(الصفحة 467)
ومنها: أنّ أحسنيّـة الاستنباط وكون الأعلم أقوى نظراً في تحصيل الحكم من المدارك عبارة اُخرى عن أقربيّـة رأيـه إلى الواقع، فلا يخلو كلامـه من التناقض والتنافي.
ومنها: أنّ إذعان العقل بما ذكره مستلزم لامتناع تجويز العمل على طبق رأي غير الأعلم، لقبح التسويـة بين العالم والجاهل، بل امتناعـه وهو كما ترى، ولا أظنّ التزام أحد بـه.
والتحقيق: أنّ تجويز العمل بقول غيره ليس لأجل التسويـة بينهما، بل لمفسدة التضيـيق أو مصلحـة التوسعـة ونحوهما ممّا لا ينافي الطريقيـة كما قلنا في محلّـه(1)، وليعلم أنّ هذا الدليل الأخير غير أصالـة التعيـين في دوران الأمر بين التخيـير والتعيـين وغير بناء العقلاء على تعيّن الأعلم في مورد الاختلاف، فلا تختلط بينـه وبينهما وتدبّر جيّداً.
فالإنصاف: أنّـه لا دليل على ترجيح قول الأعلم إلاّ الأصل بعد ثبوت كون الاحتياط مرغوباً عنـه وثبوت حجّيـة قول الفقهاء في الجملـة، كما أنّ في الأصل أيضاً إشكال، لأنّ فتوى غير الأعلم إذا طابق الأعلم من أعلم من الأموات أو في المثالين المتقدّمين يصير المقام من دوران الأمر بين التخيـير والتعيـين، لا تعيّن الأعلم، والأصل فيـه التخيـير.
إلاّ أن يقال: إنّ تعيّن غير الأعلم حتّى في مورد الأمثلـة مخالف لتسالم الأصحاب وإجماعهم، فدار الأمـر بين التعيـين والتخيـير في مـورد الأمثلـة أيضاً، وهو الوجـه في بنائنا على الأخذ بقول الأعلم احتياطاً، وأمّا بناء العقلاء
- 1 ـ تقدّم في الجزء الأوّل: 417.
(الصفحة 468)
فلم يحرز في مورد الأمثلـة المتقدّمـة.
هذا فيما إذا علم اختلافهما تفصيلا، بل أو إجمالا أيضاً بنحو ما مرّ، وأمّا مع احتمالـه فلا يبعد القول بجواز الأخذ من غيره أيضاً، لإمكان استفادة ذلك من الأخبار، بل لا يبعد دعوى السيرة عليـه، هذا كلّـه في المتفاضلين.
في حال المجتهدين المتساويين مع اختلاف فتواهما
وأمّا في المتساويـين فالقاعدة وإن اقتضت تساقطهما مع التعارض والرجوع إلى الاحتياط لو أمكن، وإلى غيره من القواعد مع عدمـه، لكن الظاهر أنّ الاحتياط مرغوب عنـه وأن المسلّم عندهم حجّيـة قولهما في حال التعارض، فلابدّ من الأخذ بأحدهما والقول بحجيّتـه التخيـيريّـة.
وقد يقال بدلالـة قولـه في مثل روايـة أحمد بن حاتم بن ماهويـه:
«فاصمدا في دينكما إلى كلّ مسنٍّ في حبّنا»(1) وغيرها من الروايات العامّـة على المطلوب، فإنّ إطلاقها شامل لحال التعارض، والفرق بينها وبين أدلّـة حجّيـة خبر الثقـة حيث أنكرنا إطلاقها لحال التعارض أنّ الطبيعـة في حجّيـة خبر الثقـة اُخذت بنحو الوجود الساري، فكلّ فرد من الأخبار مشمول أدلّـة الحجّيـة تعيـيناً ولا يعقل جعل الحجّيـة التعيـينيّـة في المتعارضين، ولا جعل الحجيّـة التعيـينيّـة في غيرهما والتخيـيريّـة فيهما بدليل واحد، فلا مناص إلاّ القول بعدم الإطلاق لحال التعارض.
- 1 ـ اختيار معرفـة الرجال: 4 / 7، وسائل الشيعـة 27: 151، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب11، الحديث45.
(الصفحة 469)
وأمّا الطبيعـة في حجّيـة قول الفقهاء، اُخذت على نحو صِرف الوجود، ضرورة عدم معنى لجعل حجّيـة قول كلّ عالم بنحو الطبيعـة الساريـة والوجوب التعيـيني حتّى يكون المكلّف في كلّ واقعـة مأموراً بأخذ قول جميع العلماء، فإنّـه واضح البطلان، فالمأمور بـه هو الوجود الصرف، فإذا اُخذ بقول واحد منهم فقد أطاع، فلا مانع حينئذ من إطلاق دليل الحجّيـة لحال التعارض.
فقولـه:
«وأمّا الحوادث الواقعـة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا» مفاده جعل حجّيـة قول العالم على نحو البدليّـة أو صرف الوجود، كان مخالفاً لقول غيره أو لا، يعلم مخالفتـه لـه تفصيلا أو لا.
