(الصفحة 477)
وطريق إليـه كإخبار المخبر، وهو باق على طريقيّتـه بعد الموت، ولو شكّ في جواز العمل بـه لأجل احتمال اشتراط الحياة شرعاً جاز استصحابـه وتمّ أركانـه.
وإن شئت قلت: إنّ جزم الفقيـه أو إظهاره الفتوى على سبيل الجزم واسطـة في حدوث جواز العمل بقولـه وكتابـه، وبعد موتـه نشكّ في بقاء الجواز لأجل الشكّ في كونـه واسطـة في العروض أو الثبوت فيستصحب.
وأمّا ما أفاد من كون الوسط في قياس الاستنباط هو المظنون بما هو كذلك وأنّ المظنون الحرمـة حرام أو مظنون الحكم واجب العمل(1). ففيـه: أنّ إطلاق الحجّـة على الأمارات ليس باعتبار وقوعها وسطاً في الإثبات كالحجّـة المنطقيّـة، بل المراد منها هي كونها منجّزةً للواقع، بمعنى أنّـه إذا قامت الأمارة المعتبرة على وجوب شيء وكان واجباً بحسب الواقع فتركـه المكلّف، تصحّ عقوبتـه ولا عذر لـه في تركـه، وبهذا المعنى تطلق «الحجّـة» على القطع كإطلاقها على الأمارات، بل تطلق على بعض الشكوك أيضاً.
وبالجملـة: الحجّـة في الفقـه ليست هي القياس المنطقي، ولا يكون الحكم الشرعي مترتّباً على ما قام عليـه الأمارة بما هو كذلك ولا المظنون بما هـو مظنون.
فتحصّل من جميع ما ذكرنا: أنّ استصحاب جواز العمل على طبق رأي المجتهد وفتواه بمعنى حاصل المصدر وعلى طبق كتابـه، الكاشفين عن الحكم الواقعي أو الوظيفـة الظاهريّـة ممّا لا مانع منـه.
لا يقال: بناءً على ما ذكرت يصحّ استصحاب حجّيـة ظنّ المجتهد الموجود
- 1 ـ مطارح الأنظار: 260 / السطر2.
(الصفحة 478)
في زمان حياتـه. فلنا أن نقول: إنّ الحجّيـة والأماريّـة ثابتـتان لـه في موطنـه، ويحتمل بقاؤهما إلى الأبد، ومع الشكّ تستصحبان.
فإنّـه يقال: هذا غير معقول، للزوم إثبات الحجّيـة وجواز العمل فعلا لأمر معدوم، وكونـه في زمانـه موجوداً لا يكفي في إثبات الحجّيـة الفعليّـة لـه مع معدوميّتـه فعلا.
وإن شئت قلت: إنّ جواز العمل كان ثابتاً للظنّ الموجود، فموضوع القضيّـة المتيقّنـة هو الظنّ الموجود وهو الآن مفقود. اللهمّ إلاّ أن يقال: إنّ الظنّ في حال الوجود بنحو القضيّـة الحينيّـة موضوع للقضيّـة لا بنحو القضيّـة الوضعيّـة والتقيـيديّـة، وهو عين الموضوع في القضيـة المشكوك فيها. وقد ذكرنا في باب الاستصحاب أنّ المعتبر فيـه وحدة القضيّتين لا إحراز وجود الموضوع فراجع(1).
ولكن كون الموضوع كذلك في المقام محلّ إشكال ومنع، مع أنّـه لا يدفع الإشكال المتقدّم بـه.
تقرير إشكال آخر على الاستصحاب
ثمّ إنّ هاهنا إشكالا قويّاً على هذا الاستصحاب، وهو أنّـه إمّا أن يراد بـه استصحاب الحجّيـة العقلائيـة، فهي أمر غير قابل للاستصحاب، أو الحجّيـة الشرعيّـة فهي غير قابلـة للجعل.
أو جواز العمل على طبق قولـه، فلا دليل على جعل الجواز الشرعي، بل الظاهر من مجموع الأدلّـة هو تنفيذ الأمر الارتكازي العقلائي، فليس في الباب
- 1 ـ الاستصحاب، الإمام الخميني (قدس سره): 203.
(الصفحة 479)
دليل جامع لشرائط الحجّيـة يدلّ على تأسيس الشرع جواز العمل أو وجوبـه على رأي المجتهد، فها هي الأدلّـة المستدلّ بها للمقصود، فراجعها حتّى تعرف صدق ما ذكرناه.
أو استصحاب الأحكام الواقعيّـة، فلاشكّ في بقائها، لأنّها لو تحقّقت أوّلا فلاشكّ في أنّها متحقّقـة في الحال أيضاً، لأنّ الشكّ في بقائها إمّا لأجل الشكّ في النسخ، أو الشكّ في فقدان شرط، كصلاة الجمعـة في زمان الغيبـة، أو حدوث مانع، والفرض أنّـه لاشكّ من هذه الجهات.
أو الأحكام الظاهريّـة; بدعوى كونها مجعولـة عقيب رأي المجتهد، بل عقيب سائر الأمارات، فهو أيضاً ممنوع، لعدم الدليل على ذلك، بل ظاهر الأدلّـة على خلافها، لأنّ الظاهـر منها إمضاء ما هو المرتكز لدى العقلاء، والمرتكز لديهم هو أماريّـة رأي المجتهد للواقع كأماريّة رأي كلّ ذي صنعة إلى الواقع في صنعتـه.
