(الصفحة 497)
الوجود حتّى يتحقّق ثانياً موضوع التخيـير، وكذا لا يعقل العدول بحقيقتـه بعد العمل، فلابدّ وأن يكون البحث ممحّضاً في جواز العمل بقول الثاني بعد العمل بقول الأوّل.
قد يقال بعدم الجواز; لأنّ الإتيان بأحد شقّي الواجب التخيـيري موجب لسقوط التكليف جزماً، فالإتيان بعده بداعويّـة الأمر الأوّل، أو باحتمال داعويّتـه، أو بداعويّـة المحتمل، غير معقول، ومع العلم بالسقوط لا معنى لإجراء الاستصحاب، لا استصحاب الواجب التخيـيري، وهو واضح، ولا جواز العمل على طبق الثاني، لفرض عدم احتمال أمر آخر غير التخيـيري الساقط، وكان الظاهر من تقريرات بحث شيخنا ذلك.
وفيـه: إنّ ذلك ناش من الخلط بين التخيـير في المسألـة الفرعيّـة والمسألـة الاُصوليّـة فإنّ ما ذكر وجيـه في الأوّل دون الثاني، لأنّ الأمر التخيـيري في الثاني لا نفسيّـة لـه، بل لتحصيل الواقع بحسب الإمكان بعد عدم الإلزام بالاحتياط، فمع الإتيان بأحد شقّي التخيـير فيـه، يبقى للعمل بالآخر مجال واسع وإن لم يكن المكلّف ملزماً بـه، تخفيفاً عليـه.
نعم لو قلنا بحرمـة الاحتياط أو بالإجزاء في باب الطرق ولو مع عدم المطابقـة، لكان الوجـه ما ذكر، لكنّهما خلاف التحقيق.
وبهـذا يظهر: أنّ استصحاب جـواز الإتيان بمـا لم يأت بـه، لا مانـع منـه لـو شكّ فيـه.
نعم لا يجري الاستصحاب التعليقي; لأنّ التعليق ليس بشرعي.
وأمّا الصورتان الأخيرتان بناءً على كون التقليد الالتزام والعقد القلبي، فقياسهما على الصورة الاُولى مع الفارق، لإمكان إبطال الموضوع وإعدامـه
(الصفحة 498)
بالرجوع عن الالتزام وعقد القلب، فصار حينئذ موضوعاً للأمر بإحداث الأخذ بأحدهما من غير ورود الإشكال المتقدّم ـ من لزوم الجمع بين اللحاظين ـ عليـه، وليس الكلام هاهنا في إطلاق الدليل وإهمالـه، بل في إمكانـه بعد الفراغ عن فرض الإطلاق.
وممّا ذكرنا يظهر أنّ ما أفاده (رحمه الله) من أنّ الالتزام وعقد القلب أمر وجداني ممتدّ، إذا حصل في زمان لا يعقل حدوثـه ثانياً، غير وجيـه; لأنّ الالتزام بعد انعدام الالتزام الأوّل إحداث لا إبقاء، لامتناع إعادة المعدوم.
هذا مع قطع النظر عن حال الأدلّـة إثباتاً، وإلاّ فقد مرّ(1) أنّـه لا دليل لفظي في باب التقليد يمكن الاتّكال عليـه فضلا عن الإطلاق بالنسبـة إلى حال التعارض بين فتويـين، وإنّما قلنا بالتخيـير للشهرة والإجماع المنقولين وهما معتبران في مثل تلك المسألـة المخالفـة للقواعد، والمتيقّن منهما هو التخيـير الابتدائي; أي التخيـير قبل الالتزام.
والتحقيق: عدم جريان استصحاب التخيـير ولا الجواز، لاختلاف التخيـير الابتدائي والاستمراري موضوعاً وجعلا، فلا يجري استصحاب شخص الحكم، وكذا استصحاب الكلّي، لفقدان الأركان في الأوّل، ولكون الجامع أمراً انتزاعيّاً لا حكماً شرعياً ولا موضوعاً ذا أثر شرعي، وترتيب أثر المصداق على استصحاب الجامع مثبت، ولا فرق في ذلك بين استصحاب جامع التخيـيرين أو جامع الجوازين الآتيـين من قبلهما.
- 1 ـ تقدّم في الصفحـة 469.
(الصفحة 499)
فصل
في اختلاف الحي والميّت في مسأ
لة البقاء
إذا قلّد مجتهداً كان يقول بوجوب الرجوع إلى الحي فمات، فإن غفل المقلّد عن الواقعـة ولوازمها ورجع عنـه بتوهّم جواز تقليده في الرجوع فلا كلام إلاّ في صحّـة أعمالـه وعدمها. وإن تذكّر بعدم جواز تقليده في ذلك، فإنّـه أيضاً تقليد للميّت، أو تحيّر ورجع إلى الحي في هذه المسألـة وكان هو قائلا بوجوب البقاء، فمع تقليده من الحي فيها يجب عليـه البقاء في سائر المسائل.
وأمّا في هذه المسألـة الاُصوليـة، فلا يجوز لـه البقاء; لأنّـه قلّد فيها الحي ولا تحيّر لـه فيها حتّى قلّد عن الميّت، ولا يجوز للمفتي الحي الإفتاء بالبقاء فيها; لكون الميّت على خطأ عنده، فلا يشكّ حتّى يجري الاستصحاب.
