(الصفحة 458)
علمائهم في الاُصول، حيث قال:
(وَإِن هُم إِلاّ يَظُنُّونَ ) ما تقول رؤساؤهم من تكذيب محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) في نبوّتـه وإمامـة علي سيّد عترتـه، وهم يقلّدونهم مع أنّـه محرّم عليهم تقليدهم».
ثمّ بعدما سأل الرجل عن الفرق بين عوامنا وعوامهم حيث كانوا مقلّدين؟ أجاب بما حاصلـه: إنّ عوامهم مع علمهم بفسق علمائهم وكذبهم وأكلهم الحرام والرشا وتغيـيرهم أحكام اللّه يقلّدونهم، مع أنّ عقلهم يمنعهم عنـه، ولو كان عوامهم [عوامنا] كذلك لكانوا مثلهم ثمّ قال:
«وأمّا من كان من الفقهاء...» إلى آخره.
فيظهر منـه أنّ الذمّ لم يكن متوجّهاً إلى تقليدهم في اُصول العقائد كالنبوّة والإمامـة، بل متوجّـه إلى تقليد فسّاق العلماء، وأنّ عوامنا لو قلّدوا علمائهم فيما قلَّد اليهود علمائهم لابأس بـه إذا كانوا صائنين لأنفسهم حافظين لدينهم... إلى آخره. فإخراج الاُصول منـه إخراج للمورد وهو مستهجن.
فلابدّ من توجيـه الروايـة بوجـه أو ردّ علمها إلى أهلها. وأمّا حملها على حصول العلم من قول العلماء للعوام لحسن ظنّهم بـه وعدم انقداح خلاف الواقع من قولهم، بل يكون قول العلماء لديهم صراح الواقع وعين الحقيقـة، فبعيد بل غير ممكن، لتصريحها بأنّهم لم يكونوا إلاّ ظانّين بقول رؤسائهم وأنّ عقلهم كان يحكم بعدم جواز تقليد الفاسق، مع أنّـه لو حصل العلم من قولهم لليهود لم يتوجّـه إليهم ذمّ بل لم يسمّ ذلك تقليداً.
وبالجملـة: سوق الروايـة إنّما هو في التقليد الظنّي الذي يمكن ردع قسم منـه والأمر بالعمل بقسم منـه، والالتزام بجواز التقليد في الاُصول أو في بعضها كما ترى، فالروايـة مع ضعفها سنداً واغتشاشها متناً لا تصلح للحجّيـة، ولكن
(الصفحة 459)
يستفاد منها مع ضعف سندها أمر تاريخي يؤيّد ما نحن بصدده، وهو أنّ التقليد بهذا المفهوم الذي في زماننا كان شائعاً من زمن قديم هو زمان الأئمّـة، أو قريب منـه; أي من زمان تدوين «تفسير الإمام» أو من قبلـه بزمان طويل.
ومنها: إطلاق صدر مقبولـة عمر بن حنظلـة(1) وإطلاق مشهورة أبي خديجـة(2). وتقريب الدلالـة أن يقال: إنّ الظاهر من صدرها وذيلها شمولها للشبهات الحكميّـة، فيؤخذ بإطلاقها في غير مورد واحد متعرّض لـه وهو صورة اختلاف الحَكَمين، وكذا المشهورة تشملها بإطلاقها، فإذا دلّتا على نفوذ حكم الفقيـه فيها، تدلاّن على اعتبار فتواه في باب فصل الخصومات، وإلاّ فلا يعقل إنفاذه بدونـه، ويفهم نفوذ فتواه وحجّيتـه في غيره إمّا بإلغاء الخصوصيـة عرفاً، أو بدعوى تنقيح المناط.
أو يقال: إنّ الظاهر من قولـه:
«فإذا حكم بحكمنا». إلغاء احتمال الخلاف من فتوى الفقيـه، إذ ليس المراد منـه «أنّـه إذا علمتم أنّـه حكم بحكمنا»، بل المراد «أنّـه إذا حكم بحكمنا بحسب نظره ورأيـه» فجعل نظره طريقاً إلى حكمهم، هذا.
ولكن يرد عليـه: أنّ إلغاء الخصوصيّـة عرفاً ممنوع، ضرورة تحقّق خصوصيّـة زائدة في باب الحكومـة ربّما تكون بنظر العرف دخيلـة فيها وهي رفع
- 1 ـ الكافي 1: 67 / 10، وسائل الشيعة 27: 136، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب11، الحديث1.
- 2 ـ تهذيب الأحكام 6: 303 / 846، وسائل الشيعة 27: 139، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب11، الحديث6.
(الصفحة 460)
الخصومـة بين المتخاصمين، وهو لا يمكن نوعاً إلاّ بحكم الحاكم النافذ، وهذا أمر مرغوب فيـه لا يمكن فيـه الاحتياط ولا يتّفق فيـه المصالحـة نوعاً، وأمّا العمل بقول الفقيـه فربّما لا يكون مطلوباً ويكون المطلوب درك الواقع بالاحتياط أو الأخذ بأحوط الأقوال مع تعذّر الاحتياط التامّ.
فدعوى أنّ العرف يفهم من المقبولـة وأمثالها حجّيـة الفتوى لا تخلو من مجازفـة، وأوضح فساداً من ذلك دعوى تنقيح المناط القطعي.
وأمّا قولـه:
«إذا حكم بحكمنا» لو سلّم إشعاره بإلغاء احتمال الخلاف فإنّما هو في باب الحكومـة، فلابدّ للسرايـة إلى باب الفتوى من دليل وهو مفقود، فالإنصاف عدم جواز التمسّك بأمثال المقبولـة للتقليد رأساً، وكما لا يجوز التمسّك بصدرها على جواز تقليد المفضول لا يجوز ببعض فقرات ذيلها على وجوب تقليد الأعلم لدى مخالفـة قولـه مع غيره.
