(الصفحة 437)
بخصوص المعيّن وإن قلنا بجريان البراءة عند دوران الأمر بينهما في سائر الموارد، لأنّ مورد الدوران هنا هو الطريق والحجّـة، لأنّ فتوى العالم طريق للجاهل وحجّـة بالنسبـة إليـه، فالأمر دائر بين كون الحجّـة هو خصوص فتوى الأعلم وكان فتوى العالم أيضاً طريقاً، فالأمر يرجع إلى الشكّ في طريقيّـة قول العالم مع وجود الأعلم، ولاريب في أنّ الطريقيّـة والحجّيـة تحتاج إلى الدليل، ولا دليل بالنسبـة إليـه، كما لايخفى.
وثالثـة:
بدليل الانسداد بتقريب أنّ الرجوع إلى العلم التفصيلي في كلّ مسألـة متعذّر بالنسبـة إلى الناس، والامتثال العلمي الإجمالي الراجع إلى الاحتياط التامّ غير جائز أو غير واجب، والرجوع إلى المفضول عند وجود الفاضل ترجيح للمرجوح على الراجح، فيتعيّن الرجوع إلى الفاضل.
ويرد على هذا الدليل أنّـه لا مانع من التبعيض في الاحتياط، ولا يكون الرجوع إلى المفضول ترجيحاً للمرجوح على الراجح مطلقاً، لأنّـه قد يكون فتوى المفضول مطابقاً للأفضل من الفاضل الموجود، كما لايخفى، هذا.
وربّما استدلّ على عدم تعيّن الفاضل بالاستصحاب; أي: استصحاب التخيـير الثابت فيما إذا كانا متساويـين في العلم أوّلا ثمّ فضل أحدهما على الآخر، فإنّ زوال ذلك التخيـير بحدوث الفضل في أحدهما غير معلوم، فيستصحب.
وقد ردّ عليهم هذا الاستدلال بالاستصحاب من الطرف الآخر، وتقريبـه أنّـه إذا لم يكن في البين إلاّ مجتهد واحد، ثمّ وجد آخر مفضول، فإنّـه مع وجوده يشكّ في زوال تعيّن الرجوع إلى الأوّل الثابت قبل وجود الآخر.
ولابدّ لنا من التكلّم في مثل هذه الاستصحابات ونقول: قد أجاب الشيخ (قدس سره)
(الصفحة 438)
عن استصحاب التخيـير ـ على ما في تقريرات بحثـه ـ بأنّ التخيـير الثابت في حال التساوي إنّما كان باعتبار القطع بعدم ترجيح أحدهما على الآخر في العلم ونحوه ممّا يشكّ في كونـه مرجّحاً فحيث زال القطع المزبور بحدوث ما يحتمل كونـه مرجّحاً، أعني الفضل في أحدهما امتنع الاستصحاب(1)، هذا.
وربّما يجاب عنـه أيضاً: بأنّ التخيـير المستصحب حكم عقلي، ولا يجوز استصحاب الأحكام العقليّـة.
ولكنّـه يندفع بأنّ المستصحب هو التخيـير الشرعي المستكشف من التخيـير العقلي بقاعدة الملازمـة، ولكنّـه مع ذلك لا مجال لاستصحابـه، لأنّ الأحكام الشرعيّـة المنكشفـة من الأحكام العقليّـة بقاعدة الملازمـة تـتبع في السعـة والضيق مناط تلك الأحكام العقليّـة، ولا يعقل أن تكون ثابتـة بملاك آخر، فإذا كان الملاك للحكم بالتخيـير هو القطع بعدم ترجيح أحدهما على الآخـر في العلم ونحوه فكيف يمكن أن يكون الحكم الشرعي ثابتاً مع وجود ما يحتمل كونـه مرجّحاً أعني الفضل في أحدهما، مع أنّـه تابع للحكم العقلي مستكشفاً منـه، فالتخيـير المستصحب ممّا يقطع بعدمـه مع تحقق الفضل في أحدهما، والتخيـير في زمان الشكّ على تقديره كان حكماً آخر حادثاً في ذلك الزمان ولايكون مستـتبعاً للحكم العقلي، والجامع بين التخيـيرين لا يكون مجعولا شرعاً ولا مترتّباً عليـه أثر شرعي كما ذكرناه مراراً، فلا موقع لاستصحابـه.
- 1 ـ مطارح الانظار: 273 / السطر23.
(الصفحة 439)
حول الاستدلال ببناء العقلاء للتقليد
ولابدّ بعد ذلك من الرجوع إلى أصل ما يدلّ على التقليد من الدليل، ثمّ التكلّم في أنّ مقتضاه هل هو التخيـير أو تعيّن الرجوع إلى الأعلم فنقول: الدليل عليـه هو بناء العقلاء على رجوع الجاهل في كلّ صنعـة إلى العالم بها، ولا إشكال في أصل ثبوت هذا البناء، فلا مجال للمناقشـة فيـه.
شبهة عدم وجود هذا البناء في زمن الأئمّة (عليهم السلام)
إنّما الإشكال في أنّ بناء العقلاء على شيء بمجرّده لا يكون دليلا على ذلك الشيء ما لم يكن مورداً لإمضاء الشارع ولو بعدم الردع عنـه.
