(الصفحة 400)
الكليني بإسناده حديثاً عن زرارة دالاّ على وجوب شيء، وروى الشيخ بإسناده حديثاً عنـه أيضاً دالاّ على حرمـة ذلك الشيء، أو روى الكليني عنـه أيضاً ذلك الحديث، فإنّـه ربّما يمكن أن يقال بعدم كون هذا المورد مشمولا لأخبار التخيـير أصلا، نظراً إلى أنّ المورد هو مجيء الرجلين بحديثين مختلفين، وهنا كان الجائي بهما شخصاً واحداً وهو زرارة فقط، فلا يشملـه أدلّـة التخيـير، هذا.
ويرد عليـه: أنّ الظاهر عدم دخالـة مجيء الرجلين بما هما رجلان، ولذا لو أتى بحديثين غير رجلين بل امرأتان أو مرء ومرأة لا خفاء في دخولـه في موردها، مضافاً إلى أنّـه يستفاد من أدلّـة التخيـير أنّ الشارع لم يرض برفع اليد عن المتعارضين مع كون القاعدة تقتضي التساقط، فخلافـه يوجب عدم رفع اليد في المقام أيضاً، كما لايخفى، هذا.
ولو كان الحديث المنقول في الجوامع المتأخّرة مختلفاً من حيث النقل عن الجوامع الأوّليّـة، مثل ما إذا روى الكليني في الكافي حديثاً عن كتاب حسين بن سعيد الأهوازي، وروى الشيخ في التهذيب ـ مثلا ـ ما يغايره عن ذلك الكتاب أيضاً فالظاهر أيضاً شمولـه في أخبار التخيـير أيضاً إذا لم يعلم بكون الاختلاف مستنداً إلى اختلاف نسخ ذلك الكتاب، لأنّ الظاهر أنّ مثل الكليني والشيخ لم يكن في أخذ الحديث معتمداً على ما هو المنقول في الكتب، بل كان دأبهم على الأخذ من الشيوخ إمّا بالقراءة عليهم أو بقرائتهم عليـه، فهذا الاختلاف دليل على اختلاف الشيوخ النقلـة لهذا الحديث.
نعم لو كان الاختلاف في نسخ الاُصول المتأخّرة والجوامع الموجودة بأيدينا، كما إذا اختلفت نسخ الكافي ـ مثلا ـ في حديث، فالظاهر عدم كونـه مشمولا لأخبار التخيـير أصلا، لأنّ هذا الاختلاف يكون مستنداً إلى الكتاب لا محالـة، فلا يصدق مجيء الرجلين بحديثين مختلفين، كما هو واضح.
(الصفحة 401)
المقصد الثاني
في الخبرين المتعارضين مع عدم التكافؤ
والكلام فيـه أيضاً يقع في مقامين:
المقام الأوّل : فيما يحكم به العقل في هذا الباب
فنقول: البحث في حكم العقل فيـه قد يقع بناءً على اعتبار الخبر من باب الطريقيّـة، وقد يقع بناءً على السببيّـة. وليعلم أنّ التكلّم في حكم العقل إنّما هو بعد الفراغ عن عدم كون الحكم في المتكافئين هو التساقط وطرح الخبرين، بل بعد ثبوت كون الحكم فيهما هو التخيـير.
وحينئذ نقول: أمّا بناءً على اعتبار الخبر من باب الطريقيـة، فإن قلنا: بأنّ المجعول عند التعارض هي الطريقيّـة والكاشفيّـة، فلا ينبغي الارتياب في المقام في أنّـه لابدّ من الأخذ بذي المزيّـة أو بما يحتمل اشتمالـه عليها، لأنّـه يدور الأمر بين أن يكون الطريق المجعول بعد التعارض هو خصوص الخبر الراجح أو أحدهما تخيـيراً، فحجّيـة الخبر الراجح متيقّنـة لاريب فيها، وأمّا الخبر غير الراجح فيشكّ في طريقيّتـه وكاشفيّتـه عند التعارض، لأنّـه يحتمل اعتبار الشارع بالمزيّـة الموجودة في الآخر، والشكّ في باب الحجّـة والطريق مساوق للقطع
(الصفحة 402)
بعدم حجّيتـه، لأنّها ترجع إلى صحّـة الاحتجاج للمولى على العبد وكذا العكس، ولا يصحّ الاحتجاج مع الشكّ قطعاً.
وإن لم نقل بأنّ المجعول في مورد التعارض هي الطريقيّـة والكاشفيـة، بل قلنا بأنّ المجعول إنّما هو حكم وجوبي ووظيفـة للمكلّف المتحيّر عند تعارض الطريقين عنده، نظراً إلى استحالـة كون الطريقيّـة مجعولـة، أمّا مطلقاً، لأنّها من الاُمور التكوينيّـة غير القابلـة لتعلّق الجعل بها، أو في خصوص المقام، لاستحالـة جعل الطريقيـة للمتناقضين كما عرفت(1). فالأمر يدور بين التعيـين والتخيـير، لأنّـه يحتمل تعلّق التكليف الوجوبي بالأخذ بخصوص الخبر الراجح، ويحتمل تعلّقـه على سبيل الوجوب التخيـيري بكلا الخبرين، والحكم فيـه هو البراءة أو الاشتغال على خلاف ما عرفت في بابـه.
