(الصفحة 100)
مدى استعدادهم للقِتال ، فطرح عليهم هذا السؤال: هل أنتم مستعدّون لخوض القتال إذا كُتب عليكم؟ فأجابوه جميعاً: ومالنا ألاّ نُقاتل في سبيل الله ، بعد أن فقدنا كلّ شيء!
ملاحظة مهمّة:
لقد استعدّت تلك الجماعة وتأهّبت للقِتال من أجل استعادة وطنهم وتحريره من المحتلّين الظلمة ، وقد فوّضوا لنبيّهم اختيار قائد يقودهم . وهنا ورد التعبير عن هذه المعركة بالقتال في سبيل الله ، وعليه : فإنّ القتال من أجل استقلال البلاد وتطهيرها من دنس الأعداء يعتبر قتالا في سبيل الله ، ولمّا كان الهدف الأصلي في مثل هذه المعارك إحياء معالم الأنبياء ومعارف الدين وتحقق كلمة التوحيد ، فإنّ أبطال هذه المعركة إنّما يُقاتلون في سبيل الله ، وهذا هو سبيل المجد والعظمة وتنظيم شؤون المجتمع وتحريره من براثن المستعمرين ، أي أنّ المقاتلين وباتّكائهم على الله والقرب منه لابدّ أن يكون هدفهم الأصلي هو تقوية الأسس الدينية والتعاليم الإلهية; وسيضاعف هذا الهدف من قدرتهم القتالية بما يجعلهم يخرجون منتصرين من تلك المعركة .
وبناءً على هذا لا ينبغي أن يقتصر دافع القتال على استعادة الأراضي المحتلّة ، ولابدّ أن يكون الدافع الرئيسي هو القتال في سبيل الله ، وهو الدافع الذي يتضمّن الاستقلال والتحرير أيضاً ، وبالنتيجة فإنّ مثل هؤلاء المقاتلين سينتصرون ويهزمون الأعداء .
إذن ، فالاستقلال والنصر وطرد الأعداء لا يقتصر على دافع حبّ الوطن فحسب ، بل ينبغي أن يكون حبّ الله هو الهدف ، والذي تتمكّن البشرية من خلاله تحقيق الانتصارات الباهرة والحصول على الاستقلال .
(الصفحة 101)طالوت:
لقد استجاب النبي لطلب قومه ، فسأل الله ملكاً مقتدراً عليماً من أجل زعامة الجيش في القتال . فبعث الله طالوت ملكاً ، فأخبر النبي قومه بأنّ أميرهم المنَصَّب من قِبل الله هو طالوت .
أمّا طالوت فلم يكن من الطبقة المترفة الرفيعة في المجتمع ، ولم يكن ثرياً عزيزاً حسب الطرق المُتعارفة ، بل كان ينتمي إلى طبقة فقيرة معدمة في المجتمع ، غير أنّه كان قوياً لا يُضاهى في العلم والشجاعة ، وقد زاده الله بسطة في العلم والجسم ، إلى جانب خبرته بفنون القِتال . وله قلب سليم مملوء بحبّ الله ، وبالتالي فإنّ طالوت اُصطفي من قِبل الله من بين تلك الجماعة العظيمة للقيام بهذه الوظيفة الخطيرة ، وهنا التفت النبي إلى قومه المبعدين عن وطنهم والذين يئنّون من أسر نسائهم وفلذات أكبادهم لدى جالوت ، وهم يعيشون القلق والاضطراب من أجل استعادة وطنهم والإطاحة بجالوت ، فقال لهم: لقد بعث الله لكم طالوت فهبّوا للقتال تحت إمرته .
