(الصفحة 408)
وافق كتاب اللّه فخذوه، وما خالف كتاب اللّه فردّوه، فإن لم تجدوهما في كتاب اللّه فاعرضوهما على أخبار العامّـة، فما وافق أخبارهم فذروه، وما خالف أخبارهم فخذوه»(1)، هذا.
وقد جمع بين الطائفتين بحمل المخالفـة في الطائفـة الاُولى على المخالفـة بالتباين الكلّي، وفي الطائفـة الثانيـة على المخالفـة بغيره، سواء كان بالعموم والخصوص المطلق أو من وجـه، وهذا الجمع وإن كان يبعّده اتّحاد التعبيرات الواقعـة في الطائفتين مـن أنّ المخالف زخـرف أو باطـل، أو لم نقلـه، أو إضربـه على الجـدار، أو غير ذلك مـن التعبيرات، إلاّ أنّ التحقيق يقتضي المسير إليـه.
وتوضيحـه: أنّ إطلاق المخالفـة في الطائفـة الاُولى يشمل جميع أنحاء المخالفات بالتباين أو بالعموم والخصوص بقسميـه، ضرورة أنّك عرفت(2) في أوّل هذا الكتاب أنّ السالبـة الكلّيـة تناقض الموجبـة الجزئيـة وكذا العكس، لكنّك عرفت(3) أنّـه في محيط التقنين وجعل الأحكام على سبيل العموم لا يعدّ مثل العامّ والخـاصّ مخـالفين أصلا ولا يحكمون بتساقطهما في مـورد التعـارض أو الرجـوع إلـى الـمرجّـح، فبهذه الـقرينـة العـقلائيّـة ترفـع اليـد عـن إطلاق الطائفـة الاُولى.
- 1 ـ وسائـل الشيعـة 27: 118، كتاب القضـاء، أبـواب صفـات القاضـي، الباب9، الحـديث29.
- 2 ـ تقدّم في الصفحـة 320.
- 3 ـ تقدّم في الصفحـة 321.
(الصفحة 409)
وأمّا الطائفـة الثانيـة
الواردة في خصوص المتعارضين، فلا قرينـة على رفع اليد عن إطلاق المخالفـة الواردة فيها، فمقتضاها أنّ في الخبرين المتعارضين يردّ الخبر المخالف للكتاب، سواء كان مخالفتـه بنحو التباين أو بنحو العموم والخصوص بقسميـه، وهذا لا ينافي وجوب ردّ الخبر المخالف للكتاب بالمخالفـة بنحو التباين ولو لم يكن لـه معارض، كما هو مقتضى الطائفـة الاُولى، كما لايخفى.
ثمّ إنّـه قد يقال: بأنّـه لا ثمرة للنزاع في كون موافقـة الكتاب من المرجّحات، لأنّـه على أيّ تقدير يجب الحكم على وفق ما يدلّ عليـه الكتاب، سواء كانت موافقتـه من المرجّحات أو لم تكن، ولكن كان الكتاب مرجعاً على تقدير تساقط الخبرين بعد تعارضهما.
ولكن يرد عليـه بأنّـه يمكن فرض مورد تـترتّب الثمرة على ذلك، وذلك كما لو فرض دلالـة الكتاب على وجوب عتق الرقبـة مطلقاً، من غير تقيـيد بخصوص المؤمنـة بعد إيقاع الظهار من الزوج، ووردت روايـة دالّـة على أنّـه: إن ظاهرت فاعتق رقبـة مؤمنـة. وروايـة اُخرى دالّـة على أنّـه: إن ظاهرت فلا تعتق رقبـة مؤمنـة، فإنّـه على تقدير القول بالتساقط والرجوع إلى الكتاب لابدّ من الحكم بكفايـة عتق مطلق الرقبـة في كفّارة الظهار ولو لم تكن مؤمنـة، كما هو مدلول ظاهر الكتاب على ما هو المفروض.
وأمّا على تقدير القول بترجيح الروايـة الموافقـة يردّ الروايـة المخالفـة، ويجب حينئذ ملاحظـة الكتاب مع الروايـة الموافقـة لـه، وهما وإن كانا مثبتين، إلاّ أنّـه حيث تكون وحدة السبب دليلا على وحدة الحكم لابدّ من تقيـيد الكتاب بالرواية الموافقـة له والحكم بتعيّن عتق خصوص الرقبة المؤمنة في كفّارة الظهار.
(الصفحة 410)
لايقال: إنّـه لا مجال في المورد المفروض لإعمال المرجّح الذي هو موافقـة الكتاب، ضرورة أنّ كلا الخبرين مخالفان للكتاب بالإطلاق والتقيـيد. غايـة الأمر الاختلاف بينهما إنّما هو من حيث النفي والإثبات، كما لايخفى.
لأنّا نقول: إعمال المرجّح إنّما هو في ظرف وجود المعارض للخبر الموافق، وفي هذا الظرف لا يكون الخبر الموافق مخالفاً أصلا، والمخالفـة إنّما تـتحقّق بعد إسقاط المعارض بالمخالفـة، ففي ظرف التعارض لا يكون الخبر الموافق مخالفاً، وبعد سقوط المعارض لا مانع من تقديمـه على الكتاب، لأجل اختلافهما بالإطلاق والتقيـيد، كما لايخفى، هذا.
