(الصفحة 49)
التخيـيريّـة الابتدائيـة في عالم التشريع فهل الأصل العملي الجاري فيـه هي البراءة أو الاشتغال؟ التحقيق أن يقال: إنّ ذلك يبتني على كيفيـة إنشاء الخطاب التخيـيري وتصويره:
فتارة يقال: بأنّ الخطاب التخيـيري عبارة عن تقيـيد إطلاق الخطاب المتعلّق بكلّ من الفردين أو الأفراد بما إذا لم يأت المكلّف بعدلـه، فيكون وجوب العتق في الخصال مقيّداً بعدم الإطعام والصيام، وكذا وجوب الإطعام مقيّد بعدم الخصلتين الاُخريـين، وحينئذ فكلّ واجب تخيـيري يكون واجباً مشروطاً بعدم الإتيان بعدلـه.
واُخرى يقال: برجوع جميع الواجبات التخيـيريّـة إلى الواجب التعيـيني، نظراً إلى أنّ الغرض يكون مترتّباً على الجامع، فهو الواجب تعييناً والتخيـير بين أفراده تخيـير عقلي، وهذا الوجـه هو الذي اختاره المحقّق الخراساني(1) وتبعـه بعض من تلاميذه(2)، كما أنّ الوجـه الأوّل هو الذي قوّاه المحقّق النائيني على ما في التقريرات(3).
وثالثـة يقال: بأنّ الواجب التخيـيري سنخ آخر من الخطاب في مقابل الخطاب التعيـيني، وهذا هو الذي اخترناه وحقّقناه(4).
ورابعـة يقال: بأنّ مرجع كون الشيء واجباً تعيـينيّاً إنّما هو إلى كونـه
- 1 ـ كفايـة الاُصول: 174.
- 2 ـ درر الفوائد، المحقّق الحائري: 481.
- 3 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 417.
- 4 ـ تقدّم في الجزء الأوّل: 155.
(الصفحة 50)
مطلوباً بطلب تامّ قائم بـه بشراشر وجوده الموجب بمقتضى النهي عن النقيض للمنع عن جميع أنحاء عدمـه حتّى العدم في حال وجود غيره، في قبال الواجب التخيـيري الذي مرجعـه إلى كونـه متعلّقاً لطلب ناقص على نحو لا يقتضي إلاّ المنع عن بعض أنحاء عدمـه، وهو العدم في حال عدم العدل، وهذا الوجـه هو الذي اختاره المحقّق العراقي على ما في التقريرات(1). ولكن لا يخفى أنّـه لا يكون تصويراً للواجب التخيـيري بحيث يندفع بـه ما أورد عليـه، بل إنّما هو تقرير لـه وبيان للمراد منـه، فتدبّر.
إذا عرفت ذلك فاعلم: أنّـه لو قيل في تصوير الواجب التخيـيري بالوجـه الأوّل الذي مرجعـه إلى اشتراطـه بعدم الإتيان بالعدل، فالأصل الجاري في المورد المفروض هي البراءة، لأنّ مرجع الشكّ في التعيـينيـة والتخيـيريّـة إلى الشكّ في الإطلاق والتقيـيد، وهو مرجـع البراءة فيما لو لـم يحصل القيد، فإذا أتى ببعض الأطراف يشكّ في أصل التكليف، لعدم تحقّق الشرط على تقدير الاشتـراط، لأنّ الشـرط عبـارة عـن عـدم الإتيـان بالعـدل، والمفـروض أنّـه أتـى بـه، هذا.
ولو قيل في تصوير الواجب التخيـيري بالوجـه الثاني الذي مرجعـه إلى كون التخيـير تخيـيراً عقليّاً كشف عنـه الشارع، والواجب الشرعي هو الجامع والقدر المشترك بين الأطراف ففي جريان البراءة أو الاشتغال وجهان، ذكرهما في كتاب الدرر(2).
- 1 ـ نهايـة الأفكار 3: 288.
- 2 ـ درر الفوائد، المحقّق الحائري: 481.
(الصفحة 51)
وجـه جريان قاعدة الاشتغال أنّ تعلّق التكليف بالخاصّ معلوم يجب الخروج عن عهدتـه ويشكّ في أنّـه هل يسقط بإتيان شيء آخر أو لا، فمقتضى الاشتغال بالحكم الثابت فراغـه عن عهدة التكليف يقيناً.
ووجـه جريان البراءة أنّ الشكّ في المقام يرجع إلى الشكّ في الإطلاق والتقيـيد، لدوران الأمر بين وجوب قدر الجامع وبين وجوب الفرد الخاصّ بخصوصيّتـه والمرجع فيـه هي البراءة، هذا.
والأقوى هو الوجـه الأوّل، لثبوت الفرق بين المقام وبين الشكّ في الإطلاق والتقيـيد، لأنّ الجامع بما هو جامع لا يكون معلوم الوجوب والقيد مشكوكاً فيـه، لأنّـه لو كان الوجوب تعيـينيّاً لا يكون متعلّقـه الجامع أصلا، بخلاف المطلق والمقيّد، فإنّ المطلق معلوم الوجوب والقيد مشكوك فيـه.
نعم هنا شيء، وهو أنّـه لو كان الوجوب تخيـيريّاً يكون الأمر المتعلّق ببعض الأطراف إرشاداً إلى وجوب الجامع والقدر المشترك، لعدم إمكان تعلّق الوجوب بجميعها بناءً على هذا القول، ولو كان الوجوب تعيـينيّاً يكون الأمر المتعلّق بالبعض أمراً مولويّاً، فمرجع الشكّ في التعيـينيّـة والتخيـيريّـة إلى الشكّ في كون الأمر المعلوم هل يكون إرشادياً لا يترتّب على مخالفتـه عقاب، أو مولويّاً يترتّب على مخالفتـه العقاب فلا يكون الحجّـة على خصوصيـة الفرد تامّـة بحيث يستحقّ العبد العقاب على مخالفتها، فتجري البراءة، فتدبّر.
