(الصفحة 154)الآية الأُولى :
{إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلاَ تَكُن لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً}(1) .
واضح أنّ ما أرى الله نبيّه وأراده هو أن تكون حكومته ودعائمها قائمة على أساس ذلك العلم بالمغيّبات ، وقد ذكر كِبار المفسّرين من قبيل الشيخ الطوسي ـ المحقّق المعروف ـ في سبب نزول الآية أنّ الإخوة الثلاثة من بني زريق وهم بشر وبشير ومبشّر سرقوا سيفاً ودرعاً وطعاماً من عمّ قتادة بن النعمان ، فأتى قتادة رسول الله (صلى الله عليه وآله) بطلب من عمّه لاسترداد تلك المسروقات ، وقد كان قتادة وجيهاً محترماً لدى رسول الله (صلى الله عليه وآله) ; لأنّه شهد بدراً . فبعث السرّاق بأسير بن عروة ـ وكان منطيقاًـ يشفع لهم عندالنبي (صلى الله عليه وآله) ، فسمع ابن عروة مقالة قتادة ، فقال مُدافعاً: يارسول الله (صلى الله عليه وآله) إنّ هؤلاء الإخوة من أشرافنا ، فلا أرى أن تأذن بأن يساء إلى المسلمين عندك ، فحمل رسول الله (صلى الله عليه وآله) على قتادة وعنّفه على اتّهاماته . وكان لابدّ للنبي (صلى الله عليه وآله) من العمل بالظاهر من تعنيفه ، لرميه بعض المسلمين بالسرقة دون الإتيان بدليل أو حجّة . . . فترك قتادة المجلس حزيناً ورجع إلى عمّه مغموماً فقال: ليتني متّ ولم أقل للنبي (صلى الله عليه وآله) ما قلت(2) .
فنزلت الآية لتطّلع النبيّ (صلى الله عليه وآله) على الحقيقة وتحكم بخيانة الإخوة الثلاث وتطلب من النبيّ (صلى الله عليه وآله) أن يستند في حكمه إلى العلم الواقعي ، أي العلم بالمغيّبات ، رغم كون ظاهر الأمر يقتضي بما قام به النبيّ (صلى الله عليه وآله) ويعنّف قتادة ، إلاّ أنّ الله أشار عليه بالحكم استناداً إلى الغيب وما أراه سبحانه وألاّ يدافع عن الخائن ، فالذي يفيده سبب النزول أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) وبغضّ النظر عن الوحي لا يحيط ببعض الأُمور الجزئية ،
- (1) سورة النساء : الآية 105 .
- (2) تفسير القمّي 1 : 150 ـ 151، التبيان في تفسير القرآن 3: 316 ـ 317، مجمع البيان 3: 174 ـ 175 .
(الصفحة 155)
إلاّ أنّه يطّلع عليها وعلى تفاصيل سائر الحوادث من خلال الاستمداد من الغيب ، فالغيب من شأنه أن يحدّد الخائن والسارق والبريء . فلايخفى شيء على الحاكم الإسلامي ، وهو عليم بالأسرار الخفيّة ، وأنّ الله قد أراه ما تقوم به حكومته .
وإذا تأمّلنا العبارة «ما أراك الله» التي وردت بصيغة الماضي وطبّقناها على هذه الواقعة ، لإفادتنا عدم وجود أيّ شيء مخفي ومستور على النبي (صلى الله عليه وآله) ، وهو عليم بالأشياء بنبوّته المستندة إلى المدد الغيبي ، فليس هنالك من ترديد بالنسبة إلى النبي (صلى الله عليه وآله) في أنّ أولئك الإخوة الثلاث سارقون خائنون .
نظرة أعمق:
رغم أنّ الآية الكريمة ـ بالالتفات إلى سبب النزول ـ مختصّة بحادثة مع النبي (صلى الله عليه وآله) ، إلاّ أنّ التعمّق في الآية يفيد ضرورة استناد حكومة وزعامة الحاكم الإسلامي ـ الذي نصّبه الله على الخلق ـ إلى علم الغيب وما يريه الله ويكشف له من مكنونات الأُمور ; لأنّ مفاد الآية
{لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَهُ}ـ مع إلغاء خصوصية هذا المورد ـ أنّ الحاكم الإسلامي لا يحكم إلاّ بما يريه الله ويرشده إليه ، وهذا ما يستلزم الاستنتاج بعلم الحاكم والإمام بالمغيّبات والحوادث الخفيّة ، ولو كانت تلك الحادثة جزئية وفي زمان خاصّ ، وحيث نصّت الآيات السابقة على أ نّ الإمام خليفة النبيّ (صلى الله عليه وآله) في الحوادث الواقعة وزعامة الأُمّة وولاية شؤونها الإسلامية فهو يتمتّع بما يتمتّع به النبي (صلى الله عليه وآله) من علم ، والله أعلم .
الآية الثانية:
{رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِى مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِى مِن تَأْوِيلِ الاَْحَادِيثِ}(1) .
- (1) سورة يوسف: الآية 101 .
(الصفحة 156)
الأحاديث بمعنى «الإخبار عن حوادث الزمان» ، فالآية تفيد تعليمه حوادث الزمان بتفاصيلها ، أي العلم الغيبي .
منصب يوسف (عليه السلام) :
إنّ يوسف الصدّيق الذي واجه تلك المصائب والويلات التي ملأت حياته بالألم والمعاناة والحرمان والفِراق ، وبعد أن أثبت خلوصه في عبودية الله وكفاءته حظي بشيء من زعامة مصر وأصبح أميناً لخُزانتها ، وحيث كان من أنبياء الله وقد جعله الله في ذلك المقام وفوّض إليه إدارة الشؤون الماليّة للبلاد ، وجب أن يكون عالماً بخزائن الغيب ومكنوناته وحوادث الزمان والمرجع في تلك الوقائع والأحداث .
