(الصفحة 58)
قال المحقّق النائيني على ما في التقريرات: إنّـه بناءً على المسلك المختار في باب التزاحم ـ وهو كون التخيـير لأجل تقيـيد الإطلاق ـ يرجع الشكّ إلى الشكّ في تقيـيد إطلاق محتمل الأهمّيـة في مرحلـة البقاء والامتثال مع العلم بتقيـيد الإطلاق في الطرف الآخر، ولا إشكال في أنّ الأصل عند الشكّ في تقيـيد الإطلاق في مرحلـة البقاء يقتضي الاشتغال لا البراءة للشكّ في سقوط التكليف عن محتمل الأهمّيـة بعد العلم بتعلّق التكليف بـه(1)، انتهى.
وفيـه ـ مضافاً إلى ما عرفت من عدم معقوليّـة التقيـيد في مرحلـة البقاء، فإنّ التكليف إمّا أن يكون من أوّل حدوثـه مشروطاً أو مطلقاً، ولا يعقل استحالـة التكليف المطلق مشروطاً وكذا العكس ـ أنّـه لا معنى للشكّ في السقوط هنا، فإنّ الشكّ فيـه إمّا أن يكون قبل إنقاذ واحد منهما، وإمّا أن يكون بعد إنقاذ غير الهاشمي، ففي الأوّل نعلم ببقاء التكليف قطعاً، كما أنّـه في الثاني نعلم بارتفاعـه يقيناً، إذ لا معنى حينئذ للشكّ في سقوط التكليف عن محتمل الأهمّيـة بعد فرض كونهما متزاحمين ولا يقدر المكلّف على الإتيان بهما معاً، كما لايخفى.
فالإنصاف أنّـه بناءً على هذا المسلك لابدّ من الالتزام بجريان البراءة، للشكّ في كون محتمل الأهمّيـة هل يكون واجباً مطلقاً أو مشروطاً، وقد مرّ غير مرّة أنّـه إذا دار الأمر بينهما فالأصل الجاري هي البراءة، هذا.
وأمّا بناءً على المسلك المختار في باب التزاحم من كون التكليف المتعلّق بكلّ واحد من المتزاحمين باقياً على إطلاقـه وفعليّـتـه، لأنّ التكليف والحكم المتوجّـه إليهما ليس ناظراً إلى حال الامتثال، فضلا عن حال الاجتماع
- 1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 433.
(الصفحة 59)
والمعارضـة، فضلا عن علاجـه، غايـة الأمر أنّـه حيث لا يكون المكلّف قادراً على امتثالهما يكون معذوراً بحكم العقل لعدم القدرة من دون أن يوجب ذلك تقيـيد الحكم بصورة القدرة، فإنّ الحكم مطلق والعجز عذر عقلي، وحينئذ فإن كان المتزاحمان متساويـين يحكم العقل بالتخيـير، وإن كان الملاك في أحدهما أقوى من الآخر يحكم بتعيّنـه، وإن احتمل الأقوائيـة ـ كما هو المفروض في المقام ـ فالظاهر أنّ مجرّد الاحتمال لا يعيّن محتمل الأقوائيـة بحيث لو أتى بالمهمّ يكون مستحقّاً للعقوبـة لأجل ترك محتمل الأهمّيـة، مع أنّـه لم يقم حجّـة من المولى على تعيّنـه، فتدبّر جيّداً.
هذا كلّـه لو كان الشكّ في التعيـين والتخيـير في القسم الثاني من أقسام الواجب التخيـيري.
وأمّا لو كان الشكّ فيهما في القسم الثالث من أقسامـه، وهو ما لو كان التخيـير ناش عن تعارض الحجّتين، فبناء على الطريقيـة ـ كما هو الحقّ ـ يكون مقتضى القاعدة هو الاشتغال والأخذ بخصوص ما لـه مزيّـة محتملـة، لأنّـه بعد التعارض والتساقط يجب الرجوع إلى الأدلّـة الشرعيّـة في الأخذ بالمرجّحات، ومع عدمها فالتخيـير، وحينئذ فالشكّ في التعيـين والتخيـير الذي يكون ناشئاً من احتمال المزيّـة في أحدهما المعيّن يوجب الشكّ في حجّيـة الحجّـة التي ليس فيها احتمال المزيّـة، لأنّ حجّيتها إنّما هو على تقدير عدم المزيّـة في الآخر، وإلاّ فعلى تقدير وجودها لا تكون حجّـة، فحجّيـة محتمل المزيّـة معلومـة على التقديرين، وحجّيـة غيرها مشكوكـة، وقد عرفت أنّ مقتضى الأدلّـة عدم حجّيـة الأمارة التي شكّ في حجّيتها كما لايخفى.