وبالجملـة: لابدّ في جريان الاستصحاب من حكم أو موضوع ذي حكم، وليس في المقام شيء قابل لـه، أمّا الحكم الشرعي فمفقود، لعدم تطرّق جعل وتأسيس من الشارع، وأمّا ما لدى العقلاء من حجّيـة قول أهل الخبرة، فلعدم كونـه موضوعاً لحكم شرعي، بل هو أمر عقلائي يتنجّز بـه الواقع بعد عدم ردع الشارع إيّاه، وأمّا إمضاء الشارع وارتضائـه لما هو المرتكز بين العقلاء فليس حكماً شرعيّاً حتّى يستصحب تأمّل بل لا يستفاد من الأدلّـة إلاّ الإرشاد إلى ما هو المرتكز، فليس جعل وتأسيس، كما لايخفى.
إن قلت: بناءً عليـه ينسدّ باب الاستصحاب في مطلق مؤدّيات الأمارات، فهل فتوى الفقيـه إلاّ إحداها؟! مع أنّـه حقّق في محلّـه جريانـه في مؤدّياتها، فكما يجري فيها لابدّ وأن يجري في الحكم المستفاد من فتوى الفقيـه.
(الصفحة 480)
قلت: هذه مغالطـة نشأت من خلط الشكّ في بقاء الحكم، والشكّ في بقاء حجّيـة الحجّـة عليـه، فإنّ الأوّل مجرى الاستصحاب دون الثاني، فإذا قامت الأمارة أيّـة أمارة كانت على حكم، ثمّ شكّ في بقائـه لأحد أسباب طروّ الشكّ كالشكّ في النسخ يجري الأصل، لما ذكرنا في الاستصحاب من شمول أدلّتـه مؤدّيات الأمارات أيضاً، وأمّا إذا شكّ في أمارة بعد قيامها على حكم وحجّيتها في بقاء الحجّيـة لها في زمان الشكّ فلا يجري فيها، لعدم الشكّ في بقاء حكم شرعي كما عرفت. فقياس الاستصحاب في نفس الأمارة وحكمها، على الاستصحاب في مؤدّاها، مع الفارق; فإنّ المستصحب في الثاني هو الحكم الواقعي المحرز بالأمارة دون الأوّل.
إن قلت: بناءً على عدم استـتباع قيام الأمارات ـ فتوى الفقيـه كانت أو غيره للحكم يلزم عدم تمكّن المكلّف من الجزم في النيّـة وإتيان كثير من أجزاء العبادات وشرائطها رجاءً وهو باطل، فلابدّ من الالتزام باستـتباعها الحكم لتحصيل الجزم فيها.
قلت أوّلا: لا دليل على لزوم الجزم فيها من إجماع أو غيره، ودعوى الإجماع ممنوعـة في هذه المسألـة العقليّـة.
وثانياً: إنّ الجزم حاصل لما ذكرنا من أنّ احتمال الخلاف في الطرق العقلائيّـة مغفول عنـه غالباً، ألا ترى أنّ جميع المعاملات الواقعـة من ذوي الأيادي تقع على سبيل الجزم، مع أنّ الطريق إلى ملكيّتهم هو اليد التي تكون طريقاً عقلائيّاً، وليس ذلك إلاّ لعدم انقداح احتمال الخلاف في النفوس تفصيلا بحسب الغالب.
وثالثاً: إنّ المقلّدين الآخذين بقول الفقهاء لا يرون فتاويهم إلاّ طريقاً إلى
(الصفحة 481)
الواقع، فالإتيان على مقتضى فتاويهم ليس إلاّ بملاحظـة طريقيتها إلى الواقع وكاشفيتها عن أحكام اللّه الواقعيّـة كعملهم على طبق رأي كلّ خبرة فيما يرجع إليـه، من دون تفاوت في نظرهم، وليس استـتباع فتاويهم للحكم الظاهري في ذهنهم بوجـه حتّى يكون الجزم باعتباره. فالحكم الظاهري على فرض وجوده ليس محصّلا للجزم; ضرورة كون هذا الاستـتباع مغفولا عنـه لدى العقلاء العاملين على قول الفقهاء بما أنّهم عالمون بالأحكام وفتاويهم طريق إلى الواقع.
فتحصّل من جميع ما ذكرنا: أنّ الاستصحاب غير جار، لفقدان المستصحب، أي الحكم أو الموضوع الذي لـه حكم.
وغايـة ما يمكن أن يقال في التفصّي عن هذا الإشكال:
أنّ احتياج الفقيـه للفتوى بجواز البقاء على تقليد الميّت إلى الاستصحاب إنّما يكون في مورد اختلاف رأيـه لرأي الميّت، وأمّا مع توافقهما فيجوز لـه الإفتاء بالأخـذ برأي الميّت، لقيام الدليل عنده عليـه، وعدم الموضوعيّـة للفتوى والأخذ برأي الحي، فلو فرض موافقـة رأي فقيـه حي لجميع ما في رسالـة فقيـه ميّت يجوز لـه الإرجاع إلى رسالتـه من غير احتياج إلى الاستصحاب، بل لقيام الأمارة على صحّتـه، فما يحتاج فـي الحكم بجـواز البقاء إلى الاستصحـاب هـو موارد اختلافهما.
فحينئذ نقول: لو أدرك مكلّف في زمان بلوغـه مجتهدين حيّين متساويـين في العلم مختلفين في الفتوى، يكون مخيّراً في الأخذ بأيّهما شاء، وهذا حكم مسلّم بين الفقهاء وأرسلوه إرسال المسلّمات من غير احتمال إشكال فيـه، مع أنّـه خلاف القاعدة، فإنّها تقتضي تساقطهما، فالحكم بالتخيـير بنحو التسلّم في هذا المورد المخالف للقاعدة لا يكون إلاّ بدليل شرعي وصل إليهم، أو للسيرة