ومنها; إطلاق ما في التوقيع:
«وأمّا الحوادث الواقعـة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فانّهم حجّتي عليكم وأنا حجّـة اللّه»(1).
وتقريبـه: أنّ «الحوادث» أعمّ من الشبهات الحكميّـة، والرجوع إلى رواة الحديث ظاهر في أخذ فتواهم لا أخذ نفس الروايـة، ورواة الحديث كانوا من أهل الفتوى والرأي، كما أنّ قولـه:
«فإنّهم حجّتي عليكم»، يدلّ على أنّ فتوى رواة الحديث حجّـة، كما أنّ فتوى الإمام حجّـة، فلا معنى لحجّيـة رواة الحديث إلاّ حجيّـة فتاويهم وأقوالهم، والحمل على حجّيـة الأحاديث المنقولـة بتوسّطهم خلاف الظاهر.
- 1 ـ كمال الدين: 484 / 4، وسائل الشيعـة 27: 140، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب11، الحديث9.
(الصفحة 461)
وفيـه: بعد ضعف التوقيع سنداً أنّ صدره غير منقول إلينا، ولعلّـه كان مكتنفاً بقرائن لا يفهم منها إلاّ حجّيـة حكمهم في الشبهات الموضوعيّـة أو الأعمّ، وكان الإرجاع في القضاء لا في الفتوى.
ومنها: ما عن الكشي بسند ضعيف عن أحمد بن حاتم بن ماهويـه قال: كتبت إليـه ـ يعني أباالحسن الثالث (عليه السلام) أسألـه: عمّن آخذ معالم ديني، وكتب أخوه أيضاً بذلك، فكتب إليهما:
«فهمت ما ذكرتما فاصمدا في دينكما على كلّ مسنّ في حبّنا وكلّ كثير القدم في أمرنا، فإنّهما كافوكما إن شاء اللّه تعالى»(1).
وفيـه: بعد ضعف السند أنّ الظاهر من سؤالـه أنّ الرجوع إلى العالم كان مرتكزاً في ذهنـه، وإنّما أراد تعيـين الإمام شخصـه، فلا يستفاد منـه التعبّد، كما أنّ الأمر كذلك في كثير من الروايات، بل قاطبتها على الظاهر.
ومنها: روايات كثيرة عن الكشي وغيره، فيها الصحيح وغيره تدلّ على إرجاع الأئمـة إلى أشخاص من فقهاء أصحابهم، يظهر منها أنّ الرجوع إليهم كان متعارفاً، ومع وجود الأفقـه كانوا يرجعون إلى غيره، كصحيحـة ابن أبييعفور قال: قلت لأبي عبداللّه (عليه السلام): إنّـه ليس كلّ ساعـة ألقاك ولا يمكن القدوم، ويجيء الرجل من أصحابنا فيسألني وليس عندي كلّ ما يسألني عنـه، فقال:
«ما يمنعك من محمّد بن مسلم الثقفي، فإنّـه سمع من أبي وكان عنده وجيهاً»(2).
- 1 ـ اختيار معرفـة الرجال: 4 / 7، وسائل الشيعـة 27: 151، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب11، الحديث45.
- 2 ـ اختيار معرفـة الرجال: 161 / 273، وسائل الشيعـة 27: 144، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب11، الحديث23.
(الصفحة 462)
وكروايـة علي بن المسيّب(1)، حيث أرجعـه الرضا (عليه السلام) إلى زكريّا بن آدم، إلى غير ذلك.
ويستفاد منها أنّ أخذ معالم الدين الذي هو عبارة اُخرى عن التقليد كان مرتكزاً في ذهنهم ومتعارفاً في عصرهم، ويستفاد من صحيحـة ابن أبييعفور تعارف رجوع الشيعـة إلى الفقهاء من أصحاب الأئمّـة مع وجود الأفقـه بينهم، وجواز رجوع الفقيـه إلى الأفقـه إذا لم يكن لـه طريق إلى الواقع.
وهذا ليس منافياً لما ذكرنا في أوّل الرسالـة من أنّ موضوع عدم جواز الرجوع إلى الغير نفس قوّة الاستنباط، وذلك لأنّ ما ذكرنا هناك إنّما هو فيمن لـه طريق إلى الاستنباط مثل زماننا، فإنّ الكتب الراجعـة إليـه مدوّنـة مكتوبـة بين أيدينا، بخلاف ما إذا لم يمكن كذلك، كعصر محمّد بن مسلم، حيث إنّ الأحاديث فيـه كانت مضبوطـة عنده وعند نظرائـه، ولم يكن للجاهل طريق إليها إلاّ بالرجوع إليهم، مع إمكان أن يقال: إنّ إرجاع مثل ابـن أبييعفور إنّما هـو في سماع الحديث ثمّ استنباطـه منـه حسب اجتهاده، ولا إشكال في استفادة جواز الرجوع إلى الفقهاء ـ بل إلى الفقيـه مع الأفقـه ـ مـن تلك الروايات. لكـن استفادة ذلك مع العلم الإجمالي أو التفصيلي بمخالفـة آرائهما مشكلـة، لعدم العلم بذلك في تلك الأعصار، خصوصاً من مثل اُولئك الفقهاء والمحدّثين الذين كانوا من بطانة الأئمّة فالاتّكال على مثل تلك الأدلّـة في جواز تقليد المفضول مشكل، بل غير ممكن.
- 1 ـ اختيار معرفـة الرجال: 594 / 1112، وسائل الشيعـة 27: 146، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب11، الحديث27.