(الصفحة 97)
والعجب أنّـه (قدس سره)
قد تنبّـه لورود هذا الإشكال عليـه، فذكر في آخر بحث الاستصحاب في مسألـة تعارض الاستصحابين مـا ملخّصـه: إنّـه ربّما يناقش فيما ذكرناه ـ من عـدم جـريان الاُصول المحـرزة في أطـراف العلم الإجمالي مطلقاً وإن لم يلزم منها مخالفـة عمليـة ـ بأنّـه يلزم على هذا عـدم جـواز التفكيك بين المتلازمين الشرعيـين كطهارة البدن وبقاء الحدث عند الوضوء بمائـع مردّد بين البول والماء; لأنّ استصحاب بقاء الحدث وطهارة البدن ينافي العلم الإجمالي بعدم بقاء الواقع في أحدهما، لأنّـه إن كان المائع ماءً فقد ارتفع الحـدث، وإن كان بولا فقد تنجّس البدن، فالتعبّد بالجمع بينهما لا يمكـن. بل يلزم عدم جواز التفكيك بين المتلازمين العقليـين أو العاديـين، فإنّ استصحاب حياة زيد وعدم نبات لحيتـه ينافي العلم العادي بعدم الواقع في أحدهما، للملازمـة بين الحياة والنبات، وكذا التعبّد ببقاء الكلّي وعدم حـدوث الفرد ونحـو ذلك من الأمثلـة.
وأجاب عن هذه الشبهـة بما ملخّصـه: إنّـه تارة يلزم من التعبّد بمؤدّى الأصلين العلم التفصيلي بكذب ما يؤدّيان إليـه; لأنّهما يتّفقان على نفي ما يعلم تفصيلا ثبوتـه، أو على ثبوت ما يعلم تفصيلا نفيـه، كما في استصحاب نجاسـة الإنائين أو طهارتهما مع العلم بطهارة أحدهما أو نجاستـه، فإنّ الاستصحابين يتوافقان في نفي ما يعلم تفصيلا من طهارة أحدهما أو نجاستـه.
واُخرى لا يلزم من التعبّد بمؤدّى الأصلين العلم التفصيلي بكذب ما يؤدّيان إليـه، بل يعلم إجمالا بعدم مطابقـة أحد الأصلين للواقع من دون أن يتوافقا في ثبوت ما علم تفصيلا نفيـه، أو نفى ما علم تفصيلا ثبوتـه. بل لا يحصل من التعبّد بمؤدّى الأصلين إلاّ العلم بمخالفـة أحدهما للواقع، كما في الاُصول الجاريـة في
(الصفحة 98)
الموارد التي يلزم منها التفكيك بين المتلازمين الشرعيـين أو العقليـين أو العاديـين. والفرق بين القسمين ممّا لا يكاد يخفى، والذي منعنا عن جريانـه في أطراف العلم الإجمالي هو الأوّل. وأمّا الثاني فلا محذور فيـه أصلا; لأنّ التلازم بحسب الواقع لا يلازم التلازم بحسب الظاهر(1)، انتهى.
ولا يخفى عدم وضوح الفرق بين القسمين; لأنّ جريان الاستصحاب في القسم الأوّل في كلّ واحد من الإنائين لا ينافي العلم بالطهارة أو النجاسـة، ولا يكون المجموع من حيث هو مجموع مورداً لجريان الاستصحاب حتّى يكون منافياً للعلم التفصيلي بالخلاف، بل مورده هو كلّ واحد منهما بالخصوص، ولاينافي شيء من الأصلين للعلم الإجمالي. غايـة الأمـر أنّـه بعد جريانهما يقطع بكذب أحدهما، للعلم الإجمالي بالطهارة أو النجاسـة، فلم يظهر فرق بينـه وبين القسم الثاني، ومجرّد توافق الأصلين في الأوّل وتخالفهما في الثاني لايوجب الفرق بينهما بعد كون الأوّل أيضاً مصداقين لحرمـة النقض بالشكّ لامصداقاً واحداً.
هذا مضافاً إلى أنّ اللازم من ذلك التفصيل في جريان الاستصحاب في أطراف العلم الإجمالي، لأنّـه قد تكون الأصلان متخالفين كما فيما لو علم بجنس التكليف، ودار الأمر بين وجوب شيء وحرمـة شيء آخر، مع كونهما مسبوقين بالعدم، فإنّ أصل عدم الوجوب يخالف مع أصالـة عدم الحرمـة ولا يكون بينهما توافق، كما هو واضح، وحينئذ فيصير من قبيل القسم الثاني، مع أنّـه لا يلتزم بالجريان في هذه الصورة أيضاً.
- 1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4: 694 ـ 695.
(الصفحة 99)
فانقدح من جميع ما ذكرنا أنّ المانع من جريان الاُصول في أطراف الشبهـة المحصورة ليس إلاّ لزوم المخالفـة العمليّـة للتكليف المعلوم في البين، وحيث إنّ الاستلزام واللزوم إنّما هو فيما لو وقع الترخيص في جميع الأطراف، وأمّا الترخيص في بعضها فلا محذور فيـه من هذه الجهـة، فحينئذ يقع الكلام في أنّـه هل هنا شيء يمكن أن يستفاد منـه الترخيص في بعضها أم لا؟
الكلام في الموافقة القطعيّة
فنقول: لابدّ أوّلا من بيان أنّ العلم الإجمالي هل يكون علّـة تامّـة بالنسبـة إلى وجوب الموافقـة القطعيـة أم لا، بل لا يكون فيـه إلاّ مجرّد الاقتضاء، ثمّ على فرض الاقتضاء لابدّ من ملاحظـة الأدلّـة العامّـة المرخّصـة وأنّـه هل يستفاد منها الترخيص بالنسبـة إلى بعض الأطراف أم لا؟ وأمّا على القول بالعليّـة فلامجال لهذا البحث، لأنّـه لو فرض دلالتها على الترخيص فيـه فلابدّ من رفع اليد عنها، للحكم العقلي القطعي بخلافها.
