(الصفحة 56)الوجه الثالث
:
وأمّا لو كان الشكّ في التعيـين والتخيـير على الوجـه الأخير وهو ما إذا علم تعلّق الوجوب بواحد معيّن من الشيئين، ويعلم بأنّ الإتيان بالشيء الآخر مسقط للوجوب المتعلّق بالشيء الأوّل، ولكن يشكّ في أنّ إسقاطـه لـه هل هو لكونـه عدلا لـه فيحصل الغرض من الإتيان بـه أيضاً، أو أنّـه يوجب تفويت موضوعـه، إمّا لكونـه مانعاً عن استيفاء الملاك، أو لكون عدمـه شرطاً في حصول أصل الملاك، وعلى كلا التقديرين يكون عدمـه شرطاً لوجوب الواجب، ولا يمكن أن يكون أحد فردي الواجب المخيّر.
فقد أفاد المحقّق النائيني على ما في التقريرات: أنّـه مع التمكّن من الإتيان بما علم تعلّق التكليف بـه لا يترتّب على الوجهين أثر حتّى يبحث عن الوظيفـة في حال الشكّ، إلاّ من حيث العصيان وعدمـه، فإنّـه عند ترك المكلّف ما علم تعلّق التكليف بـه والاكتفاء بالشيء الآخر مع أنّـه يمكن أن يكون في الواقع ممّا لم يتعلّق بـه التكليف وكان مسقطيّتـه لمكان كونـه مفوّتاً لملاك الآخر ومانعاً عن استيفائـه، يستحقّ العقوبـة، وأمّا مع عدم التمكّن من الإتيان بما علم تعلّق التكليف بـه فيظهر بين الوجهين أثر عملي، فإنّـه لو كان الشيء الآخر من أفراد الواجب التخيـيري يتعيّن الإتيان بـه بعد تعذّر الآخر، وإن لم يكن من أفراد الواجب التخيـيري فلا يجب الإتيان بـه، فتجري البراءة عن التكليف بـه، للشكّ في تعلّقـه بـه، كما هو واضح(1)، انتهى ملخّصاً، هذا.
- 1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 430.
(الصفحة 57)
ولا يخفى: أنّـه بناءً على ما ذكره من رجوع الواجب التخيـيري إلى الواجب المشروط يصير احتمال الوجوب المشروط أيضاً أحد الاحتمالات. ومن الواضح أنّـه لو دار الأمر بين كون الوجوب مطلقاً أو مشروطاً تجري البراءة من الوجوب عند عدم حصول الشرط، فإذا أتى بالشيء الآخر الذي يكون عدم الإتيان بـه شرطاً على تقدير كون الواجب الآخر واجباً تخيـيريّاً يشكّ في أصل ثبوت التكليف بالنسبـة إلى الشيء الأوّل، كما لايخفى، وهو مجرى البراءة. ومجرّد احتمال كون مسقطيتـه للتكليف المتعلّق بالشيء الأوّل من جهـة كونـه مانعاً عن استيفاء ملاكـه أو كون عدمـه شرطاً في حصول أصل الملاك لا يوجب استحقاق العقوبـة بعد عدم ثبوت كون الوجوب مطلقاً غير مشروط، فلا وجـه لاستحقاق العقوبـة أصلا كما في صورة عدم التمكّن من الإتيان بـه، فلا فرق بين الصورتين.
نعم بناءً على المذهب المختار في كيفيّـة الواجب التخيـيري وأنّـه سنخ آخر من الوجوب تجري قاعدة الاشتغال، لأنّ تعلّق التكليف بالشيء الأوّل معلوم وإن كان كيفيتـه وخصوصيتـه مجهولـة، وسقوطـه بالإتيان بالشيء الثاني مجهول، فيجب الفراغ عن عهدة التكليف المعلوم بالإتيان بمتعلّقـه، كما لايخفى.
هذا كلّـه فيما يتعلّق بالقسم الأوّل من الأقسام الثلاثـة المتقدّمـة للواجب التخيـيري.
وأمّا إذا كان الشكّ في التعيـين والتخيـير في القسم الثاني من تلك الأقسام وهو ما كان التخيـير فيـه لأجل التزاحم بأن احتمل كون الملاك في أحدهما أقوى، كما لو فرض كونـه مأموراً بإنقاذ الغريقين اللذين أحدهما هاشمي، واحتمل اهمّيـة إنقاذه لأجل أقوائيـة ملاكـه، فهل الأصل يقتضي البراءة أو الاشتغال؟
(الصفحة 58)
قال المحقّق النائيني على ما في التقريرات: إنّـه بناءً على المسلك المختار في باب التزاحم ـ وهو كون التخيـير لأجل تقيـيد الإطلاق ـ يرجع الشكّ إلى الشكّ في تقيـيد إطلاق محتمل الأهمّيـة في مرحلـة البقاء والامتثال مع العلم بتقيـيد الإطلاق في الطرف الآخر، ولا إشكال في أنّ الأصل عند الشكّ في تقيـيد الإطلاق في مرحلـة البقاء يقتضي الاشتغال لا البراءة للشكّ في سقوط التكليف عن محتمل الأهمّيـة بعد العلم بتعلّق التكليف بـه(1)، انتهى.
