(الصفحة 132)
آل عمران:
{يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَيكِ وَطَهَّرَكِ}(1) والدليل هو وحدة السياق في الآية الشريفة ، وإذا جاء معها الحرف «من» فهي تعني الانتخاب من بين جماعة ، وهذا ما نلمسه في سورة فاطر:
{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا}(2) . أمّا إذا استعملت مع «على» فإنّها تفيد ترجيح المنتخب . فهي وإن اشتركت مع المعنى المُراد في القسم الثاني ; أي الانتخاب الخالص ، إلاّ أنّها تفرق عنه بأنّها تتضمن ترجيح المنتخب ، وهذا ما ورد في قصّة طالوت التي أشرنا إليها آنفاً
{إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَيهُ عَلَيْكُمْ} (3). ولذلك وردت استفهامية في سورة الصافّات
{أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ}(4) أي ليس هنالك من ترجيح وانتخاب في هذا الأمر .
رفع إشكال :
لقد تضمّن معنى «الاصطفاء» رفع إشكال من شأنه تشويش أذهان العوامّ ، فقد صرّح القرآن بشأن مريم قائلا:
{وَاصْطَفَيكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ}(5) . يعتقد البعض أ نّ مريم مصطفاة على كافّة نساء العالم ، والحال أنّ الآية لا تفيد أيّ اصطفاء بالنسبة لعامّة نساء العالم ولا امتياز عليهنّ «أنت مصطفاة وممتازة من بين نساء العالم» . فهي ليست منتخبة على جميع النساء وليس لها من امتياز على الجميع ، بل هي مصطفاة من بين نخبة النساء ، ونعلم أنّ مريم من المصاديق العُليا للنساء الجليلات: مريم عابدة ومطهّرة ، وهذا لا يتنافى ووجود سائر النساء الجليلات الاُخريات في هذا الجنس البشري ، والكلام يختصّ بكونها
- (1) سورة آل عمران: الآية 42 .
- (2) سورة فاطر: الآية 32 .
- (3) سورة البقرة: الآية 247.
- (4) سورة الصافّات: الآية 153.
- (5) سورة آل عمران: الآية 42 .
(الصفحة 133)
منتخبة ، ولاسيّما أنّ هذا الانتخاب والترجيح يتعلّق بأمر غير طبيعي ، وهو الحمل دون وجود الزوج ، فقد خلق الله مريم على درجة من الطهر والعفاف بحيث إنّ الأذهان لا تتصوّر أيّ طعن في طهرها وعفافها من جرّاء هذا النوع من الحمل ، وهناك رواية تؤيّد ما ذهبنا إليه(1) .
الأمر الثاني :
هل أنّ اصطفاء آدم ونوح وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين إلى الأبد على ضوء الآية
{إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ}؟
الجواب :
ذكرنا سابقاً أنّ كلمة «الاصطفاء» إذا استعملت مع حرف الجرّ «على» أفادت معنى الترجيح في انتخاب فرد أو أكثر على الآخرين ، فمعنى الآية أنّ الله انتخب آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران ـ الذين يمثّلون الصفوة ـ من بين سائر أفراد العالم .
إذن ، فالانتخاب من بين العالمين ، وأنّ المنتخبين من أصفياء العالم ، لا أنّ الانتخاب على جميع العالم وأنّ للمنتخبين امتياز على العالم ، والله أعلم .
ويؤيّد ذلك المعنى الآيات من سورة الأنعام:
{وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ* وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ* وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلّاً فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ}(2) .
- (1) راجع مجمع البيان 2: 289 ذيل الآية الشريفة «وَاصْطَفَيكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ» .
- (2) سورة الأنعام الآيات 84 ـ 86 .
(الصفحة 134)
ونعلم أنّ هؤلاء الأنبياء ليسوا مصطفين على العالم ، وقد انتخبوا بالتفضيل الإلهي من بين العموم ، ومن أراد المزيد فليراجع تفسير أحد الكاتِبَيْن(1) .
جواب آخر :
قد يُقال بأنّ آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران قد اصطفوا على العالمين ، إلاّ أنّ هذا لا يعني أنّ نوحاً مثلا قد اصطُفِي على جميع العالمين . نعم ، آدم ونوح و . . . مصطفون على العالمين بمعنى عدم خروج آل الرسالة المصطفين من هؤلاء .
