(الصفحة 414)
صورة عـدم المزيّـة فيهما رأساً، بل ناسبـه السؤال عـن حكم عـدم اجتماع الصفات فافهم(1)، انتهى.
ويرد عليـه ـ مضافاً إلى عدم وضوح الفرق بين الأصدقيّـة والأوثقيّـة وبين الأعدليّـة والأفقهيّـة وشبههما من حيث الأقربيـة إلى الواقع أصلا ـ أنّ ظاهر الروايـة هو كون المرجّح المجموع من حيث المجموع من الصفات، ولا دليل على رفع اليد عن هذا الظهور، وما ذكره تأيـيداً يؤيّد بل يدلّ على ما ذكرنا، فإنّ عدم سؤال الراوي عن صورة وجود بعضها إنّما هو لأجل فهمـه كون المرجّح هو المجموع، ولا يترتّب على بعضها أثر أصلا، ومعنى قولـه: لا يفضل أحدهما على صاحبـه، أنّ ما جعل مرجّحاً لا يكون في خصوص أحدهما، بل كانا متساويـين لأجل عدم اتّصاف واحد منهما بالمجموع الذي هو المرجّح، كما لايخفى.
ومنها: تعليلـه (عليه السلام) الأخذ بالمشهور بقولـه:
«فإنّ المجمع عليـه لاريب فيـه». توضيح ذلك: أنّ معنى كون الروايـة مشهورة كونها معروفـة عند الكلّ، كما يدلّ عليـه فرض السائل كليهما مشهورين. والمراد بالشاذّ ما لا يعرفـه إلاّ القليل. ولاريب أنّ المشهور بهذا المعنى ليس قطعيّاً من جميع الجهات قطعي المتن والدلالـة حتّى يصير ممّا لاريب فيـه، وإلاّ لم يمكن فرضهما مشهورين، ولا الرجوع إلى صفات الراوي قبل ملاحظـة الشهرة، ولا الحكم بالرجوع مع شهرتهما إلى المرجّحات الاُخر، فالمراد بنفي الريب نفيـه بالإضافـة إلى الشاذ، ومعناه أنّ الريب المحتمل في الشاذ غير محتمل فيـه، فيصير حاصل التعليل ترجيح المشهور على الشاذّ بأنّ في الشاذّ احتمالا لا يوجد في المشهور. ومقتضى
- 1 ـ فرائد الاُصول 2: 781.
(الصفحة 415)
التعدّي عن مورد النصّ في العلّـة وجوب الترجيح بكلّ ما يوجب كون أحد الخبرين أقلّ احتمالا لمخالفـة الواقع(1)، انتهى.
ويرد عليـه: أنّ الظاهر كون المراد بعدم الريب في المجمع عليـه هو عدم الريب فيـه حقيقـة، ومقابلـه حينئذ ممّا لاريب في بطلانـه، فالمجمع عليـه داخل في الأمر الذي بيّن رشده، والشاذّ في الأمر البيّن الغي.
وقد عرفت أنّ الشهرة ليست من المرجّحات، بل إنّما هي لتميـيز الحجّـة عن اللاحجّـة لا لترجيح إحدى الحجّتين على الاُخرى، والرجوع إلى صفات الحاكم قبل ملاحظـة الشهرة التي هـي دليل قطعي يحتمل أن يكـون لعدم صلاحيّـة غير الواجد لتلك الصفات الأربع مع وجود الواجد لها لمقام القضاوة والحكومـة أصلا ولو كان قاضي التحكيم كما ذهب إليـه بعض، بل لعلّـه كان مشهوراً، فالترجيح بتلك الصفات إنّما هو لأجل تميـيز الصالح للحكومـة عن غيره، وبعد فرض الراوي صلاحيتهما للحكومـة لأجل عدم كون واحد منهما لـه فضل على الآخر أوجب الإمام (عليه السلام)الرجوع إلى المستند الذي كان مشهوراً لأجـل كونـه قطعيّاً، كما لايخفى.
ومنها: تعليلهم (عليهم السلام) لتقديم الخبر المخالف للعامّـة بأنّ الحق والرشد في خلافهم وأنّ ما وافقهم فيـه التقيـة، فإنّ هذه كلّها قضايا غالبيّـة لا دائميـة، فيدلّ بحكم التعليل على وجوب ترجيح كلّ ما كان معـه امارة الحقّ والرشد، وترك ما فيـه مظنّـة خلاف الحقّ والرشد، بل الإنصاف أنّ مقتضى هذا التعليل كسابقـه وجوب الترجيح بما هو أبعد عن الباطل عن الآخر وإن لم يكن عليـه أمارة
- 1 ـ فرائد الاُصول 2: 781.
(الصفحة 416)
المطابقـة، كما يدلّ عليـه قولـه (عليه السلام):
«ما جاءكم عنّا من حديثين مختلفين فقسهما على كتاب اللّه وأحاديثنا، فإن أشبههما فهو حقّ، وإن لم يشبههما فهو باطل»(1)، فإنّـه لا توجيـه لهاتين القضيّتين إلاّ ما ذكرنا من إرادة الأبعديّـة عن الباطل والأقربيّـة إليـه(2)، انتهى.