عادة ما تنصاع عامة الناس لمثل هؤلاء القادة ، أمّا الطبقة المرفّهة والمتْرَفة الثرية التي تعتقد بأنّ الثروة تضفي عليهم جمالا باطنياً زائداً على جمالهم الظاهري المزيّف ، وحيث كانوا يمتلكون الأموال فهم يرون أنفسهم جامعين لكلّ شروط الكمال ، وعليه فهم الذين ينبغي أن يتزعّموا البلاد ويأخذون بزمام الأُمور ، وعلى الجميع أن يخضعوا لإرادتهم وينصاعوا لأوامرهم ، فوقفوا بوجه نبيّهم قائلين: ماذا يعني هذا الاختيار؟ أنّى يكون له الملك علينا ولم يؤت سعة من المال؟ هو ليس بغني ليتزعّمنا وتكون له الإمرة علينا! أو لست إلى جانب زعامتنا يا رسول الله؟ أو ليس رسالة الأنبياء هي دعم الأغنياء؟ أوليس الدين من إفرازات البنية الفكرية للأغنياء ؟ وقد انبثقت دعوته لتأمين منافع ومصالح هذه الطبقة ، فكيف تبرّر قضية
(الصفحة 102)
انتخاب طالوت؟ نحن لا نراه لنا زعيماً ، ولا نرى له من مقام ، والزعامة والقيادة من حقوقنا المسلّمة ، فلدينا الثروة والأموال . هذه هي اللغة التي اعتمدها الأثرياء والأغنياء في اعتراضهم على الأمر .
فأجابهم نبيّهم قائلا: أنا رسول الله ولا أنطق إلاّ عن الوحي ، وقد اختار الله القادر الحكيم طالوتَ لإخلاصه ملكاً عليكم ، فكيف ترون أنفسكم أحقّ بالإمامة والزعامة من أجل خلاص وطنكم وإنقاذه من أيدي الظلمة ، والحال ليس لكم سوى مزيّة فارغة لا تقوى أن تمنحكم ما تريدون! كيف ترون لباس الزعامة يسعكم وليس لكم من أفضلية على الآخرين سوى هذه الثروة المزيّفة؟! وهل للثراء من سبيل إلى الزعامة؟! فما العلاقة بين المال والثروة وزعامة المجتمع!
أمّا طالوت فهو جدير بمقام الإمامة والزعامة ، لاشتماله على شرائطها ومقوّماتها ، فهو عالم مقتدر ذو بسطة وقدرة بدنية تؤهّله للصمود أمام العدوّ ، بل هو أشجع المقاتلين . إنّ إمامة الأُمّة وزعامة الجيش في الحرب من أجل إحقاق حقوق الضُعفاء إنّما تتطلّب فرداً عالماً ، ملمّاً بفنون القتال ، شجاعاً ومقداماً ومتماسكاً أمام العدو ، قادراً على السيطرة على الجيش وتحقيق النصر ، وقد جُمعت كلّ هذه الصفات في طالوت .
طالوت الذي يمكنه أن يكون إماماً ، بفضل اشتماله على مقوّمات الإمامة ، ينبغي أن يكون له الملك حتّى يحقّق الاستقلال ، ويستعيد الأراضي السليبة ، ويعيد النساء والأطفال إلى أحضان آبائهم ، ويستردّ الأموال والثروات التي نهبها الأعداء ، وهذا هو الغرض من الزعامة والإمامة ، وإذا لم تكن هذه الأُمور متوفّرة في الإمام فأنّى له حفظ استقلال البلاد وسيادتها ووحدة أراضيها ودحر العدوّ الطامع؟! فالملك لله ، يؤتي ملكه من يشاء ، وليس لكلّ فرد التصرّف في هذا الملك ، وهو العالم بمَن يسعه القيام بمهمّة الإمامة ومن هو أولى بها من غيره ، وليس بينكم
(الصفحة 103)
من هو أولى بها من طالوت .
نعم ، إنّ الله يؤتى ملكه من تعلقّت به مشيئته ، وتعلّق المشيئة ليس أمراً اعتباطياً ، فلم تتعلّق مشيئة الله بطالوت عبثاً ، وما ذلك إلاّ لإخلاصه وعلمه الذي جعل الله يختاره ملكاً واِماماً على الناس .