وفيـه ـ مضافاً إلى ما عرفت من عدم معقوليّـة التقيـيد في مرحلـة البقاء، فإنّ التكليف إمّا أن يكون من أوّل حدوثـه مشروطاً أو مطلقاً، ولا يعقل استحالـة التكليف المطلق مشروطاً وكذا العكس ـ أنّـه لا معنى للشكّ في السقوط هنا، فإنّ الشكّ فيـه إمّا أن يكون قبل إنقاذ واحد منهما، وإمّا أن يكون بعد إنقاذ غير الهاشمي، ففي الأوّل نعلم ببقاء التكليف قطعاً، كما أنّـه في الثاني نعلم بارتفاعـه يقيناً، إذ لا معنى حينئذ للشكّ في سقوط التكليف عن محتمل الأهمّيـة بعد فرض كونهما متزاحمين ولا يقدر المكلّف على الإتيان بهما معاً، كما لايخفى.
فالإنصاف أنّـه بناءً على هذا المسلك لابدّ من الالتزام بجريان البراءة، للشكّ في كون محتمل الأهمّيـة هل يكون واجباً مطلقاً أو مشروطاً، وقد مرّ غير مرّة أنّـه إذا دار الأمر بينهما فالأصل الجاري هي البراءة، هذا.
وأمّا بناءً على المسلك المختار في باب التزاحم من كون التكليف المتعلّق بكلّ واحد من المتزاحمين باقياً على إطلاقـه وفعليّـتـه، لأنّ التكليف والحكم المتوجّـه إليهما ليس ناظراً إلى حال الامتثال، فضلا عن حال الاجتماع
- 1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 433.
(الصفحة 59)
والمعارضـة، فضلا عن علاجـه، غايـة الأمر أنّـه حيث لا يكون المكلّف قادراً على امتثالهما يكون معذوراً بحكم العقل لعدم القدرة من دون أن يوجب ذلك تقيـيد الحكم بصورة القدرة، فإنّ الحكم مطلق والعجز عذر عقلي، وحينئذ فإن كان المتزاحمان متساويـين يحكم العقل بالتخيـير، وإن كان الملاك في أحدهما أقوى من الآخر يحكم بتعيّنـه، وإن احتمل الأقوائيـة ـ كما هو المفروض في المقام ـ فالظاهر أنّ مجرّد الاحتمال لا يعيّن محتمل الأقوائيـة بحيث لو أتى بالمهمّ يكون مستحقّاً للعقوبـة لأجل ترك محتمل الأهمّيـة، مع أنّـه لم يقم حجّـة من المولى على تعيّنـه، فتدبّر جيّداً.
هذا كلّـه لو كان الشكّ في التعيـين والتخيـير في القسم الثاني من أقسام الواجب التخيـيري.
وأمّا لو كان الشكّ فيهما في القسم الثالث من أقسامـه، وهو ما لو كان التخيـير ناش عن تعارض الحجّتين، فبناء على الطريقيـة ـ كما هو الحقّ ـ يكون مقتضى القاعدة هو الاشتغال والأخذ بخصوص ما لـه مزيّـة محتملـة، لأنّـه بعد التعارض والتساقط يجب الرجوع إلى الأدلّـة الشرعيّـة في الأخذ بالمرجّحات، ومع عدمها فالتخيـير، وحينئذ فالشكّ في التعيـين والتخيـير الذي يكون ناشئاً من احتمال المزيّـة في أحدهما المعيّن يوجب الشكّ في حجّيـة الحجّـة التي ليس فيها احتمال المزيّـة، لأنّ حجّيتها إنّما هو على تقدير عدم المزيّـة في الآخر، وإلاّ فعلى تقدير وجودها لا تكون حجّـة، فحجّيـة محتمل المزيّـة معلومـة على التقديرين، وحجّيـة غيرها مشكوكـة، وقد عرفت أنّ مقتضى الأدلّـة عدم حجّيـة الأمارة التي شكّ في حجّيتها كما لايخفى.
(الصفحة 60)
المسأ
لة الثانية
في دوران الواجب بين أن يكون عينيّاً أو كفائيّاً
فهل الأصل يقتضي الأوّل، فلا يسقط الوجوب بفعل الغير، أو يقتضي الثاني فيسقط بفعلـه؟
وليعلم أنّـه ليس المقصود إثبات كونـه عينيّاً أو كفائياً بعنوانهما، بل المقصود مجرّد إحراز وظيفـة المكلّف وأنّـه هل يجب عليـه الإتيان بالواجب بعد إتيان الغير بـه من باب حكم العقل بالاحتياط أم لا؟ كما أنّـه لم يكن المقصود في المسألـة الاُولى إثبات عنوان التعيـينيّـة أو التخيـيريّـة.
تصويرات الواجب الكفائي
وكيف كان فجريان البراءة أو الاشتغال مبني على كيفيّـة تشريع الواجب الكفائي وتصويره، فاعلم أنّ في تصويره وجوهاً:
الأوّل:
أن يكون التكليف متوجّهاً إلى جميع المكلّفين كما في الواجبات العينيّـة. غايـة الأمر أنّـه هنا مشروط بعدم سبق الغير بالفعل، فينحلّ الخطاب إلى خطابات عديدة حسب تعدّد المكلّفين، كلّ واحد منها مشروط بعدم سبق الغير بالفعل.
الثاني:
أن يكون المخاطب هو النوع، ولمكان انطباق النوع على الآحاد يكون كلّ فرد من أفراد المكلّفين مخاطباً بذلك الخطاب الواحد، فلو أشغل أحد