(الصفحة 151)
لكن ليس منهم من شذّ عن تلك الإفاضات وحرم منها ، ولم تتح هذه الإفاضات بأكملها إلاّ لرسول الله (صلى الله عليه وآله) وإن كان (صلى الله عليه وآله) ـ على ضوء بعض النصوص القرآنية ـ ليس مطّلعاً على بعض الحوادث
{يَسْئَلُكَ الْنَّاسُ عَنِ الْسَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ}(1) .
فالنتيجة التي نخلص إليها من مجموع الطوائف الثلاث هي أنّ الغيب الذاتي مختصّ بالحقّ تبارك وتعالى ، وأنّ الوحي هو وسيلة الأنبياء للتوصّل إلى هذا العلم ، ولكي يتّضح الموضوع أكثر لابدّ من تسليط الضوء على هاتين الآيتين:
1 ـ الآية:
{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ}(2) ، أولا يفهم من هذه الآية انحصار العلم بالغيب بذات الله تعالى؟ ونقول: لو كان المراد أنّه ليس هنالك أحد سوى الله له علم بكيفية أسرار الخلق وعلم الغيب لكان من المناسب أن يحصر هذا العلم به سبحانه لا مفاتحه .
2 ـ لقد وصف سبحانه في بعض الآيات ذاته المقدّسة بعلاّم الغيوب ، أي عبّر بصيغة المبالغة ، كما ورد ذلك في الآية
{أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ}(3) .
وهكذا عبّر بهذه الصيغة في سائر الآيات ، أفلا يشعر هذا بأنّ العلم المقتصر على الحقّ تعالى هو العلم بمعنى المبالغة؟
علم الأئمّة (عليهم السلام) :
لقد اتّضح لدينا لحدّ الآن أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) مَن يستمدّ علمه بالأشياء من
- (1) سورة الأحزاب : الآية 63 .
- (2) سورة الأنعام: الآية 59 .
- (3) سورة التوبة: الآية 78 .
(الصفحة 152)
الإفاضات الغيبية فهو عالم بالغيب ، ولكن ماذا بشأن الأئـمّة؟ هل الأئـمّة الأطهار (عليهم السلام) عالمون بالغيب أيضاً؟ وهل ورد في القرآن ما يفيد استنادهم إلى المدد الغيبي في إمامتهم واطّلاعهم على المغيَّبات ولو عن طريق النبيّ (صلى الله عليه وآله) ؟
لا شكّ أنّ علم الأئـمّة (عليهم السلام) هو حصيلة إرشادات وتوجيهات النبيّ الخاتم (صلى الله عليه وآله) ، كما لا شكّ أيضاً أنّهم لا يستندون في علمهم إلى الوحي ، لكن ليس هنالك من شكّ أيضاً ـ وكما اتّضح من المباحث السابقة ـ في أنّهم عيّنوا من قِبل الله إلى جانب كون إمامتهم ممّا تقتضيه وظيفة مواصلة أهداف الرسالة ، وتطبيق الأحكام الإسلامية وتفصيل أسرار القرآن علاوة على استخلافهم من جانب النبي (صلى الله عليه وآله) .