ويرد عليـه ـ مضافاً إلى عدم ظهور الروايات الواردة في الترجيح بمخالفـة العامّـة في كون الأخـذ بـه معلّلا بما ذكر، فانظر إلى المقبولـة، يقول (عليه السلام)فيها:
«ما خالف العامّـة ففيـه الرشد»(3)، فإنّـه ليس بحسب العبارة تعليلا أصلا، وإلى عـدم وضوح الفرق بين الأقربيّـة إلى الواقـع والأبعديّـة عـن الباطل أنّـه مع تسليمه يستفاد منه، أنّ مخالفة العامّـة تكون بمرتبة من الإصابـة، حتّى يكون الحقّ والرشد فيها، وهو لا يدلّ على أنّ كلّ ما كان بنظرنا أقرب إلى الواقع، يكون فيه الرشد ولو نوعاً وغالبياً.
وبالجملـة ما لم يحرز كون مزيّـة بمرتبـة مخالفـة العامّـة في الإيصال إلى الحـق، لا يجوز الأخـذ بها، وأنّى لنا بإثباتـه؟
ومنها: قولـه (عليه السلام):
«دع ما يريبك إلى ما لا يريبك»(4) دلّ على أنّـه إذا دار
- 1 ـ تفسير العياشي 1: 9 / 7، وسائل الشيعـة 27: 123، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب9، الحديث48.
- 2 ـ فرائد الاُصول 2: 781 ـ 782.
- 3 ـ الكافي 1: 54 / 10، وسائل الشيعـة 27: 106، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب9، الحديث1.
- 4 ـ راجع وسائل الشيعـة 27: 167، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب12، الحديث43 و54.
(الصفحة 417)
الأمر بين الأمرين في أحدهما ريب ليس في الآخر ذلك الريب يجب الأخذ بـه، وليس المراد نفي مطلق الريب، كما لايخفى(1)، انتهى.
ويرد عليـه أنّ الظاهر عدم كون هذه الروايـة ناظرة إلى باب المتعارضين أصلا، بل الظاهر أنّها ناظرة إلى أنّ الأمر المشتبـه بالشبهـة الابتدائيّـة ينبغي تركـه، نظراً إلى ما لا يكون فيـه ريب من الثواب المترتّب على تركـه، فهي أجنبيّـة عن المقام. فانقدح ممّا ذكرنا: أنّـه لم ينهض شيء ممّا تمسّك بـه الشيخ (قدس سره)
لإفادة جواز التعدّي عن المرجّحات المنصوصـة.
نعم يمكن التمسّك لإثبات ذلك إلى أنّ المستند لثبوت التخيـير في المتعارضين هو الإجماع، ولم يعلم كون مستند المجمعين هو الروايات الواردة في التخيـير، بل يمكن أن يقال بالعدم، نظراً إلى أنّ روايـة التخيـير ظاهرة في جوازه وهم قائلون بوجوب الأخذ بأحدهما مخيّراً فتأمّل.
وإلى أنّـه لو كان مستندهم في ذلك هي الروايات الدالّـة على التخيـير يلزم أن تكون محمولـة على الفرد النادر، لما عرفت(2) من ادّعاء بعضهم الإجماع على وجوب العمل بالراجح من الدليلين مطلقاً، وهذا يؤيّد بل يدلّ على عدم كون استنادهم في الحكم بالتخيـير إلى الروايات أصلا، وإلاّ يلزم ما ذكر من حملها على المورد النادر، فالمستند في التخيـير هو نفس الإجماع، والقدر المتيقّن منـه إنّما هو صورة فقد المرجّح رأساً، ومع وجود شيء من المرجّحات يدور الأمر بين التعيـين والتخيـير، وعند دوران الأمر بينهما لابدّ من الأخذ بالمعيّن كما تقدّم.
- 1 ـ فرائد الاُصول 2: 782.
- 2 ـ تقدّم في الصفحـة 412.
(الصفحة 418)هل المرجّحات المنصوصة مرجّحات أصل الصدور أو جهة الصدور ؟
بقي الكلام في أنّ المرجّحات المنصوصـة التي ذكرنا أنّها لا تـتجاوز عن اثنين هل تكون مرجّحات أصل الصدور، أو جهـة الصدور، أو المضمون؟
فنقول: أمّا بحسب الثبوت فكلّ محتمل، لأنّـه يحتمل عدم كون الخبر الموافق للعامّـة مثلا صادراً أصلا، ويحتمل عدم كون صدوره لبيان الحكم الواقعي.
وأمّا بحسب الإثبات فظاهر الروايات الدالّـة على مرجّحيّـة موافقـة الكتاب ومخالفـة العامّـة أنّ الخبر المخالف للكتاب أو الموافق للناس ممّا لم يصدر عنهم (عليهم السلام) أصلا، فمقتضى القاعدة حينئذ عدم تقدّم واحد منهما على الآخر، لكن قد عرفت(1) صراحـة مصحّحـة عبدالرحمان بن أبيعبداللّه المتقدّمـة في تقدّم الترجيح بموافقـة الكتاب على الترجيح بمخالفـة العامّـة، فما في التقريرات من تقدّم مرجّحات أصل الصدور على مرجّحات جهـة الصدور، وتقدّم هذه على مرجّحات المضمون، وأنّ مخالفـة العامّـة من مرجّحات جهـة الصدور وموافقـة الكتاب من مرجّحات المضمون، فهي مؤخّرة عن الترجيح بمخالفـة العامـة لتقدّم جهـة الصدور على المضمون كتقدّم أصل الصدور على جهـة الصدور، ممنوع، لأنّ المستند في هذا التقديم إن كان هو العقل فقد عرفت أنّ حكمـه في المتعارضين هو السقوط رأساً، وإن كان هو النقل فهو صريح في
- 1 ـ تقدّم في الصفحـة 412.