(الصفحة 75)
وأمّا الاستصحاب:
فمحصّل ما أفاده (قدس سره)
في وجـه عدم جريانـه أيضاً أنّـه لمّا كان الاستصحاب من الاُصول التنزيليـة فلا يمكن الجمع بين مؤدّاه والعلم الإجمالي، فإنّ البناء على عدم وجوب الفعل وعدم حرمتـه واقعاً ـ كما هو مفاد الاستصحابين ـ لا يجتمع مع العلم بوجوب الفعل أو حرمتـه.
وإن شئت قلت: إنّ البناء على مؤدّى الاستصحابين ينافي الموافقـة الإلتزاميـة فإنّ التصديق بأنّ للّه تعالى في هذه الواقعـة حكماً إلزامياً لا يجتمع مع البناء على عدم الوجوب والحرمـة واقعاً(1)، انتهى.
وفيـه: منع كون الاستصحاب من الاُصول التنزيليـة بهذا المعنى، فإنّـه ليس في شيء من أدلّتـه ما يدلّ أو يشعر بذلك إلاّ ما في صحيحـة زرارة الثالثـة من قولـه (عليه السلام):
«فيبني عليـه»(2) ولكن لا يخفى أنّ المراد بالبناء على المتيقّن هو البناء العملي لا البناء القلبي على أنّ الواقع أيضاً كذلك حتّى ينافي الموافقـة الالتزاميـة على تقدير تسليم لزومها فلابأس بجريان الاستصحابين والبناء العملي على طبقهما، ولا منافاة بينهما وبين العلم الإجمالي بالوجوب أو الحرمـة أصلا، لما مرّ في أصالـة الإباحـة فراجع. إلاّ أن يكون الوجـه في عدم جريان الاُصول في أطراف العلم الإجمالي هو التناقض في أدلّـة الاُصول، فإنّـه حينئذ لا مجال لجريان الاستصحابين، كما لايخفى.
هذا كلّـه مع كون الطرفين مساويـين من حيث المزيّـة والترجيح.
- 1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 449.
- 2 ـ الكافي 3: 351 / 3، وسائل الشيعـة 8: 216، كتاب الصلاة، أبواب الخلل الواقع في الصلاة، الباب10، الحديث3.
(الصفحة 76)
اختلاف المحذورين من حيث الأهمّية مع وحدة الواقعة
أمّا لو كان لأحد الطرفين مزيّـة محتملـة أو محقّقـة فلا إشكال في وجوب الأخذ بـه لو كانت المزيّـة والأهمّيـة بمثابـة تمنع من جريان البراءة حتّى في الشبهات البدويّـة، كما في المثال المتقدّم من دوران الأمر بين كون الشخص الموجود في البين نبيّاً أو شخصاً آخر يجب قتلـه، وكما في دوران امرأتـه بين زوجتـه التي حلف على وطئها أو اُمّـه، وكما في غيرها من الموارد.
وأمّا لو لم تكن المزيّـة بهذه المثابـة فهل يستقلّ العقل بتعيّنـه، كما هو الحال في دوران الأمر بين التعيـين والتخيـير في غير المقام ـ كما نفى عنـه البعد في الكفايـة(1) أو لا يستقلّ بذلك، بل يحكم بالتخيـير أيضاً؟ الظاهر هو الثاني، لأنّ مورد دوران الأمر بين التعيـين والتخيـير هو ما إذا كان التكليف بنوعـه معلوماً. غايـة الأمر أنّـه شكّ في خصوصياتـه وأنّـه على نحو التعيـين أو على سبيل التخيـير، وحينئذ فيمكن أن يقال: بأنّ مقتضى الشكّ في السقوط بعد الإتيان بالعدل هو وجوب الاحتياط بالإتيان بما يحتمل تعيّنـه.
وأمّا في المقام فلا يكون التكليف بمنجّز أصلا، فليس هنا تكليف شكّ في سقوطـه حتّى يكون مقتضى قاعدة الاشتغال بقائـه ووجوب الخروج عن عهدتـه ومع عدم التكليف لا يبقى مجال لوجوب الأخذ بذي المزيّـة المحتملـة أو المحقّقـة، كما لايخفى.
هذا كلّـه إذا كانت الواقعـة واحدة.
(الصفحة 77)
في تعدّد الوقائع المقتضي لتعدّد التكليف
وأمّا إذا كانت متعدّدة فلا إشكال فيها أيضاً في ثبوت التخيـير، لكن هل التخيـير بدوي أو استمراري؟
ومنشأ الخلاف: أنّ العلم الإجمالي في كلّ واقعـة من الوقائع المتعدّدة وإن لم يمكن مخالفتـه قطعاً ولا موافقتـه كذلك، ولذا يحكم العقل بالتخيـير، إلاّ أنّ هنا علمين إجماليـين آخرين لهما موافقـة قطعيـة ومخالفـة كذلك، فإنّ العلم الإجمالي بوجوب صلاة الجمعـة أو حرمتها وإن لم يكن في خصوص يوم واحد لـه موافقـة ولا مخالفـة، إلاّ أنّـه يتولّد منـه علم إجمالي بوجوب صلاة الجمعـة في هذه الجمعـة أو حرمتها في جمعـة اُخرى، وكذا علم إجمالي بحرمتها في هذه الجمعـة ووجوبها في اُخرى، فإنّ من يعلم إجمالا بوجوب صلاة الجمعـة في كلّ جمعـة أو حرمتها فيـه يعلم أيضاً إجمالا بوجوبها في هذه الجمعـة أو حرمتها في الاُخرى، وكذا بحرمتها فيها أو وجوبها في الاُخرى، وهذان العلمان لهما موافقـة قطعيـة ومخالفـة قطعيـة.