وبعبارة أوضح: أنّ الإمامة من الأُصول الرئيسيّة للإسلام وكافّة الشرائع الإلهية ، وأنّ الإمام منصّب من قبل الله للنهوض بأهداف الإسلام وزعامة الاُمّة وتوجيهها في مسيرتها الحياتية ، وخلاصها من مصاعب الحياة ، والأخذ بيدها إلى الصلاح والفلاح ، وهنا لابدّ من معرفة: هل أنّ الأئـمّة الأطهار (عليهم السلام) عالمون بالغيب والحوادث الخفيّة وتفاصيل الأُمور ، أم أنّ علمهم يقتصر على القرآن والأحكام؟
قد ذكرنا آنفاً أنّ لهؤلاء الهداة إمامة الأُمّة بعد النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) ، وقد نصّت آية الطاعة
{أَطِيعُوا اللَّهَ . . .} بولايتهم للأمر وتشكيل الحكومة الإسلامية ، فهل ينبغي أن يكون الحاكم الإسلامي عالماً بالغيب ، وما رأي القرآن الكريم بهذا الشأن؟
نقطة ضرورية:
لا ندَّعي في هذه الأبحاث أنّ مفاد الآيات الكريمة ـ التي سنعرض لها لاحقاً ـ صريحة في أنّ الإمام بالاستناد إلى الفيض الإلهي عالم بالغيب ، بل ما تفيده الآيات الواردة بهذا الشأن ، هو أنّ الأفراد الذين بيدهم مقدّرات المسلمين على أنّهم
(الصفحة 153)
حكّام المسلمين وأئمّتهم لابدّ أن تكون دعائم حكومتهم مستندة إلى الإستمداد الغيبي ، وأنّهم يعتمدون على العلم الغيبي الذي يفاض عليهم ، وأنّ الإمام إنّما يُمارس زعامته بما يفيض الله عليه ، وحيث ثبت في محلّه أنّ الأئـمّة الأطهار (عليهم السلام) هُم ولاة الأمر والحكّام ، فمن المفروغ منه أن تستند أسس حكومتهم إلى العلم الغيبي .
وبعبارة اُخرى: أنّ الحكومة الإسلامية وتدبير الأُمور على أساس الإطار الإسلامي وتصريف شؤون القضاء وإدارة شؤون البلاد وتعريف الأُمّة بوظائفها وكيفيّة التعامل معها وتوجيهها وإرشادها ، كلّ ذلك لابدّ أن يستند إلى العلم الغيبي ، وعليهم أن يبلغوا الأُمّة ما ألهمهم الله من مكنون غيبه .
وبناءً على هذا فإنّ الحاكم الإسلامي إنّما يستند إلى العلم الغيبي في حكومته وتوجيهه وزعامته للاُمّة ، ولمّا كانت الحكومة الإسلامية للأئـمّة الأطهار (عليهم السلام) بعد النبيّ (صلى الله عليه وآله) كان لابدّ من علمهم التامّ بالمغيَّبات والحوادث الخفيّة وما يواجه الإسلام والمسلمين خلال المسيرة .
واستناداً لهاتين المقدّمتين ـ اللتين هما بمثابة الصغرى والكبرى ـ يثبت أنّ الأئـمّة الأطهار (عليهم السلام) زعماء الدين مطّلعون على الغيب ، عالمون بالحوادث الواقعة وما يمتّ بصلة لسعادة الاُمّة .
أمّا كبرى هذا الدليل فهي الآيات التي سنتطرّق إليها ، والتي تفيد استناد الحاكم الإسلامي لعلم الغيب ، وأمّا صغراه فهي الآيات السابقة التي صرّحت بأصل الإمامة على غرار أصل النبوّة ، وأنّ الأئـمّة الأطهار (عليهم السلام) من بني هاشم هم أُولو الأمر بعد النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) .
ونخوض الآن في الآيات التي تمثّل كبرى الدليل ، أي الآيات التي تفيد ضرورة استناد الحاكم الإسلامي في شؤون الحكومة إلى علم الغيب وكونه عالماً بالغيب .
(الصفحة 154)الآية الأُولى :
{إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلاَ تَكُن لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً}(1) .
واضح أنّ ما أرى الله نبيّه وأراده هو أن تكون حكومته ودعائمها قائمة على أساس ذلك العلم بالمغيّبات ، وقد ذكر كِبار المفسّرين من قبيل الشيخ الطوسي ـ المحقّق المعروف ـ في سبب نزول الآية أنّ الإخوة الثلاثة من بني زريق وهم بشر وبشير ومبشّر سرقوا سيفاً ودرعاً وطعاماً من عمّ قتادة بن النعمان ، فأتى قتادة رسول الله (صلى الله عليه وآله) بطلب من عمّه لاسترداد تلك المسروقات ، وقد كان قتادة وجيهاً محترماً لدى رسول الله (صلى الله عليه وآله) ; لأنّه شهد بدراً . فبعث السرّاق بأسير بن عروة ـ وكان منطيقاًـ يشفع لهم عندالنبي (صلى الله عليه وآله) ، فسمع ابن عروة مقالة قتادة ، فقال مُدافعاً: يارسول الله (صلى الله عليه وآله) إنّ هؤلاء الإخوة من أشرافنا ، فلا أرى أن تأذن بأن يساء إلى المسلمين عندك ، فحمل رسول الله (صلى الله عليه وآله) على قتادة وعنّفه على اتّهاماته . وكان لابدّ للنبي (صلى الله عليه وآله) من العمل بالظاهر من تعنيفه ، لرميه بعض المسلمين بالسرقة دون الإتيان بدليل أو حجّة . . . فترك قتادة المجلس حزيناً ورجع إلى عمّه مغموماً فقال: ليتني متّ ولم أقل للنبي (صلى الله عليه وآله) ما قلت(2) .