وبناءً على هذا فإنّ الحاكم وإن كان دون الزعيم العام وأوطأ درجة منه ، فإن كان يشغل هذا المنصب من جانب الله فهو عالم بالمغيّبات والحوادث الخفيّة . وقد نبّه القرآن الكريم إلى قبس منه في تأويل الأحلام وارتداد يعقوب بصيراً (1)، وعليه : فإنّ الزعامة الإلهية تتطلّب العلم بالمغيّبات والإحاطة بالحوادث سواء كانت هذه الزعامة متمثّلة بيوسف (عليه السلام) ، أم غيره من الزعماء الربّانيين ، وذلك لأنّ الآية الكريمة صريحة في أنّ مَن تصدّى للملك من قِبل الله لابدّ أن يكون ملمّاً باُسلوب إدارة شؤون البلاد والاستمداد الغيبي .
الآية الثالثة :
{وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ}(2) .
يتّضح من التأمّل في قصّة طالوت وجالوت ـ التي ذكرنا تفاصيلها سابقاًـ أنّ
- (1) سورة يوسف: الآيات 43 ـ 49 و 96 .
- (2) سورة البقرة: الآية 251 .
(الصفحة 157)
زعامة الاُمّة إنّما تفوّض إلى الصالحين من الأفراد ممّن تتوفّر فيهم شرائطها ، من قبيل العلم والقدرة و . . . وأنّ الله هو الذي زوّد الملك بتلك القدرة العلمية ، حيث صرّحت الآية قائلة:
{وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ} . ولعلّ فاعل «يشاء» ضمير يعود إلى داود ، أي أنّ الله آتى داود كلّ ما شاء من العلم . وربّما عاد الضمير إلى «الله» أي أنّ علم داود من الله ، وقد أفاض الله ما شاء من العلم على داود .
على كلّ حال فالمعنى المستفاد هو أنّ زعيم البلاد ـ الملك ـ ينبغي أن يكون عالماً بالمغيّبات محيطاً بالمكنونات ، وأنّ زعامته لا تستند إلى الطرق والجهود المتعارفة في الحصول على العلم ، بل وسيلته فيها إفاضات الحقّ سبحانه في الوقوف على الأسرار ، سواء كان هذا الزعيم داود ، أو أيّ فرد آخر ينصّبه الله .
الآية الرابعة :
{وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الْصَّلَوةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَوةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ}(1) . ترى الآية أنّ الإمامة منصب إلهي ، كما تدلّ على أنّ الإمام يتولّى الأمر بالاستمداد الغيبي ، والذي تفيده هذه الدلالة استناد الإمام في زعامته إلى العلم الغيبي .
وبناءً على هذا فللائـمّة الأطهار (عليهم السلام) مثل هذا الامتياز ; لأنّهم مصطفون من قبل الله ، غاية ما في الأمر أن لا سبيل إلى الوحي ، وأمّا سائر السبل فمفتوحة .
ثمرة هذا البحث القرآني :
لقد أصبح الأمر جليّاً بأنّ أئـمّة الإسلام إنّما يستندون إلى الغيب في زعامتهم
- (1) سورة الأنبياء: الآية 73 .
(الصفحة 158)
وأنّهم مطّلعون على خفايا الأُمور ، ولكن ما مدى هذا الإطّلاع والعلم ، وكيف يتأتّى لهم هذا العلم؟
لا يمكن الاستدلال بهذه الآيات في هذا الخصوص ، ولكن ما يمكن الجزم بقوله هو أنّ علمهم بكيفيّة تؤدّي إلى هدايتهم إلى الصراط المُستقيم وإلى سبل السلام ، وأن تكون هدايتهم صائبة صحيحة تماماً ، فهم الهُداة إلى الحقّ والحقائق المسلّمة ، وذلك بفعل استنادهم إلى الغيب ، وليس هنالك من سبيل إلى خطأ هذه الهداية ، وبالتالي فشل وهلاك الاُمّة
{أَفَمَن يَهْدِى إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَ يَهِدِّى إِلاَّ أَن يُهْدَى}(1) .
كما نعلم من جانب آخر أنّ هؤلاء زعماء إلى الأبد ، وقد تقدّم هذا البحث وثبت في حينه أنّ العالم الإسلامي لابدّ أن يخضع ـ وإلى قيام الساعة ـ في قيادته لمثل هؤلاء الزُعماء .
وبناءً على هذه النتيجة والمقدّمتين فإنّ علمهم بالحوادث الخفيّة وما ستواجهه الأُمّة الإسلامية في المستقبل ، ولاسيّما الحوادث ذات الصلة بكيان الإسلام والمسلمين إنّما تثبت وتوضّح أمرين ، هما:
1 ) أنّ الأئـمّة الأطهار (عليهم السلام) هم الزعماء والقادة إلى الأبد .
2 ) أنّ زعامتهم وبالاستناد إلى المدد الغيبي والعناية الإلهية هي عين الصواب والتي تتضمّن الهداية المطلقة إلى الحقّ .
وأمّا ثمرة هاتين المقدّمتين ; فهي أنّ الأئـمّة الأطهار (عليهم السلام) عالمون بالحوادث الخفيّة وما ستواجهه الاُمة الإسلامية إلى يوم القيامة ، وذلك لأنّه لا يمكنهم أن يكونوا زُعماء إلى الأبد ما لم يكونوا عالمين . وإن قُلنا بأنّهم زعماء إلى الأبد ، ولكن ليس من الضروري أن يكونوا عالمين بجميع الحوادث ، فإنّ هذا ينقض الفرض
- (1) سورة يونس : الآية 35 .