هذا ما أفاده شيخنا العلاّمـة على ما في تقريرات بعض فضلاء بحثـه(1).
وأنت خبير بأنّ هذا بيان لإمكان الإطلاق على فرض وجود دليل مطلق يمكن الاتّكال عليـه.
ونحن بعد الفحص الأكيد لم نجد دليلا يسلم دلالةً وسنداً عن الخدشـة، مثلا قولـه في الروايـة المتقدّمـة:
«فاصمدا في دينكما...» إلى آخره، بمناسبـة صدرها وهو قولـه: «عمّن آخذ معالم ديني؟» لا يستفاد منـه التعبّد، بل الظاهر منـه هو الإرجاع إلى الأمر الارتكازي، فإنّ السائل بعد مفروغيّـة جواز الرجوع إلى العلماء سأل عن الشخص الذي يجوز التعويل على قولـه. ولعلّـه أراد أن يعيّن الإمام شخصاً معيّناً كما عيّن الرضا (عليه السلام) زكريا بن آدم(2)، والصادق (عليه السلام)
- 1 ـ درر الفوائد، المحقّق الحائري: 714 ـ 717.
- 2 ـ وسائل الشيعـة 27: 146، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب11، الحديث27.
(الصفحة 470)
الأسدي(1) والثقفي(2) وزرارة(3) فأرجعـه إلى من كان كثير القدم في أمرهم ومسنّاً في حبّهم.
والظاهر من «كثرة القدم في أمرهم» كونـه ذا سابقـة طويلـة في أمر الإمامـة والمعرفـة، ولم يذكر الفقاهـة، لكونها أمراً ارتكازياً معلوماً لدى السائل والمسؤول عنـه وأشار إلى صفات اُخر موجبـة للوثوق والاطمئنان بهم، فلايستفاد منها إلاّ تقرير الأمر الارتكازي.
ولو سلّم كونـه بصدد إعمال التعبّد والإرجاع إلى الفقهاء فلا إشكال في عـدم إطلاقها لحـال التعارض، بل قولـه ذلك كقول القائل: «المريض لابـدّ وأن يرجع إلى الطبيب وليشرب الدواء» وقولـه: «إنّ الجاهل بالتقويم لابدّ وأن يرجع إلى المقوّم».
ومعلوم أنّ أمثال ذلك لا إطلاق لها لحال التعارض هذا مع ضعف سندها، وقد عرفت حال التوقيع(4)، وبالجملـة لا إطلاق في الأدلّـة بالنسبـة إلى حال التعارض.
- 1 ـ وسائل الشيعـة 27: 142، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب11، الحديث15.
- 2 ـ وسائل الشيعـة 27: 144، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب11، الحديث23.
- 3 ـ وسائل الشيعـة 27: 143، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب11، الحديث17، 19.
- 4 ـ تقدّم في الصفحـة 460 ـ 461.
(الصفحة 471)الاستدلال على التخيير بين المتساويين بأدلّة العلاج
وقد يتمسّك للتخيـير في المتساويـين بأدلّـة علاج المتعارضين كموثّقـة سماعـة عن أبيعبداللّه (عليه السلام) قال: سألتـه عن رجل اختلف عليـه رجلان من أهل دينـه في أمر كلاهما يرويـه، أحدهما يأمر بأخذه، والآخر ينهاه عنـه، كيف يصنع؟ قال:
«يرجئـه حتّى يلقى من يخبره، فهو في سعـة حتّى يلقاه»(1).
تقريبـه: أنّ التخالف بينهما لا يتحقّق بصرف نقل الروايـة مع عدم الجزم بمضمونها، ومعـه مساوق للفتوى، فاختلاف الرجلين إنّما هو في الفتوى، ويشهد لـه قولـه: «أحدهما يأمر بأخذه والآخر ينهاه». وهذا لا ينطبق على صرف الروايـة والحكايـة، فلابدّ من الحمل على الفتوى، فأجاب (عليه السلام) بأنّـه في سعـة ومخيّر في الأخذ بأحدهما.
بل يمكن التمسّك بسائر أخبار التخيـير في الحديثين المختلفين بإلغاء الخصوصيـة، فإنّ الفقيـه أيضاً يكون فتواه محصّل الأخبار بحسب الجمع والترجيح، فاختلاف الفتوى يرجع إلى اختلاف الروايـة، هذا.
وفيـه ما لا يخفى:
أمّا التمسّك بموثّقـة سماعـة، ففيـه أنّ قولـه:
«يرجئـه حتّى يلقى من يخبره» معناه: يؤخّره ولا يعمل بواحد منهما، كما صرّح بـه في روايتـه الاُخرى(2)، والمظنون أنّهما روايـة واحدة، ومعنى «الإرجاء» لغةً وعرفاً هو
- 1 ـ الكافي 1: 66 / 7، وسائل الشيعـة 27: 108، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب9، الحديث5.
- 2 ـ وسائل الشيعـة 27: 122، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب9، الحديث42.