(الصفحة 490)
الاستصحاب من الأمارات، بل ولا يكون جعلـه للتحفّظ على الواقع كإيجاب الاحتياط في الشبهـة البدويّـة في الأعراض والدماء، فإنّـه أيضاً خلاف مفادها وإن احتملناه بل رجّحناه سابقاً، بل الظاهر منها أنّـه لا ينبغي للشاكّ الذي كان على يقين رفع اليد عن آثاره، فيجب عليـه ترتيب آثاره، فيرجع إلى وجوب معاملـة بقاء اليقين الطريقي معـه في زمان الشكّ، وهو مساوق عرفاً لتجويز إتيان المأمور بـه المشروط بالطهارة الواقعيّـة مثلا مع الطهارة المستصحبـة، ولازم ذلك صيرورة المأتي بـه معها مصداقاً للمأمور بـه، فيسقط الأمر المتعلّق بـه.
وبالجملـة: يكون حالـه في هذا الأثر كحال أصالتي الطهارة والحلّ; من حيث كونـه أصلا عمليّاً ووظيفةً في زمان الشكّ، لا أمارة على الواقع، ولا أصلا للتحفّظ عليـه حتّى يأتي فيـه كشف الخلاف، ويدلّ على ذلك صحيحـة زرارة الثانيـة(1) حيث حكم فيها بغسل الثوب وعدم إعادة الصلاة، معلّلا بأنّـه كان على يقين في طهارتـه فشكّ، وليس ينبغي لـه أن ينقض اليقين بالشكّ.
وكذا الحال فيما إذا كان المستند حديث الرفع
،
فإنّ قولـه:
«رفع ما لايعلمون»(2) ـ بناءً على شمولـه للشبهات الحكميّـة والموضوعيّـة ـ لسانـه رفع الحكم والموضوع باعتبار الحكم، لكن لابدّ من رفع اليد عن هذا الظاهر حتّى بالنسبـة إلى الشبهات الموضوعيـة، لأنّ لازمـه طهارة ما شكّ في نجاستـه
- 1 ـ تهذيب الأحكام 1: 421 / 1335، وسائل الشيعـة 3: 466، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب37، الحديث1.
- 2 ـ الخصال: 417 / 9، التوحيد: 353 / 24، وسائل الشيعـة 15: 369، كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، الباب56، الحديث1.
(الصفحة 491)
موضوعاً واقعاً، ولا يمكن الالتزام بطهارة ملاقيـه في زمان الشكّ بعد كشف الخلاف، فلابدّ من الحمل على البناء العملي على الرفع وترتيب آثار الرفع الواقعي، فإذا شكّ في جزئيـة شيء في الصلاة أو شرطيّتـه لها أو مانعيّتـه فحديث الرفع يدلّ على رفع الجزئيّـة والشرطيّـة والمانعيّـة، فحيث لا يمكن الالتزام بالرفع الحقيقي لا مانع من الالتزام بالرفع الظاهري، نظير الوضع الظاهري في أصالتي الطهارة والحلّيـة، فيرجع إلى معاملـة الرفع في الظاهر وجواز إتيان المأمور بـه كذلك، وصيرورة المأتي بـه مصداقاً للمأمور بـه بواسطـة حكومـة دليل الرفع على أدلّـة الأحكام.
فتحصّل من جميع ما ذكرنا: أنّ التحقيق هو التفصيل بين الأمارات والاُصول كما عليـه المحقّق الخراساني (رحمه الله)(1).
هذا كلّـه بحسب مقام الإثبات وظهور الأدلّـة، وأمّا بحسب مقام الثبوت فلابدّ من توجيهـه بوجـه لا يرجع إلى التصويب الباطل.
ثمّ إنّـه ظهر ممّا ذكرنا أنّ القائل بالإجزاء لا يلتزم بالتصرّف في أحكام المحرّمات والنجاسات، ولا يقول بحكومـة أدلّـة الاُصول على أدلّـة الأحكام الواقعيّـة التي هي في طولها، وليس محطّ البحث في باب الإجزاء بأدلّـة اُصول الطهارة والحلّيـة والاستصحاب هو التضيـيق أو التوسعـة في أدلّـة النجاسات والمحرّمات حتّى يقال: إنّ الأمارات والاُصول وقعت في رتبـة إحراز الأحكام الواقعيّـة، والحكومـة فيها غير الحكومـة بين الأدلّـة الواقعيّـة بعضها مع بعض، وإنّ لازم ذلك هو الحكم بطهارة ملاقي النجس الواقعي إذا لاقى في زمان الشكّ...