هذا كلّـه بناءً على اعتبار الخبر من باب الطريقيّـة.
وأمّا بناءً على السببيّـة
فقد اُطلق القول فيها بصيرورة المقام من صغريات باب التزاحم مع احتمال رجحان أحد المتزاحمين، ولكن التحقيق عدم تماميّـة الإطلاق، بل إنّما يتمّ على بعض الوجوه.
توضيح ذلك: أنّ السببيـة إن كانت على النحو الذي يقول بـه الأشاعرة من خلوّ الواقع عن الأحكام الواقعيّـة وكون الحكم الواقعي تابعاً لقيام الأمارة، فلا معنى حينئذ لدعوى كون المقام من صغريات باب التزاحم، لأنّـه لو فرض قيام أمارة على وجوب صلاة الجمعـة، وأمارة اُخرى على حرمتها، فلا يمكن أن يكون في صلاة الجمعـة مصلحـة ملزمـة وفي تركها أيضاً مصلحـة ملزمـة، أو في فعلها
- 1 ـ تقدّم في الصفحـة 384.
(الصفحة 403)
مفسدة ملزمـة، وباب المتزاحمين ينحصر بما إذا اشتمل كلّ منهما على تمام المصلحـة الموجبـة للحكم.
وكذا لو كانت السببيّـة على النحو الذي يقول بـه المعتزلـة من ثبوت الأحكام الواقعيـة في الواقع، غايـة الأمر أنّ مع قيام الأمارة على خلافـه لا يكون الحكم الفعلي إلاّ ما يطابق مدلول الأمارة، بمعنى أنّ فيـه مصلحـة غالبـة على مصلحـة الواقع، فإنّـه حينئذ لا يكون من ذلك الباب، لعدم إمكان امتثال كلّ من الفعل والترك على مصلحـة ملزمـة، كما هو واضح.
نعم لو كانت السببيّـة بالمعنى المعقول غير المستحيل، وهي الذي يرجع إلى اشتمال سلوك الطريق والتطرّق بـه على المصلحـة، فيصير المقام من صغريات ذلك الباب، لأنّ المفروض أنّ سلوك كلّ من الأمارتين والتعبّد بكل من الخبرين مشتمل على المصلحـة، ولا يمكن الجمع بين المصلحتين، فيصير من باب المتزاحمين، وحكمـه أنّـه مع احتمال اشتمال واحد منهما على المزيّـة يدور الأمر بين التعيـين والتخيـير، والحكم فيـه البراءة أو الاشتغال على الخلاف المتقدّم في بابـه.
المقام الثاني
في مقتضى الأخبار الواردة في هذا الباب
وأ نّه هل هو وجوب الأخذ بذي المزيّة أم لا، وأنّ المزيّة المرجّحة ماذا؟
فنقـول: قـد يقـال بعـدم وجـوب الترجيـح بـالمـرجّحـات المنصوصـة ولا بغيرها نظـراً إلى أنّ ظاهـر الأخبار الـواردة فيـه وإن كان هـو الوجـوب، إلاّ
(الصفحة 404)
أنّ مقتضى الجمع بينها وبين أخبار التخيـير مطلقاً هو حملها على الاستحباب، لاستلزام إبقائـه على ظاهره وتقيـيد أخبار التخيـير بصورة عدم ثبوت شيء من المرجّحات حمل أخبار التخيـير على الفرد النادر وإخراج أكثر الأفراد منها، وهـو قبيح، أو إلى أنّ اختلاف الأخبار الواردة في الترجيح في المرجّحات من حيث اشتمال كلّ منها على بعض ممّا لم يشتمل عليـه الآخر أو من حيث الاختلاف في الترتيب بين المرجّحات دليل على عدم وجـوب الترجيح، كاختلاف الأخبـار الواردة فـي البئـر ومنزوحاتـه حيث استكشف منـه الاستحباب، نظراً إلى أنّ الاختلاف خصوصاً مع كثرتـه لا يجتمع مع الحكم الإيجابي، بل هـو دليل على أصل الرجحان، والاختلاف محمول على مراتبـه مـن الشدّة والضعف(1).
ونحن نقول: لابدّ من ملاحظـة أخبار الترجيح والتكلّم في مفادها حتّى يظهر أنّ المرجّح لإحدى الروايتين على ما هو المجعول شرعاً المدلول عليـه الأخبار ليس إلاّ واحداً أو اثنين.
وتقيـيد أخبار التخيـير بـه لا يوجب إخراج أكثر الأفراد، ولا مانع منـه أصلا، خصوصاً بعدما عرفت(2) من أنّـه ليس في الروايات التي ادّعي كونها دليلا على التخيـير إلاّ روايـة واحدة دالّـة عليـه، وقد تقدّمت، وغيرها قاصر من حيث الدلالـة جدّاً.
- 1 ـ درر الفوائد، المحقّق الحائري: 665 ـ 667.
- 2 ـ تقدّم في الصفحـة 386.