(الصفحة 481)
الواقع، فالإتيان على مقتضى فتاويهم ليس إلاّ بملاحظـة طريقيتها إلى الواقع وكاشفيتها عن أحكام اللّه الواقعيّـة كعملهم على طبق رأي كلّ خبرة فيما يرجع إليـه، من دون تفاوت في نظرهم، وليس استـتباع فتاويهم للحكم الظاهري في ذهنهم بوجـه حتّى يكون الجزم باعتباره. فالحكم الظاهري على فرض وجوده ليس محصّلا للجزم; ضرورة كون هذا الاستـتباع مغفولا عنـه لدى العقلاء العاملين على قول الفقهاء بما أنّهم عالمون بالأحكام وفتاويهم طريق إلى الواقع.
فتحصّل من جميع ما ذكرنا: أنّ الاستصحاب غير جار، لفقدان المستصحب، أي الحكم أو الموضوع الذي لـه حكم.
وغايـة ما يمكن أن يقال في التفصّي عن هذا الإشكال:
أنّ احتياج الفقيـه للفتوى بجواز البقاء على تقليد الميّت إلى الاستصحاب إنّما يكون في مورد اختلاف رأيـه لرأي الميّت، وأمّا مع توافقهما فيجوز لـه الإفتاء بالأخـذ برأي الميّت، لقيام الدليل عنده عليـه، وعدم الموضوعيّـة للفتوى والأخذ برأي الحي، فلو فرض موافقـة رأي فقيـه حي لجميع ما في رسالـة فقيـه ميّت يجوز لـه الإرجاع إلى رسالتـه من غير احتياج إلى الاستصحاب، بل لقيام الأمارة على صحّتـه، فما يحتاج فـي الحكم بجـواز البقاء إلى الاستصحـاب هـو موارد اختلافهما.
فحينئذ نقول: لو أدرك مكلّف في زمان بلوغـه مجتهدين حيّين متساويـين في العلم مختلفين في الفتوى، يكون مخيّراً في الأخذ بأيّهما شاء، وهذا حكم مسلّم بين الفقهاء وأرسلوه إرسال المسلّمات من غير احتمال إشكال فيـه، مع أنّـه خلاف القاعدة، فإنّها تقتضي تساقطهما، فالحكم بالتخيـير بنحو التسلّم في هذا المورد المخالف للقاعدة لا يكون إلاّ بدليل شرعي وصل إليهم، أو للسيرة
(الصفحة 482)
المستمرّة إلى زمن الأئمّـة (عليهم السلام) كما هي ليست ببعيدة، فإذا مات أحد المجتهدين يستصحب هذا الحكم التخيـيري، وهذا الاستصحاب جار في الابتدائي والاستمراري.
نعم جريانـه في الابتدائي الذي لم يدركـه المكلّف حيّاً محلّ إشكال، لعدم دليل يثبت الحكم للعنوان حتّى يستصحب، فما ذكرنا في التفصّي عن الإشكال الأوّل في الباب من استصحاب الحكم الثابت للعنوان إنّما هو على فرض ثبوت الحكم لـه، وهو فرض محض.
فتحصّل ممّا ذكرنا تفصيل آخر: وهو التفصيل بين الابتدائي الذي لم يدرك المكلّف مجتهده حال بلوغـه وبين الابتدائي المدرك كذلك والاستمراري.
هذا مقتضى الاستصحاب، فلو قام الإجماع على عدم جواز الابتدائي مطلقاً تصير النتيجـة التفصيل بين الابتدائي والاستمراري، هذا كلّـه حال الاستصحاب.
حال بناء القعلاء في تقليد الميّت
وأمّا بناء العقلاء فمحصّل الكلام فيـه: أنّـه لا إشكال في عدم التفاوت في ارتكاز العقلاء وحكم العقل بين فتوى الحي والميّت، ضرورة طريقيّـة كلّ منهما إلى الواقع من غير فرق بينهما، لكن مجرّد ارتكازهم وحكمهم العقلي بعدم الفرق بينهما لا يكفي في جواز العمل، بل لابدّ من إثبات بنائهم على العمل على طبق فتوى الميّت كالحي، وتعارفه لديهم حتّى يكون عدم ردع الشارع كاشفاً عن إمضائـه، وإلاّ فلو فرض عدم جريان العمل على طبق فتوى الميّت وإن لم يتفاوت في ارتكازهم مع الحي لا يكون للردع مورد حتّى يكشف عدمه عن إمضاءالشارع.
(الصفحة 483)
والحاصل: أنّ جواز الاتّكال على الأمارات العقلائيّـة موقوف على إمضاء الشارع لفظاً أو كشفـه عن عدم الردع، وليس ما يدلّ لفظاً عليـه، والكشف عن عدم الردع موقوف على جري العقلاء عملا على طبق ارتكازهم، ومع عدمـه لا محلّ لردع الشارع ولا يكون سكوتـه كاشفاً عن رضاه.