(الصفحة 492)
وغير ذلك ممّا وقع من بعض الأعاظم على ما في تقريرات بحثـه(1)، بل محطّ البحث هو أنّ أدلّـة الاُصول الثلاثـة هل تدلّ بحكومتها على أدلّـة الأحكام على تقحّق مصداق المأمور بـه تعبّداً حتّى يقال بالإجزاء أم لا؟
هذا مع بقاء النجاسات والمحرّمات على ما هي عليها من غير تصرّف في أدلّتها، فالشكّ في الطهاره والحلّيـة بحسب الشبهـة الحكميّـة إنّما هو في طول جعل النجاسات والمحرّمات، لا في طول جعل الصلاة مشروطةً بطهارة ثوب المصلّي وبكونـه من المأكول، والخلط بين المقامين أوقعـه فيما أوقعـه، وفي كلامـه محالّ أنظار تركناها مخافـة التطويل.
ثمّ إنّ هذا كلّـه حال المجتهد بالنسبـة إلى تكاليف نفسـه.
تكليف المقلّد مع تبدّل رأي مجتهده
وأمّا تكاليف مقلّديـه فهل هو كالمجتهد في التفصيل بين كون رأي المقلّد مستنداً إلى الأمارات، وبين كونـه مستنداً إلى الاُصول، بأن يقال: إنّ المجتهد يعيّن وظائف العباد مطلقاً واقعاً وظاهراً، فكما أنّ في وظائفـه الظاهريّـة تحكم بالإجزاء بواسطـة أدلّـة الاُصول وحكومتها على الأدلّـة، فكذا في تكاليف مقلّديـه طابق النعل بالنعل أو لا؟ بأن يقال: إنّ المقلّد مستنده في الأحكام مطلقاً هو رأي المجتهد، وهو أمارة إلى تكاليفـه بحسب ارتكازه العقلائي، والشرع أيضاً أمضى هذا الارتكاز والبناء العملي العقلائي، وليس مستند المقلّدين في العمل هو
- 1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 249 ـ 251.
(الصفحة 493)
أصالـة الطهارة أو الحلّيـة أو الاستصحاب أو حديث الرفع في الشبهات الحكميّـة التي هي مورد بحثنا هاهنا; لأنّ العامّي لا يكون مورداً لجريان الاُصول الحكميّـة، فإنّ موضوعها الشكّ بعد الفحص واليأس من الأدلّـة الاجتهاديّـة، والعامّي لا يكون كذلك، فلا يجري في حقّـه الاُصول حتّى تحرز مصداق المأمور بـه، ومجرّد كون مستند المجتهد هو الاُصول ومقتضاها الإجزاء، لا يوجب الإجزاء بالنسبـة إلى من لم يكن مستنده إيّاها; فإنّ المقلّد ليس مستنده في العمل هي الاُصول الحكميّـة، بل مستنده الأمارة ـ وهي رأي المجتهد ـ على حكم اللّه تعالى، فإذا تبدّل رأيـه فلا دليل على الإجزاء.
أمّا دليل وجوب اتّباع المجتهد، فلأنّـه ليس إلاّ بناء العقلاء الممضى، كما يظهر للناظر في الأدلّـة، وإنّما يعمل العقلاء على رأيـه لإلغاء احتمال الخلاف، وإمضاء الشارع لذلك لا يوجب الإجزاء كما تقدّم(1).
وأمّا أدلّـة الاُصول فهي ليست مستنده ولا هو مورد جريانها، لعدم كونـه شاكّاً بعد الفحص واليأس عن الأدلّـة، فلا وجـه للإجزاء، وهذا هو الأقوى.
فإن قلت:
إذا لم يكن المقلّد موضوعاً للأصل ولا يجري في حقّـه، فلم يجوز للمجتهد أن يفتي مستنداً إلى الأصـل بالنسبـة إلى مقلّديـه، مـع أنّ أدلّـة الاُصول لا تجري إلاّ للشاكّ بعد الفحص واليأس وهو المجتهد فقط لا المقلّد؟! ولو قيل: إنّ المجتهد نائب عـن مقلّديـه، فمـع أنّـه لا محصّل لـه، لازمـه الإجزاء.
- 1 ـ تقدّم في الصفحـة 486 ـ 487.
(الصفحة 494)
قلت:
قد ذكرنا سابقاً(1) أنّ المجتهد إذا كان عالماً بثبوت الحكم الكلّي المشترك بين العباد ثمّ شكّ في نسخـه مثلا يصير شاكّاً في ثبوت هذا الحكم بينهم، فيجوز لـه الإفتاء بـه كما لـه العمل بـه، فكما أنّ الأمارة إذا قامت على حكم مشترك كلّي يجوز لـه الإفتاء بمقتضاها، كذلك إذا كان مقتضى الاستصحاب فلـه العمل بـه والفتوى بمقتضاه، فإذا أفتى يعمل المقلّدين على طبق فتواه، لبناء العقلاء على رجوع الجاهل بالعالم.
فتحصّل من ذلك: أنّ المجتهد لـه الإفتاء بمقتضى الاُصول الحكميّـة، ومقتضى القاعدة هو الإجزاء بالنسبـة إليـه دون مقلّديـه، لاستناده إلى الاُصول المقتضيـة للإجزاء واستنادهم إلى رأيـه الغير المقتضي لذلك.
- 1 ـ تقدّم في الصفحـة 479.