إذا ظهر لك ذلك نقول: قد عرفت أنّ العلم الإجمالي قد يكون متعلّقـه هو التكليف الفعلي الواقعي الذي لا يرضى المولى بمخالفتـه أصلا، وقد يكون هو التكليف الثابت بإطلاق الدليل أو عمومـه أو بقيام أمارة معتبرة وحجّـة شرعيّـة. ففي الأوّل لا مجال للترخيص ولو كان بالنسبـة إلى بعض الأطراف من غير فرق بين الشبهـة المحصورة وغيرها. وفي الثاني لا محذور في الترخيص أصلا ولو بالنسبـة إلى جميع الأطراف ولا تلزم مناقضتـه أصلا.
أمّا على تقدير عدم مصادفـة الأمارة وعدم كون الإطلاق أو العموم مراداً
(الصفحة 100)
جدّاً فواضح، وأمّا على تقدير المطابقـة وتعلّق الإرادة الجدّيـة بالإطلاق أو العموم فلابأس أيضاً; لأنّ مرجع الترخيص إلى رفع اليد عن الحكم الواقعي لمصلحـة أهمّ من مصلحـة درك الواقع، كما أنّـه لابدّ من الالتزام بذلك في الترخيص في مطلق الشبهات البدويّـة مع ثبوت الحكم الواقعي في بعض مواردها.
هذا بحسب نظر العقل
.
وأمّا العقلاء
الذين هم المرجع والمتّبع في فهم الكلمات الصادرة عن الشارع فقد عرفت أنّ الترخيص في جميع الأطراف عندهم يكون ترخيصاً في المعصيـة وإذناً فيها، وهو مع قبحـه غير معقول، فلذا لا يعتمدون على ما ظاهره الترخيص في الجميع ويرفعون اليد عنـه. وأمّا الترخيص في البعض فالظاهر أنّـه لابأس بـه عندهم ولا يعدّونـه ترخيصاً في المعصيـة وإذناً في ارتكاب الخمر فيما إذا تردّد بين المايعين، ولا يكون عندهم المنافاة بين تحريم الخمر مطلقاً والترخيص في محتمل الخمريّـة; لاختلاف متعلّق الحكمين; لأنّ أحدهما الخمر والآخر مشتبـه الخمريّـة.
وحينئذ: فلا يكون عندهم مانع من شمول أدلّـة الحلّ وأصالـة البراءة والاستصحاب وغيرهما لبعض الأطراف لو قيل بعدم خروج أطراف العلم الإجمالي عن مورد أدلّتها; نظراً إلى أنّ موضوعها صورة الشكّ وعدم العلم، وهو يغاير صورة العلم وتردّد المعلوم بين هذا وذاك.
وبالجملـة: فرق بين ما إذا لـم يعلم بالخمريّـة واحتمل عـدمها، وبين مـا إذا علم بها وتـردّد موصوفها بين شيئين، فالصورة الاُولى يكون مـورداً لتلك الأدلّـة قطعاً، وأمّا الصورة الثانيـة فلا تكون عند العرف من موارد الشكّ وعـدم العلم حتّى تشملها تلك الأدلّـة وإن كانت منها بنظر العقل، لأنّ كلّ واحد من
(الصفحة 101)
المايعين مشكوك الخمريّـة حقيقـة، كما هو واضح.
وحينئذ فلو قلنا بخروج العلم الإجمالي عن مورد تلك الأدلّـة لم يبق مجال للبحث في دلالتها على الترخيص بالنسبـة إلى بعض الأطراف، وأمّا لو قلنا بعدم خروجـه، كما هو الظاهر فيقع الكلام في دلالتها على ذلك وعدمها.
فنقول:
قد عرفت أنّ ما يمكن الاستدلال بـه للترخيص هي خصوص صحيحـة عبداللّه بن سنان المتقدّمـة(1)، وأمّا غيرها من الروايات فلا يجوز الاعتماد عليها بعد وجود الخلل في متنها أو في سندها، وأمّا صحيحـة عبداللّه بن سنان فهي صحيحـة من حيث السند، تامّـة من حيث الدلالـة، وقد عرفت أنّها تشمل صورة العلم الإجمالي قطعاً، وأنّ شمولها مبني على أن يكون المراد من الشيء المأخوذ فيها هو مجموع الشيئين اللذين أحدهما حلال والآخر حرام، فهي تدلّ على حلّيـة ذلك الشيء; أي المجموع. وحيث إنّـه غير قابل للأخذ بمضمونـه، لدلالتـه على الإذن في المعصيـة بحسب متفاهم العرف والعقلاء فلابدّ من رفع اليد عنـه، وليس هنا شيء آخر يدلّ على حلّيـة بعض الأطراف.
نعم لو كان الدليل دالاّ على حلّيـة كلّ مشتبـه لكان للبحث في دلالتـه على الترخيص في بعض الأطراف مجال، ولكنّـه لم يدلّ دليل معتبر على ذلك عدا روايـة مسعدة بن صدقـة المتقدّمـة(2) التي عرفت عدم جواز الاعتماد عليها، لاغتشاشها وعدم تطابق القاعدة مع الأمثلـة المذكورة فيها.
ثمّ إنّـه لو فرض دلالـة الدليل على حلّيـة كلّ مشتبـه لكان الظاهر منها هو
- 1 ـ تقدّمت في الصفحة 88.
- 2 ـ تقدّمت في الصفحة 89.