتمداً على ما هو المنقول في الكتب، بل كان دأبهم على الأخذ من الشيوخ إمّا بالقراءة عليهم أو بقرائتهم عليـه، فهذا الاختلاف دليل على اختلاف الشيوخ النقلـة لهذا الحديث.
نعم لو كان الاختلاف في نسخ الاُصول المتأخّرة والجوامع الموجودة بأيدينا، كما إذا اختلفت نسخ الكافي ـ مثلا ـ في حديث، فالظاهر عدم كونـه مشمولا لأخبار التخيـير أصلا، لأنّ هذا الاختلاف يكون مستنداً إلى الكتاب لا محالـة، فلا يصدق مجيء الرجلين بحديثين مختلفين، كما هو واضح.
(الصفحة 401)
المقصد الثاني
في الخبرين المتعارضين مع عدم التكافؤ
والكلام فيـه أيضاً يقع في مقامين:
المقام الأوّل : فيما يحكم به العقل في هذا الباب
فنقول: البحث في حكم العقل فيـه قد يقع بناءً على اعتبار الخبر من باب الطريقيّـة، وقد يقع بناءً على السببيّـة. وليعلم أنّ التكلّم في حكم العقل إنّما هو بعد الفراغ عن عدم كون الحكم في المتكافئين هو التساقط وطرح الخبرين، بل بعد ثبوت كون الحكم فيهما هو التخيـير.
وحينئذ نقول: أمّا بناءً على اعتبار الخبر من باب الطريقيـة، فإن قلنا: بأنّ المجعول عند التعارض هي الطريقيّـة والكاشفيّـة، فلا ينبغي الارتياب في المقام في أنّـه لابدّ من الأخذ بذي المزيّـة أو بما يحتمل اشتمالـه عليها، لأنّـه يدور الأمر بين أن يكون الطريق المجعول بعد التعارض هو خصوص الخبر الراجح أو أحدهما تخيـيراً، فحجّيـة الخبر الراجح متيقّنـة لاريب فيها، وأمّا الخبر غير الراجح فيشكّ في طريقيّتـه وكاشفيّتـه عند التعارض، لأنّـه يحتمل اعتبار الشارع بالمزيّـة الموجودة في الآخر، والشكّ في باب الحجّـة والطريق مساوق للقطع
(الصفحة 402)
بعدم حجّيتـه، لأنّها ترجع إلى صحّـة الاحتجاج للمولى على العبد وكذا العكس، ولا يصحّ الاحتجاج مع الشكّ قطعاً.
وإن لم نقل بأنّ المجعول في مورد التعارض هي الطريقيّـة والكاشفيـة، بل قلنا بأنّ المجعول إنّما هو حكم وجوبي ووظيفـة للمكلّف المتحيّر عند تعارض الطريقين عنده، نظراً إلى استحالـة كون الطريقيّـة مجعولـة، أمّا مطلقاً، لأنّها من الاُمور التكوينيّـة غير القابلـة لتعلّق الجعل بها، أو في خصوص المقام، لاستحالـة جعل الطريقيـة للمتناقضين كما عرفت(1). فالأمر يدور بين التعيـين والتخيـير، لأنّـه يحتمل تعلّق التكليف الوجوبي بالأخذ بخصوص الخبر الراجح، ويحتمل تعلّقـه على سبيل الوجوب التخيـيري بكلا الخبرين، والحكم فيـه هو البراءة أو الاشتغال على خلاف ما عرفت في بابـه.
هذا كلّـه بناءً على اعتبار الخبر من باب الطريقيّـة.
وأمّا بناءً على السببيّـة
فقد اُطلق القول فيها بصيرورة المقام من صغريات باب التزاحم مع احتمال رجحان أحد المتزاحمين، ولكن التحقيق عدم تماميّـة الإطلاق، بل إنّما يتمّ على بعض الوجوه.
توضيح ذلك: أنّ السببيـة إن كانت على النحو الذي يقول بـه الأشاعرة من خلوّ الواقع عن الأحكام الواقعيّـة وكون الحكم الواقعي تابعاً لقيام الأمارة، فلا معنى حينئذ لدعوى كون المقام من صغريات باب التزاحم، لأنّـه لو فرض قيام أمارة على وجوب صلاة الجمعـة، وأمارة اُخرى على حرمتها، فلا يمكن أن يكون في صلاة الجمعـة مصلحـة ملزمـة وفي تركها أيضاً مصلحـة ملزمـة، أو في فعلها
- 1 ـ تقدّم في الصفحـة 384.