خلاصة هذا البحث:
يمكن خلاصة ما مرّ من الدراسة المفصَّلة في الآية القرآنية الشريفة: ـ
{وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِى الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِى مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} .
لم يستجب قوم بني إسرائيل وخاصّة الملأ منهم لهذا النبيّ كعدم استجابة الغالبية من الناس لدعوات الأنبياء (عليهم السلام) ، فاضطرّ ذلك النبي للإتيان بشاهد حيّ لتأييد صحّة قوله ، وليفهم الجميع بأنّ لطالوت صلاحية الملك والإمامة ، ولنفهم نحن أيضاً ماهو الشرط الآخر الذي ينبغي توفّره من أجل الإمامة والشاهد الحيّ هو «التابوت» .
التابوت:
وردت كلمة «التابوت» في هذه القصّة القرآنية ، والألف واللام في الكلمة تفيد كون ذلك التابوت معرفة ، أي كان معروفاً من قِبل بني إسرائيل . والذي نفهمه من القرآن أنّ ذلك التابوت كان يضمّ بعض الودائع ـ التي من شأنها إشعار بني إسرائيل بالسكينة ـ وآثاراً تركها موسى وهارون (عليهما السلام) ، ويعبّر القرآن عن هذه الصورة بقوله:
{يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِن رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى
(الصفحة 104)
وَآلُ هَارُونَ} . وقبل الخوض في التفاصيل لابدّ من القول بأنّ التابوت يعني الوعاء والصندوق . فقد ورد في اللغة أنّ التبوت ، كصبور : لغة في التابوت(1) . وقيل : هو صندوق التوراة من خشب(2) . وأمّا الأُمور التي تستفاد من الآية فهي:
1 ـ أنّ ذلك الصندوق كان يضمّ ودائع وأمانات توجب سكينة الإنسان .
2 ـ كانت تلك الودائع تحمل السكينة بعناية الله ولطفه .
3 ـ نفهم من مناسبة الحكم والموضوع ـ أي الشيء الذي يؤدّي إلى سكينة بني إسرائيل ـ أنّ ذلك الصندوق كان يضمّ بلا شكّ التوراة أو بعض آياته ، لأنّ التوراة التي من شأنها سكن وهدوء بني إسرائيل .
4 ـ يفهم من العبارة «وبقية . . .» أنّ ذلك الصندوق لم يضمّ التوراة لوحدها ، بل كانت هناك الأشياء التي تناقلتها أيدي أهل موسى وهارون من قبيل عصا موسى وما شابه ذلك .
5 ـ أنّ الصندوق قد نهب ، وهو الأمر الذي جعل بني إسرائيل يشعرون بالتذمّر ; لأنّه كان يرمز لعظمتهم إبّان عصر موسى وهارون (عليهما السلام) ، وواضح أنّ الصندوق قد سلب منهم بسبب عدم كفاءتهم ، كما ليس لهم القدرة على إعادته .
6 ـ كان بنو إسرائيل مطّلعين على أهمّية ما يحمل من أسرار .
7 ـ أنّ لكلِّ مَن يسعه الإتيان به جدارة زعامة الأُمّة وقيادتها .
ولذلك اعتبر ذلك النبي أنّ أفضل دليل على كفاءة طالوت وأهليته للملك تكمن في إتيانه بذلك الصندوق ، كما أنّ بني إسرائيل سيقرّون بصلاحية طالوت والإذعان بعجزهم وعدم صلاحيتهم إذا ما قام طالوت بتلك الوظيفة الخطيرة ، وخلاصة ما أوردناه قد ورد في هذه الآية الشريفة:
{وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ
- (1) تاج العروس 3: 25 .
- (2) مجمع البحرين 1: 233.