وكذا لا يجوز لـه إجراء الاستصحاب للمقلّد، لكونـه غير شاكّ فيها، لقيام الأمارة لديـه، وهي فتوى الحي، بل لا يجري بالنسبـة إليـه ولو مع قطع النظر عن فتوى الحي، لأنّ المجتهد في الشبهات الحكميّـة يكون مشخصاً لمجاري الاُصول، وأمّا الأحكام ـ اُصوليّةً أو فرعيّة ـ فلا اختصاص لها بالمجتهد، بل هي مشتركـة بين العالم والجاهل، فحينئذ لو رأى خطأ الميّت وقيام الدليل على
(الصفحة 500)
خلافـه فلا محالـة يرى عدم جريان الاستصحاب، لاختلال أركانـه، وهو أمر مشترك بينـه وبين جميع المكلّفين.
وبما ذكرناه تظهر مسألـة اُخرى
،
وهي أنّـه: لو قلّد مجتهداً في الفروع، فمات، فقلّد مجتهداً يرى وجوب الرجوع فرجع إليـه فمات، فقلّد مجتهداً يرى وجوب البقاء يجب عليـه الرجوع إلى فتوى المجتهد الأوّل، لقيام الأمارة الفعليّـة على بطلان فتوى الثاني بالرجوع، فيرى أنّ رجوعـه عن الميّت الأوّل كان باطلا، فالميزان على الحجّـة الفعليّـة; وهي فتوى الحي.
والقول بجواز البقاء على رأي الثاني برأي الثالث غير صحيح; لأنّ الثالث يرى بطلان رأي الثاني في المسألـة الاُصوليّـة، وعدم صحّـة رجوع المقلّد عن تقليد الأوّل، فقامت عند المقلّد فعلا أمارة على بطلانـه، فلا معنى لبقائـه فيها.
وأمّا شيخنا العلاّمـة أعلى اللّه مقامـه
ـ بعد نقل كلام شيخنا الأعظم (قدس سره)
من كون المقام إشكالا وجواباً نظير ما قيل في شمول أدلّـة حجّيـة خبر الثقـة لخبر السيّد بعدم حجّيتـه، وأجاب عنـه بمثل ما أجاب في ذلك المقام، وبعد بيان الفرق بين المقامين بأنّـه لم يلزم في المقام التخصيص المستهجن واللغز والمعمّا; لعدم عموم صادر عن المعصوم فيـه ـ قال ما ملخّصـه:
المحقّق في المقام فتوى: أنّـه لا يمكن الأخذ بكليهما، لأنّ المجتهد بعدما نزّل نفسـه منزلـة المقلّد في كونـه شاكّاً رأى هنا طائفتين من الأحكام ثابتـتين للمقلّد، إحداهما: فتوى الميّت في الفروع، وثانيتهما: الفتوى في الاُصول الناظرة إلى الفتاوى في الفروع والمسقطـة لها عن الحجّيـة، فيرى أركان الاستصحاب فيهما تامّـة.
ثمّ قال: لا محيص من الأخذ بالفتوى الاُصوليّـة، فإنّـه لو اُريد في
(الصفحة 501)
الفرعيّـة استصحاب الأحكام الواقعيّـة فالشكّ في اللاحق موجود دون اليقين السابق; أمّا الوجداني فواضح، وأمّا التعبّدي فلارتفاعـه بموت المفتي، فصار كالشكّ الساري، وإن اُريد استصحاب الحكم الظاهري الجائي من قبل دليل اتّباع الميّت، فإن اُريد استصحابـه مقيّداً بفتوى الميّت فالاستصحاب في الاُصوليّـة حاكم عليـه، لأنّ الشكّ في الفروعيّـة مسبّب عن الشكّ فيها، وإن اُريد استصحاب ذات الحكم الظاهري وجعل كونـه مقول قول الميّت جهـة تعليليـة فاحتمال ثبوتـه إمّا بسبب سابق، فقد سدّ بابـه الاستصحاب الحاكم، أو بسبب لاحق فهو مقطوع العدم، إذ مفروض الكلام صورة مخالفـة فتوى الميّت للحي.
نعم، يحتمل بقاء الحكم الواقعي، لكن لا يكفي ذلك في الاستصحاب، لأنّـه مع الحكم الظاهري في رتبتين وموضوعين، فلا يكون أحدهما بقاءً للآخر، لكن يجري استصحاب الكلّي بناءً على جريانـه في القسم الثالث.
وإن اُريد استصحاب حجّيـة فتاوى الفرعيّـة فاستصحاب الحجّيـة في الاُصوليّـة حاكم عليـه، لأنّ شكّـه مسبّب عنـه، لأنّ عدم حجّيـة تلك الفتاوى أثر لحجّيـة هذه، وليس الأصل مثبتاً، لأنّ هذا من الآثار الثابتـة لذات الحجّـة الأعمّ من الظاهريّـة والواقعيّـة.
ثمّ رجع عمّا تقدّم واختار عدم جريان الاستصحاب في الاُصوليّـة، فإنّ مقتضى جريانـه الأخذ بخلاف مدلولـه، ومثلـه غير مشمول لأدلّـة الاستصحاب، فإنّ مقتضى الأخذ باستصحاب هذا الفتوى، سقوط فتاويـه عن الحجّيـة، ومقتضى سقوطها الرجوع إلى الحي، وهو يفتي بوجوب البقاء، فالأخذ بالاستصحاب في الاُصوليّـة ـ التي مفادها عدم الأخذ بفتاويـه في الفرعيّات ـ لازمـه الأخذ في الفرعيّات بها.