فحينئذ نقول: لا إشكال في بناء العقلاء على العمل برأي الحي، ويمكن دعوى بنائهم على العمل بما أخذوا من الحي في زمان حياتـه ثمّ مات، ضرورة أنّ الجاهل بعد تعلّم ما يحتاج إليـه من الحي، يرى نفسـه عالماً، فلا داعي لـه من الرجوع إلى الآخر، بل يمكن إثبات ذلك من الروايات كروايـة علي بن المسيّب المتقدّمـة(1).
فإنّ إرجاعـه إلى زكريّا بن آدم ـ من غير ذكر حال حياتـه وأنّ ما يأخذه منـه في حال الحياة لا يجوز العمل بـه بعد موتـه، مع أنّ في ارتكازه وارتكاز كلّ عاقل عدم الفرق بينهما ـ دلالـة على جواز العمل بما تعلّم منـه مطلقاً، فإنّ كون شقّتـه بعيدة بحيث إنّـه بعد رجوعـه إلى شقّتـه كان يصير منقطعاً عن الإمام (عليه السلام)في مثل تلك الأزمنـة، كان يوجب عليـه بيان الاشتراط لو كانت الحياة شرطاً. واحتمال أنّ رجوع علي بن المسيّب إليـه كان في نقل الروايـة، يدفعـه ظهور الروايـة، ومثلها مكاتبـة أحمد بن حاتم وأخيـه(2).
وبالجملـة: إرجاع الأئمّـة (عليهم السلام) في الروايات الكثيرة، شيعتهم إلى العلماء عموماً وخصوصاً ـ مع خلوّها عن اشتراط الحياة ـ كاشف عن ارتضائهم بذلك.
- 1 ـ تقدّمت في الصفحة 462.
- 2 ـ تقدّمت في الصفحـة 461.
(الصفحة 484)
نعم لا يكشف عن الأخذ الابتدائي بفتوى الميّت، فإنّ الدواعي منصرفـة عن الرجوع إلى الميّت مع وجود الحي، ولم يكن في تلك الأزمنـة تدوين الكتب الفتوائيـة متعارفاً، حتّى يقال: إنّهم كانوا يراجعون الكتب، فإنّ الكتب الموجودة في تلك الأزمنـة كانت منحصرة بكتب الأحاديث، ثمّ بعد أزمنـة متطاولـة صار بنائهم على تدوين كتب بنحو متون الأخبار ككتب الصدوقين ومن في طبقتهما أو قريب العصر بهما، ثمّ بعد مرور الأزمنـة جرت عادتهم على تدوين الكتب التفريعيّـة والاستدلاليّـة، فلم يكن الأخذ من الأموات ابتداءً ممكناً في الصدر الأوّل ولا متعارفاً أصلا.
نعم من أخذ فتوى حي في زمان حياتـه، فقد كان يعمل بـه على الظاهر; ضرورة عدم الفرق في ارتكازه بين الحي والميّت، ولم يرد ردع عن ارتكازهم وبنائهم العملي، بل إطلاق الأدلّـة يقتضي الجواز أيضاً.
فتحصّل ممّا ذكرنا: أنّـه لو كان مبنى جواز البقاء على تقليد الميّت هو بناء العقلاء، فلابدّ من التفصيل بين ما إذا أخذ فتوى الميّت في زمان حياتـه وغيره، والإنصاف: أنّ جواز البقاء على فتوى الميّت بعد الأخذ منـه في الجملـة هو الأقوى، وأمّا الأخذ الابتدائي ففيـه إشكال، بل الأقوى عدم جوازه.
وأمّا التمسّك بالأدلّـة اللفظيـة كالكتاب والسنّـة فقد عرفت في المبحث السالف عدم دلالتهما على تأسيس حكم شرعي في هذا الباب فراجع.
(الصفحة 485)
فصل
في تبدّل الاجتهاد
إذا اضمحلّ الاجتهاد السابق وتبدّل رأي المجتهد فلا يخلو إمّـا أن يتبدّل مـن القطع إلى القطع أو إلـى الظـنّ المعتبر، أو مـن الظـنّ المعتبر إلى القطع أو إلى الظنّ المعتبر.
حال الفتوى المستندة إلى القطع
فإن تبدّل مـن القطع إلى غيره فلا مجـال للقول بالإجـزاء; ضرورة أنّ الواقع لا يتغيّر عمّا هو عليـه بحسب العلم والجهل، فإذا قطع بعدم كون السورة جزءً للصلاة، ثمّ قطع بجزئيتها أو قامت الأمـارة عليها، أو تبدّل قطعـه، يتبيّن لـه في الحال الثاني وجداناً أو تعبّداً عدم كون المأتي بـه مصـداقاً للمأمـور بـه، ومعـه لا وجـه للإجزاء. ولا يتعلّق بالقطـع جعل حتّى يتكلّم في دلالـة دليلـه على إجزائـه عن الواقع أو بدليّتـه عنـه، وإنّما هو عذر في صورة ترك المأمور بـه، فإذا ارتفـع العـذر يجب عليـه الإتيان بالمأمـور بـه في الوقت وخـارجـه إن كان لـه القضاء.