(الصفحة 60)
المسأ
لة الثانية
في دوران الواجب بين أن يكون عينيّاً أو كفائيّاً
فهل الأصل يقتضي الأوّل، فلا يسقط الوجوب بفعل الغير، أو يقتضي الثاني فيسقط بفعلـه؟
وليعلم أنّـه ليس المقصود إثبات كونـه عينيّاً أو كفائياً بعنوانهما، بل المقصود مجرّد إحراز وظيفـة المكلّف وأنّـه هل يجب عليـه الإتيان بالواجب بعد إتيان الغير بـه من باب حكم العقل بالاحتياط أم لا؟ كما أنّـه لم يكن المقصود في المسألـة الاُولى إثبات عنوان التعيـينيّـة أو التخيـيريّـة.
تصويرات الواجب الكفائي
وكيف كان فجريان البراءة أو الاشتغال مبني على كيفيّـة تشريع الواجب الكفائي وتصويره، فاعلم أنّ في تصويره وجوهاً:
الأوّل:
أن يكون التكليف متوجّهاً إلى جميع المكلّفين كما في الواجبات العينيّـة. غايـة الأمر أنّـه هنا مشروط بعدم سبق الغير بالفعل، فينحلّ الخطاب إلى خطابات عديدة حسب تعدّد المكلّفين، كلّ واحد منها مشروط بعدم سبق الغير بالفعل.
الثاني:
أن يكون المخاطب هو النوع، ولمكان انطباق النوع على الآحاد يكون كلّ فرد من أفراد المكلّفين مخاطباً بذلك الخطاب الواحد، فلو أشغل أحد
(الصفحة 61)
المكلّفين صفحـة الوجود بالفعل سقط الخطاب عن الباقي، لأنّ الخطاب الواحد لا يكون لـه إلاّ امتثال واحد، وهذان الوجهان ذكرهما المحقّق النائيني على ما في التقريرات(1).
الثالث:
أن يكون التكليف متوجّهاً إلى كلّ واحد من المكلّفين كما في الواجب العيني، والاختلاف بينهما إنّما هو في المكلّف بـه، فالتكليف في الواجب العيني إنّما تعلّق بالطبيعـة المتقيّدة بصدورها من كلّ فرد من أفراد المكلّفين، وفي الواجب الكفائي إنّما تعلّق بنفس الطبيعـة لترتّب الغرض على مجرّد حصولها، فإذا أوجدها بعض من المكلّفين يحصل الغرض، فيسقط التكليف عن الباقين.
الرابع:
أن يقال بثبوت الاختلاف بينهما في المكلّف بـه فقط، كما في الوجـه الثالث، غايـة الأمر أنّ المكلّف بـه في الواجب الكفائي هو صرف الوجود وناقض العدم الذي لا يعرض لـه التكرار، وفي الواجب العيني هي الطبيعـة القابلـة للتكرار.
الخامس:
أن يقال بأنّ المكلّف في الواجب الكفائي هو واحد من المكلّفين وفي الواجب العيني هو كلّ فرد من الأفراد، فالاختلاف بينهما إنّما هو في المكلّف.
السادس:
أن يقال بثبوت التخيـير في الواجب الكفائي بين المكلّفين كثبوتـه في الواجب التخيـيري بين متعلّق الوجوب والتكليف، وثبوت التعيـين في الواجب العيني بالنسبـة إلى الجميع كما في الواجب التعيـيني بالنسبـة إلى متعلّق التكليف.
- 1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 437.
(الصفحة 62)اختلاف الأصل باختلاف الوجوه في الكفائي
إذا عرفت ذلك فاعلم: أنّـه بناءً على الوجـه الأوّل لابدّ من القول بجريان البراءة; لما مرّ من أنّـه إذا دار الأمر بين كون التكليف مشروطاً أو مطلقاً تجري البراءة عن التكليف مادام لم يحصل شرطـه. والمفروض في المقام هو عدم حصول الشرط، لأنّ الشرط عبارة عن عدم سبق الغير بالفعل، وليس المراد بـه هو عدم سبقـه بـه في الجملـة ولو في بعض الوقت. كيف ولازمـه صيرورة جميع الواجبات الكفائيـة عينيّـة بعد مضي مقدار من الوقت يمكن الإتيان بها فيـه، كما أنّـه ليس المراد عدم سبقـه بـه إلى آخر الوقت، كيف ولازمـه ثبوت التكليف بعد خروج وقتـه، وهـو لا يجتمع مـع التوقيت، كما لايخفى، بل المراد بـه هـو عـدم سبق الغير بالفعل إلى زمان صيرورة وقت الواجب مضيّقاً بحيث يفوت لو لم يشتغل بـه.
وحينئذ: فإذا سبق الغير بذلك قبل تضيّق الوقت يشكّ في ثبوت التكليف لاحتمال كونـه مشروطاً بشرط فرض انتفائـه، وهو مجرى البراءة.
وأمّا ما أفاده المحقّق النائيني من أنّ الشكّ في ذلك يرجع إلى الشكّ في تقيـيد الإطلاق في مرحلـة البقاء والامتثال وهو يقتضي الاشتغال لا البراءة(1)، فقد عرفت ما فيـه من عدم معقوليـة الاشتراط في مرحلـة البقاء إلاّ على وجـه، وذلك الوجـه أيضاً مجرى البراءة كما عرفت.
هذا كلّـه بناءً على الوجـه الأوّل.
- 1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 437.