هذا، ولو قيل في كيفيـة تصوير الواجب التخيـيري بالوجـه الرابع الذي اختاره المحقّق العراقي على ما في التقريرات فهل الأصل الجاري هي البراءة أو الاشتغال؟
قال فيها ـ بعد تفسير الواجب التخيـيري بذلك والإشكال بالوجـه الأوّل
(الصفحة 52)
بأنّ لازمـه هو عدم تحقّق الامتثال بالواجب التخيـيري عند الإتيان بهما معاً، وهو كما ترى لا يمكن الالتزام بـه ـ ما لفظـه: وعلى ذلك ـ يعني على مختاره في تصوير الواجب التخيـيري ـ نقول: إنّ مرجع الشكّ في كون الشيء واجباً تعيـينيّاً أو تخيـيريّاً حينئذ إلى العلم الإجمالي إمّا بوجوب الإتيان بخصوص الذي علم بوجوبـه في الجملـة وحرمـة تركـه مطلقاً حتّى في ظرف الإتيان بما احتمل كونـه عدلا لـه، وإمّا بحرمـة ترك الآخر المحتمل كونـه عدلا لـه في ظرف عدم الإتيان بذلك، ولازم هذا العلم الإجمالي إنّما هو الاحتياط بتحصيل الفراغ اليقيني بإتيان خصوص ما علم وجوبـه في الجملـة ووجوب الإتيان بما احتمل كونـه عدلا لـه عند عدم التمكّن من الإتيان بما علم وجوبـه لاضطرار ونحوه(1)، انتهى.
ويرد على مجموع ما ذكره في هذا المقام اُمور:
الأوّل:
أنّ ما أفاده في تصوير الواجب التخيـيري هو بعينـه ما اختاره المحقّق النائيني(2) من الوجـه الأوّل الذي عرفت بلا فرق بينهما في الحقيقـة أصلا، فإنّ كون الواجب التخيـيري عبارة عن الشيء الذي كان متعلّقاً لطلب ناقص على نحو لا يقتضي إلاّ المنع عن بعض أنحاء عدمـه وهو العدم في حال عدم العدل عبارة اُخرى عن اشتراط مطلوبيّتـه بحال عدم وجود العدل، فإنّ تضيـيق دائرة النهي وتخصيصـه بخصوص العدم في حال عدم العدل يوجب التضيـيق في ناحيـة الأمر الذي تولّد منـه النهي وتخصيصاً لـه بحال عدم وجود العدل، ضرورة عدم إمكان التوسعـة في الأمر مع التضيـيق في ناحيـة النهي
- 1 ـ نهايـة الأفكار 3: 288 ـ 289.
- 2 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 417.
(الصفحة 53)
المتولّد منـه، فرجع الكلام إلى اشتراط الطلب إلى حال عدم وجود العدل وهو بعينـه ما ذكره المحقّق النائيني، فالإشكال الذي أورده عليـه وهو عدم تحقّق الامتثال عند الإتيان بهما معاً وارد على نفسـه أيضاً، فتدبّر.
الثاني:
أنّ ما ذكره من إيجاب الطلب المتعلّق بالشيء للنهي عن النقيض ممّا لا يتمّ، فإنّ مقتضى ظاهره هو استلزام الأمر بالشيء للنهي عن نقيضـه، بحيث لو خالف الأمر ولم يأت بمتعلّقـه فقد خالف الأمر والنهي معاً، فاستحقّ على ذلك عقوبتين. ومن الواضح عدم إمكان الالتزام بـه، وقد عرفت ذلك في مبحثـه في باب مباحث الألفاظ، فراجع.
الثالث:
إنّ التمسّك للاحتياط بالعلم الإجمالي المذكور في كلامـه مصادرة واضحـة، فإنّ هذا العلم الإجمالي عبارة اُخرى عن العلم الإجمالي بكون الشيء واجباً تعيـينيّاً أو تخيـيراً فالاستدلال لوجوب الاحتياط في صورة العلم الإجمالي بكون الشيء إمّا واجباً تعيـيناً وإمّا واجباً تخيـيراً بنفس هذا العلم الإجمالي ممّا لا سبيل إليـه، كما هو واضح.
الرابع:
أنّ ما ذكره في تقرير العلم الإجمالي محلّ نظر; فإنّ مرجع العلم الإجمالي بكون الشيء إمّا واجباً تعيـيناً وإمّا واجباً تخيـيراً إلى العلم الإجمالي إمّا بوجوب الإتيان بخصوص الطرف الذي علم بوجوبـه في الجملـة وحرمـة تركـه مطلقاً حتّى في ظرف الإتيان بما احتمل كونـه عدلا لـه، وإمّا بوجوبـه وحرمـة تركـه في حال عدم العدل ووجوب الشيء الآخر المحتمل كونـه عدلا لـه، وحرمـة تركـه في ظرف عدم الإتيان بما علم وجوبـه في الجملـة، وقد أسقط احتمال وجوبـه وحرمـة تركـه في حال عدم الإتيان بالعدل، مع أنّـه هو العمدة; لأنّـه بعد الإتيان بالشيء الذي يحتمل كونـه عدلا لا يبقى مجال للعلم