غايـة الأمر: أنّ الموافقـة القطعيـة في إحداهما هي عين المخالفـة القطعيـة بالنسبـة إلى الآخر، فإنّ من يصلّي الجمعـة في جمعـة ويتركها في جمعـة اُخرى وافق العلم الإجمالي الأوّل قطعاً، وخالف الثاني أيضاً كذلك.
وحينئذ: فإن قلنا بثبوت الترجيح وأنّ المخالفـة القطعيـة لها مزيّـة على الموافقـة القطعيـة يكون التخيـير بدويّاً; لئلاّ يلزم المخالفـة القطعيـة بالنسبـة إلى العلمين الإجماليـين الآخرين، وإن قلنا بعدم ثبوت الترجيح وأنّـه لا فرق
(الصفحة 78)
بينهما، يكون التخيـير استمراريّاً، وهذا هو الظاهر; لعدم الدليل على ترجيحها. وما حكى من كون المخالفـة القطعيـة علّـة تامّـة للحرمـة والموافقـة القطعيـة مقتضيـة للوجوب فليس إلاّ مجرّد دعوى بلا بيّنـة وبرهان.
وممّا ذكرنا ينقدح الخلل فيما أفاده المحقّق النائيني (قدس سره)
ممّا ملخّصـه: أنّ المخالفـة القطعيّـة لم يتعلّق بها التكليف التحريمي شرعاً، بل قبحها كحسن الطاعـة من المستقلاّت التي لا تستـتبع الخطاب المولوي، وحكم العقل بقبح المخالفـة القطعيـة فرع تنجّز التكليف، وإلاّ فنفس المخالفـة بما هي مخالفـة لا يحكم العقل بقبحها ما لم يتنجّز التكليف، فمخالفـة التكليف المنجّز قبيحـة عقلا. وأمّا مخالفـة التكليف الغير المنجّز فلا قبح فيها، وفي المقام يكون الأمر كذلك; لأنّـه في كلّ واقعـة يدور الأمر بين المحذورين فكون الواقعـة ممّا تـتكرّر لايوجب تبدّل المعلوم بالإجمال ولا خروج المورد عن كونـه من دوران الأمر بين المحذورين(1)، انتهى.
وجـه الخلل: أنّ المراد بالمخالفـة القطعيـة إن كان هي المخالفـة القطعيـة بالنسبـة إلى العلم الإجمالي الأوّل ـ وهو العلم الإجمالي بوجوب صلاة الجمعـة مطلقاً أو حرمتها كذلك ـ فمن الواضح أنّـه لا يكون لـه مخالفـة قطعيـة بعد كون التكليف في كلّ واقعـة تكليفاً مستقلاّ، ولا فرق من هذه الجهـة بين وحدة الواقعـة وتعدّدها، فكما أنّـه لا يكون لـه مخالفـة قطعيـة في صورة الوحدة، كذلك لايكون لـه تلك في صورة التعدّد.
وإن كان المراد بها هي المخالفـة القطعيـة بالنسبـة إلى العلمين
- 1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 453 ـ 454.
(الصفحة 79)
الإجماليـين الآخرين فلا وجـه للحكم بعدم قبحها بعد تنجّز التكليف. غايـة الأمر أنّك عرفت أنّـه حيث تكون المخالفـة القطعيـة بالنسبـة إلى أحدهما ملازمـة للموافقـة القطعيـة بالنسبـة إلى الآخـر ولا دليل على ترجيح الاُولى على الثانيـة، يحكم العقل بالتخيـير مستمرّاً. فالوجـه فـي ذلك مـا ذكرنا، لاما أفاده (قدس سره)
.
تنبيه : في دوران الأمر بين المحذورين في التعبديّات
قد مرّت الإشارة إلى أنّ دوران الأمر بين الوجوب والحرمـة إنّما يكون من قبيل دوران الأمر بين المحذورين إذا كان كلّ من الوجوب والحرمـة توصّلياً. وأمّا إذا كان كلاهما تعبّديـين فلا إشكال في عدم كون الدوران بينهما من ذلك القبيل لإمكان المخالفـة القطعيـة بالفعل مع عـدم قصد التقرّب، أو بالترك كـذلك وإن لـم يكن الموافقـة القطعيـة، وحينئذ فيجب عليـه الموافقـة الاحتماليـة بالإتيان بأحد الطرفين من الفعل أو الترك بقصد التقرّب، هذا.
ولو كان أحدهما المعيّن تعبّدياً فيمكن المخالفـة القطعيـة بالإتيان بالطرف التعبّدي لا مع قصد التقرّب، ولا يمكن الموافقـة القطعيـة، فيجب عليـه ترك المخالفـة القطعيـة إمّا بالإتيان بالطرف التعبّدي مع قصد التقرّب، وإمّا الإتيان بالطرف الآخر، هذا.
ولـو كان أحدهما الغير المعيّن تعبّدياً والآخـر الغير المعيّن توصّلياً فلايمكن المخالفـة القطعيـة، فيصير أيضاً مـن قبيل الـدوران بين المحذورين، كما هـو واضح.