(الصفحة 461)
وفيـه: بعد ضعف التوقيع سنداً أنّ صدره غير منقول إلينا، ولعلّـه كان مكتنفاً بقرائن لا يفهم منها إلاّ حجّيـة حكمهم في الشبهات الموضوعيّـة أو الأعمّ، وكان الإرجاع في القضاء لا في الفتوى.
ومنها: ما عن الكشي بسند ضعيف عن أحمد بن حاتم بن ماهويـه قال: كتبت إليـه ـ يعني أباالحسن الثالث (عليه السلام) أسألـه: عمّن آخذ معالم ديني، وكتب أخوه أيضاً بذلك، فكتب إليهما:
«فهمت ما ذكرتما فاصمدا في دينكما على كلّ مسنّ في حبّنا وكلّ كثير القدم في أمرنا، فإنّهما كافوكما إن شاء اللّه تعالى»(1).
وفيـه: بعد ضعف السند أنّ الظاهر من سؤالـه أنّ الرجوع إلى العالم كان مرتكزاً في ذهنـه، وإنّما أراد تعيـين الإمام شخصـه، فلا يستفاد منـه التعبّد، كما أنّ الأمر كذلك في كثير من الروايات، بل قاطبتها على الظاهر.
ومنها: روايات كثيرة عن الكشي وغيره، فيها الصحيح وغيره تدلّ على إرجاع الأئمـة إلى أشخاص من فقهاء أصحابهم، يظهر منها أنّ الرجوع إليهم كان متعارفاً، ومع وجود الأفقـه كانوا يرجعون إلى غيره، كصحيحـة ابن أبييعفور قال: قلت لأبي عبداللّه (عليه السلام): إنّـه ليس كلّ ساعـة ألقاك ولا يمكن القدوم، ويجيء الرجل من أصحابنا فيسألني وليس عندي كلّ ما يسألني عنـه، فقال:
«ما يمنعك من محمّد بن مسلم الثقفي، فإنّـه سمع من أبي وكان عنده وجيهاً»(2).
- 1 ـ اختيار معرفـة الرجال: 4 / 7، وسائل الشيعـة 27: 151، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب11، الحديث45.
- 2 ـ اختيار معرفـة الرجال: 161 / 273، وسائل الشيعـة 27: 144، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب11، الحديث23.
(الصفحة 462)
وكروايـة علي بن المسيّب(1)، حيث أرجعـه الرضا (عليه السلام) إلى زكريّا بن آدم، إلى غير ذلك.
ويستفاد منها أنّ أخذ معالم الدين الذي هو عبارة اُخرى عن التقليد كان مرتكزاً في ذهنهم ومتعارفاً في عصرهم، ويستفاد من صحيحـة ابن أبييعفور تعارف رجوع الشيعـة إلى الفقهاء من أصحاب الأئمّـة مع وجود الأفقـه بينهم، وجواز رجوع الفقيـه إلى الأفقـه إذا لم يكن لـه طريق إلى الواقع.
وهذا ليس منافياً لما ذكرنا في أوّل الرسالـة من أنّ موضوع عدم جواز الرجوع إلى الغير نفس قوّة الاستنباط، وذلك لأنّ ما ذكرنا هناك إنّما هو فيمن لـه طريق إلى الاستنباط مثل زماننا، فإنّ الكتب الراجعـة إليـه مدوّنـة مكتوبـة بين أيدينا، بخلاف ما إذا لم يمكن كذلك، كعصر محمّد بن مسلم، حيث إنّ الأحاديث فيـه كانت مضبوطـة عنده وعند نظرائـه، ولم يكن للجاهل طريق إليها إلاّ بالرجوع إليهم، مع إمكان أن يقال: إنّ إرجاع مثل ابـن أبييعفور إنّما هـو في سماع الحديث ثمّ استنباطـه منـه حسب اجتهاده، ولا إشكال في استفادة جواز الرجوع إلى الفقهاء ـ بل إلى الفقيـه مع الأفقـه ـ مـن تلك الروايات. لكـن استفادة ذلك مع العلم الإجمالي أو التفصيلي بمخالفـة آرائهما مشكلـة، لعدم العلم بذلك في تلك الأعصار، خصوصاً من مثل اُولئك الفقهاء والمحدّثين الذين كانوا من بطانة الأئمّة فالاتّكال على مثل تلك الأدلّـة في جواز تقليد المفضول مشكل، بل غير ممكن.
- 1 ـ اختيار معرفـة الرجال: 594 / 1112، وسائل الشيعـة 27: 146، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب11، الحديث27.
(الصفحة 463)
فيما استدلّ به على ترجيح قول الأفضل
واستدلّ على ترجيح قول الأفضل مع العلم بالمخالفـة تارة: بالإجماعات المنقولـة، وهو كما ترى في مثل المسألـة العقليّـة مع تراكم الأدلّـة.
واُخرى: بالأخبار كالمقبولـة وغيرها، بأن يقال: إنّ الشبهـة فرضت حكميّـة في المقبولـة، فنفوذ حكمـه تعينيّاً ملازم لنفوذ فتواه كذلك في تلك المسألـة، فتعدّى إلى غيرها بإلغاء الخصوصيـة أو القطع بالملاك سيّما مع تناسب الأفقهيّـة والأصدقيّـة في الحديث لذلك.