مع أنّـه قد يقال في المقام: إنّ بناء العقلاء على رجوع الجاهل بالأحكام الشرعيّـة إلى المجتهد المستنبط لها، وبعبارة اُخرى: بناء العقلاء على التقليد، أمر حادث بعد الغيبـة الكبرى، ولم يكن ثابتاً في زمان النبي والأئمّـة ـ صلوات اللّه عليهم أجمعين ـ بوجـه حتّى يكون عدم الردع عنـه كاشفاً عن كونـه مرضيّاً للشارع، كما هو الشأن في جميع الاُمور التي كان بناء العقلاء عليها حادثاً في الأزمنـة المتأخّرة، فإنّـه لا يكون شيء منها بثابت عند الشارع، لعدم ثبوتـه في زمانـه حتّى دلّ عدم ردعـه على رضايتـه، فاللازم على من يجوّز التقليد مستنداً إلى بناء العقلاء عليـه إمّا إثبات كون التقليد والرجوع إلى المجتهد بهذا النحو المعمول في هذه الأزمنـة ثابتاً في زمان المعصومين (عليهم السلام) أيضاً، وإمّا إثبات كون حدوثـه في هذه الأزمنـة مع عدم ردع الشارع في ذلك الزمان أيضاً كاشف عن
(الصفحة 440)
رضى الشارع بـه، وبدون إثبات أحد الأمرين لا مجال لتجويز التقليد أصلا.
هـذا غايـة مـا يمكن أن يقـال في مقـام الإشكـال على الاستدلال للتقليد ببناء العقلاء.
الجواب الأوّل : ثبوت الاجتهاد والتقليد بهذا النحو في زمن الأئمّة (عليهم السلام)
ويرد عليـه أوّلا:
أنّ الظاهر ثبوت التقليد والاجتهاد بهذا النحو في زمن الأئمّـة (عليهم السلام) ولنا على ذلك شواهد كثيرة من الروايات الواردة عنهم (عليهم السلام) وهي على طائفتين يكفي إثبات مضمون إحداهما على سبيل منع الخلوّ.
الطائفـة الاُولى:
ما يستفاد منـه جواز الاجتهاد والاستنباط:
منها:
ما رواه ابن إدريس في آخر السرائر نقلا من كتاب هشام بن سالم عن أبيعبداللّه (عليه السلام) قال:
«إنّما علينا أن نلقي إليكم الاُصول وعليكم أن تفرّعوا»(1). ونقل من كتاب أحمد بن محمد بن أبينصر عن الرضا (عليه السلام) قال:
«علينا إلقاء الاُصول وعليكم التفريع»(2)، وهل الاجتهاد إلاّ التفريع على الاُصول المأخوذة عنهم والقواعد المسموعـة منهم؟ ألا ترى أنّ جميع المباحث المذكورة في باب الاستصحاب التي ربّما تبلغ إلى كتاب مستقل يدور حول «لا تنقض اليقين بالشكّ» الذي هو أصل من الاُصول الصادرة عنهم؟ وهكذا سائر التفريعات.
- 1 ـ السرائر 3: 575، وسائل الشيعـة 27: 61، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب6، الحديث51.
- 2 ـ السرائر 3: 575، وسائل الشيعـة 27: 62، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب6، الحديث52.
(الصفحة 441)
وبالجملـة: لا مجال للمناقشـة في أنّ الاجتهاد عند الإماميّـة ـ رضوان اللّه عليهم ـ هو التفريع على خصوص القواعد المتلقّاة عنهم في قبال الجمهور الذين يعملون بالقياس والاستحسان مع عدم كونهما من الدين، بل يوجبان محقـه، كما ورد في روايـة أبان:
«أنّ السنّـة إذا قيست محق الدين»(1).
ومنها:
ما رواه أبوحيون مولى الرضا عن الرضا (عليه السلام) قال:
«من ردّ متشابـه القرآن إلى محكمـه فقد هدي إلى صراط مستقيم» ثمّ قال:
«إنّ في أخبارنا محكماً كمحكم القرآن، ومتشابهاً كمتشابـه القرآن، فردّوا متشابهها إلى محكمها، ولا تتّبعوا متشابهها دون محكمها فتضلّوا»(2).
فإنّ ردّ المتشابـه إلى المحكم لا يتيسّر بدون الاجتهاد، ولا يمكن أن يتحقّق بدون مقدّماتـه.
ومنها:
ما رواه داود بن فرقد قال: سمعت أباعبداللّه (عليه السلام) يقول:
«أنتم أفقـه الناس إذا عرفتم معاني كلامنا، إنّ الكلمـة لتنصرف على وجوه، فلو شاء إنسان لصرف كلامـه كيف شاء ولا يكذب»(3)، فإنّ تشخيص الوجـه المقصود للإمام (عليه السلام) لا يمكن بدون الاجتهاد.
ومنها:
الأخبار الدالّـة على حرمـة الفتوى بغير علم الظاهرة في عدم
- 1 ـ الكافي 1: 46 / 15، وسائل الشيعـة 27: 41، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب6، الحديث10.
- 2 ـ عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 1: 290 / 39، وسائل الشيعـة 27: 115، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب9، الحديث22.
- 3 ـ معاني الأخبار: 1 / 1، وسائل الشيعـة 27: 117، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب9، الحديث27.