وتظهر الثمرة أيضاً بين المرجعيّـة والمرجّحيّـة أيضاً فيما إذا كان التعارض بين الخبرين بالعموم والخصوص من وجـه، ولكن قام الدليل على عدم إمكان التفكيك بين مورد الاجتماع ومورد الافتراق من حيث الحكم وكان الكتاب موافقاً لأحد الخبرين من حيث مادّة الاجتماع، فإن قلنا بالتساقط والرجوع إلى الكتاب فيسقط الخبر الموافق بتمام مضمونه في مادتي الاجتماع والافتراق مع خبر الآخر ويرجع إلى الكتاب. وإن قلنا بأنّـه مرجّح يؤخذ بالخبر الموافق في تمام مضمونه.
وتظهر الثمرة بينهما أيضاً فيما إذا رتّب حكم آخر على الحكم الذي يدلّ عليـه الخبر الموافق للكتاب في نفس ذلك الخبر، كما فيما لو فرض أنّ الكتاب يدلّ على النهي عن شرب الخمر مثلا، والخبر الموافق دالّ على النهي عن شربه وعن الصلاة فيـه، بحيث لو علم أنّ الحكم الثاني مترتّب على الأوّل وكان هنا خبر يدلّ على جواز شرب الخمر، فإن قلنا بمرجعيـة الكتاب بعد تساقط الخبرين يلزم أن لايكون في البين إلاّ كون شرب الخمر منهيّاً عنه فقط، وإن قلنا بمرجّحيّته للخبر الموافق يلزم ثبوت حكمين: حرمة الشرب، وعدم جواز الصلاة فيه، كما لايخفى.
(الصفحة 411)حال الأخبار الواردة في مخا لفـة العامّـة
المقام الثاني
:
في الأخبار الواردة فيما يتعلّق بمخالفـة العامّـة في الروايات الواردة عنهم (عليهم السلام) وهي أيضاً على طائفتين:
الطائفـة الاُولى: ما يدلّ على أنّ الخبر الموافق لهم ممّا لم يصدر أصلا، سواء كان لـه معارض أم لا، كما هو مقتضى إطلاقها.
والطائفـة الثانيـة: ما وردت في خصوص المتعارضين وأنّـه يرجّح الخبر المخالف لهم على الموافق، معلّلا في بعضها بأنّ الرشد في خلافهم، ولابدّ إمّا من حمل الطائفـة الاُولى على مورد الطائفـة الثانيـة والقول باختصاص ذلك بالمتعارضين، وإمّا من طرح تلك الطائفـة، لعدم إمكان الالتزام بوجوب ردّ مطلق الخبر الموافق للعامّـة وإن لم يكن لـه معارض. فانقدح أنّ المستفاد من جميع الأخبار الواردة في المقامين أنّ هنا مرجّحان:
أحدهما: موافقـة الكتاب.
والآخر: مخالفـة العامّـة.
وتقيـيد أخبار التخيـير بذلك لا يوجب الاستهجان أصلا، خصوصاً بعدما عرفت(1) من أنّـه لا يكون هذا إلاّ خبر واحد دالّ على التخيـير. نعم يبقى الكلام في أمرين:
أحدهما: أنّ مقتضى إطلاق الروايات الواردة في موافقـة الكتاب وجوب الترجيح بها، سواء كان أحد الخبرين مخالفاً للعامّـة أم لم يكن، وكذا مقتضى
- 1 ـ تقدّم في الصفحـة 386 ـ 387.
(الصفحة 412)
إطلاق الروايات الواردة في الترجيح بمخالفـة العامّـة وجوب الأخذ بالخبر المخالف لهم، سواء كان موافقاً للكتاب أم لا، ومن المعلوم عدم إمكان الجمع بين المقتضيـين، فيحصل الشكّ في ما هو المقدّم من المرجّحين. هذا، ولكن مصحّحـة عبدالرحمان بن أبيعبداللّه المتقدّمـة(1) ترفع هذا الشكّ، لصراحتها في تقدّم الترجيح بموافقـة الكتاب على الترجيح بمخالفـة العامّـة، كما هو واضح.
ثانيهما: أنّـه ربّما يستفاد من بعض الروايات الترجيح بالأحدثيّـة وبما صدر من الحي وبغيرهما من التعبيرات، ولكن التأمّل فيها يقضي بعدم كون المراد الترجيح بها في مثل زماننا زمان الغيبـة، بل المراد بها ظاهراً هو مثل ما وقع لعلي بن يقطين، حيث أمره (عليه السلام) ابتداءً بالوضوء على وفق العامّـة، ثمّ أمره بـه على وفق ما يقول بـه الخاصّـة، فإنّـه لا إشكال في أنّـه يجب الأخذ بعد صدور المتأخّر بخصوص ذلك المتأخّر، كما لايخفى.
تتمّة 0: في التعدّي عن المرجّحات المنصوصة إ لى غيرها
هل اللازم في باب الترجيح الاقتصار على خصوص المرجّحات المنصوصـة التي قـد عرفت أنّها لا تـتجاوز عـن اثنين على مـا يقتضيـه التأمّل والتدقيق في الروايات الواردة في هذا الباب، أو أنّـه يتعدّى عنها إلى كلّ ما يمكن أن يكون مرجّحاً، كما حكى عن جمهور المجتهدين الذاهب إليـه، بل ادّعى بعضهم ظهور الإجماع وعدم ظهور الخلاف على وجوب العمل بالراجح من الدليلين بعد أن حكى الإجماع عليـه من جماعـة.