وفيـه: ـ مضافاً إلى أنّ ظاهر المقبولـة أنّ الأوصاف الأربـع مجتمعـة توجب التقديم بمقتضى العطف بالواو، وفرض الراوي صورة التساوي لا يكشف عن كون المراد وجود أحدها ـ بمنع التلازم هاهنا، لأنّ الملازمـة إنّما تكون في صورة إثبات النفوذ لا سلبـه، لأنّ سلب المركّب أو ما بحكمـه بسلب أحد أجزائـه، فسلب نفوذ حكمـه كما يمكن أن يكون لسلب حجّيـة فتواه، يمكن أن يكـون لسلب صلاحيّـة حكمـه للفصل، وعـدم جـواز الأخـذ بالفتوى فـي المقام ليس لعـدم صلاحيتـه للحجّيـة، بل لعدم كونـه فاصلا، بل فتوى الأعلم أيضاً ليس بفاصـل، والتناسب بيـن الأفقهيّـة وذلـك لم يصـل إلى حـدّ كشف العلّيـة التامّـة.
هذا كلّـه مع أنّ إلغاء الخصوصيّـة عرفاً أو القطع بالملاك ممّا لا وجـه لهما بعد وضوح الفرق بين المقامين، ولعلّ الشارع لاحظ جانب الاحتياط في حقوق الناس، فجعل حكم الأعلم فاصلا لأقربيّـة الواقع بنظره، ولم يلاحظـه في
(الصفحة 464)
أحكامـه توسعـة على الناس، فدعوى إلغاء الخصوصيـة مجازفـة، ودعوى القطع أشدّ مجازفـة.
وثالثـة: بأنّ فتوى الأعلم أقرب إلى الصواب، لأنّ نظره طريق محض إلى الواقع سواء الأوّليات منـه، أو الثانويات، أو الأعذار الشرعيّـة والعقليّـة، فحينئذ تلازم الأعلميّـة للأقربيـة وهو المتعيّن في مقام الإسقاط والأعذار، وجواز الرجوع إلى غيره يساوق الموضوعيّـة.
والجواب عن الصغرى: بمنع كلّيتها، لأنّ رأي غير الأعلم قد يوافق رأي الأعلم من الأموات أو الأحياء إذا لم يجز تقليدهم لجهـة، بل إذا كان رأي غير الأعلم موافقاً لجميع الفقهاء ويكون الأعلم منفرداً في الأحياء في الفتوى مع كون مخالفيـه كثيراً جدّاً.
وتنظّر بعض أهل النظر في الصغرى بأنّ حجّيـة الفتوى لأجل كونـه من الظنون الخاصـة لا المطلقـة، فمطابقـة قول غير الأعلم للأعلم الغير الصالح للحجّيـة غير مفيدة.
فلا عبرة بقوّتـه ولا أصلـه كالظنّ من الأمارات الغير المعتبرة، والأقوائيّـة بمطابقـة قولـه لسائر المجتهدين الذين مثلـه فغير مسلّم، إذ المطابقـة لوحدة الملاك وتقارب الأنظار، فالكلّ في قوّة نظر واحد، ولا يكشف توافق آرائهم عن قوّة مدركهم، وإلاّ لزم الخلف، لفرض أقوائيّـة نظر الأعلم.
ومنـه يعلم فساد قياسها بالخبرين المتعارضين المحكي أحدهما بطرق متعدّدة، إذ ليست الحكايات المتعددة بمنزلـة حكايـة واحدة، فلا محالـة يوجب كلّ حكايـة ظنّاً بصدور شخص هذا الكلام من غير لزوم الخلف(1)، انتهى.
- 1 ـ نهايـة الدرايـة 6: 412 ـ 413.
(الصفحة 465)
وفيـه ما لا يخفى; إذ المنظور في ردّ الصغرى إنكار كلّيـة دعوى أقربيّـة قول الأعلم، لا دعوى تقدّم قول غير الأعلم في مقام الاحتجاج، فما ذكره أجنبي عن المقام، بل المناقشـة فيـه منحصرة بإنكار الأقربيّـة، وهو مسقط لأصل دعواه في الصغرى، إذا إنكاره مساوق لإنكار أقربيّـة فتوى الأعلم.
وأمّا إنكار الأقربيّـة في المثال الأخير فغير وجيـه، لأنّ أنظار المجتهدين كما كانت طريقاً إلى الواقعيّات والحجج فلا محالـة إذا اجتمع جلّ أهل الفنّ على خطأ الأعلم لا يبقى وثوق بأقربيّـة قولـه لو لم نقل بالوثوق على الخلاف. وإن شئت قلت: لا تجري أصالـة عدم الغفلـة والخطأ في اجتهاده، وتوهّم كون أنظارهم بمنزلـة نظر واحد كتوهّم لزوم الخلف في غايـة السقوط.
وعن الكبرى: بأنّ تعيّن الرجوع إلى الأقرب إن كان لأجل إدراك العقل تعيّنـه جزماً ـ بحيث لا يمكـن للشارع التعبّد بخلافـه، ولـو ورد دليل صريـح على خلافـه لابدّ من طرحـه ـ فهو فاسـد، لأنّ الشارع إذا رأى مفسدة في تعيّن الرجـوع إلـى الأعلـم أو مصلحـة فـي التوسعـة علـى المكـلّف فلا محالـة يرخّـص ذلـك مـن غير الشبهـة الموضوعيـة كتجـويز العمل بخبر الثقـة وتـرك الاحتياط.
نعم لو علمنا وجداناً بأنّ الشارع لا يرضى بترك الواقعيات فلا يمكن معـه احتمال تجويز العمل بقول العالم ولا بقول الأعلم، بل يحكم العقل بوجوب الاحتياط ولو مع اختلال النظام فضلا عن لزوم الجرح، لكنّـه خلاف الواقع وخلاف المفروض في المقام، ولهذا لا أظنّ بأحد ردّ دليل معتبر قام على جواز الرجوع بغير الأعلم، فعليـه كيف يمكن دعوى القطع بلزوم تعيّن الأقرب مع احتمال تعبّد في المقام ولو ضعيفاً؟!