فنزلت الآية لتطّلع النبيّ (صلى الله عليه وآله) على الحقيقة وتحكم بخيانة الإخوة الثلاث وتطلب من النبيّ (صلى الله عليه وآله) أن يستند في حكمه إلى العلم الواقعي ، أي العلم بالمغيّبات ، رغم كون ظاهر الأمر يقتضي بما قام به النبيّ (صلى الله عليه وآله) ويعنّف قتادة ، إلاّ أنّ الله أشار عليه بالحكم استناداً إلى الغيب وما أراه سبحانه وألاّ يدافع عن الخائن ، فالذي يفيده سبب النزول أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) وبغضّ النظر عن الوحي لا يحيط ببعض الأُمور الجزئية ،
- (1) سورة النساء : الآية 105 .
- (2) تفسير القمّي 1 : 150 ـ 151، التبيان في تفسير القرآن 3: 316 ـ 317، مجمع البيان 3: 174 ـ 175 .
(الصفحة 155)
إلاّ أنّه يطّلع عليها وعلى تفاصيل سائر الحوادث من خلال الاستمداد من الغيب ، فالغيب من شأنه أن يحدّد الخائن والسارق والبريء . فلايخفى شيء على الحاكم الإسلامي ، وهو عليم بالأسرار الخفيّة ، وأنّ الله قد أراه ما تقوم به حكومته .
وإذا تأمّلنا العبارة «ما أراك الله» التي وردت بصيغة الماضي وطبّقناها على هذه الواقعة ، لإفادتنا عدم وجود أيّ شيء مخفي ومستور على النبي (صلى الله عليه وآله) ، وهو عليم بالأشياء بنبوّته المستندة إلى المدد الغيبي ، فليس هنالك من ترديد بالنسبة إلى النبي (صلى الله عليه وآله) في أنّ أولئك الإخوة الثلاث سارقون خائنون .
نظرة أعمق:
رغم أنّ الآية الكريمة ـ بالالتفات إلى سبب النزول ـ مختصّة بحادثة مع النبي (صلى الله عليه وآله) ، إلاّ أنّ التعمّق في الآية يفيد ضرورة استناد حكومة وزعامة الحاكم الإسلامي ـ الذي نصّبه الله على الخلق ـ إلى علم الغيب وما يريه الله ويكشف له من مكنونات الأُمور ; لأنّ مفاد الآية
{لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَهُ}ـ مع إلغاء خصوصية هذا المورد ـ أنّ الحاكم الإسلامي لا يحكم إلاّ بما يريه الله ويرشده إليه ، وهذا ما يستلزم الاستنتاج بعلم الحاكم والإمام بالمغيّبات والحوادث الخفيّة ، ولو كانت تلك الحادثة جزئية وفي زمان خاصّ ، وحيث نصّت الآيات السابقة على أ نّ الإمام خليفة النبيّ (صلى الله عليه وآله) في الحوادث الواقعة وزعامة الأُمّة وولاية شؤونها الإسلامية فهو يتمتّع بما يتمتّع به النبي (صلى الله عليه وآله) من علم ، والله أعلم .
الآية الثانية:
{رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِى مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِى مِن تَأْوِيلِ الاَْحَادِيثِ}(1) .
- (1) سورة يوسف: الآية 101 .