المصطفى الأوّل هوآدم (عليه السلام) الذي اصطفاه الله على عالمه آنذاك ، ثمّ نوح وهكذا آل إبراهيم وآل عمران ، حيث إنّ كلّ واحد في هذه الآل مصطفى على عالم زمانه . و محمّد (صلى الله عليه وآله) النبي العربيوهو من آل إبراهيم مصطفى منذ زمان بعثته المُباركة حتّى الأبد .
وبعبارة أوضح: فإنّ المصطَفين على عالم البشرية منذ بدء الخليقة يبتدئون بآدم (عليه السلام) ويختتمون بآل إبراهيم (عليه السلام) بحيث إنّ كلّ واحد منهم مصطفى الله على أهل زمانه ، حتّى ظهور النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) الذي يُعتبر مصطفى من قبل الله منذ انطلاقة البعثة إلى الأبد ما دام عالم البشرية قائماً ، فليس هنالك من نبوّة لكافّة العالمين وفي كافّة أدوار التأريخ من غير هؤلاء وإن اختصّ كلّ واحد منهم بزمانه ، أمّا من حيث المجموع فهم المصطَفون على العالمين على مدى التأريخ ، والله اعلم .
أمّا مريم فهي تشتمل على مزية تميّزها على سائر النساء ، وهي مزية الحمل من دون الزوج ، وهو الحمل الذي لا ينطوي على أيّ مساس بعفّة مريم وطهرها .
الأمر الثالث :
من هم آل إبراهيم وآل عمران؟
جاء في المنجد: «أنّ آل الرجل أهله ، ولا يستعمل إلاّ في ما فيه شرف»(2) لا
- (1) تفسير كلام الحقّ للشيخ شهاب الدين الإشراقي .
- (2) المنجد في اللغة: 21 ، مادّة «آل» .
(الصفحة 135)
كلّ أهل وأينما كانت كلمة «أهل» لتقيّد صفة المضاف إلى المضاف إليه ، فيُقال مثلا: «أهل العلم» أي الأفراد الذين يتّصفون بصفة العلم ، وأهل قم ، وحيث إنّ الآل هي صفوة الأهل فإنّ آل إبراهيم تعني الخواصّ والصفوة من أهل إبراهيم (عليه السلام) .
لإبراهيم (عليه السلام) ولدان هما إسماعيل وإسحاق ، والمُراد بآل إبراهيم خلفه وولده المصطَفون من قِبل الله ، فهل هم الأنبياء والمصطَفون من ذريّة إسماعيل والأنبياء من ذريّة إسحاق أيضاً؟
ولعمران ولدان هما عمران والد موسى (عليه السلام) وعمران والد مريم (عليهما السلام) ، وربّما كان المُراد بعمران التي أضيفت إلى الآل في الآية الكريمة والد مريم ، فآل عمران في هذه الحالة هم المصطفون من هذه الطائفة ، ويؤيّد ذلك الآيات اللاحقة من هذه السورة المُباركة التي ذكرت مريم مشيرة إلى أصالتها . كما يمكن أن تكون آل عمران شاملة للطائفتين ; لأنّ كلمة عمران رغم أنّها إسم علم لكنّها تنطبق على مسمّيين أيضاً ، إلاّ أنّ هذا الاحتمال ليس معتبراً علميّاً .
مَنْ هُم آل إبراهيم ؟
آل عمران كلّ واحد من الطائفتين أو الطائفة الخاصّة من والد مريم ، أمّا آل إبراهيم فتقتصر على ذريّة إسماعيل ، لأنّ العطف دليل على المغايرة ، ويؤيّد كون آل إبراهيم هم ذريّة إسماعيل قوله عزّوجل في الآية 58 من سورة مريم:
{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوح وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ} فقد فصّل ذريّة إبراهيم عن ذريّة إسرائيل ، في حين أنّ إسرائيل هو يعقوب وهو من أولاد إسحاق بن إبراهيم .
ومن هنا يعلم بأنّ القرآن لم يرد بذرّية إبراهيم سوى أولاد إسماعيل ، والدليل الأوضح على ذلك ما نحن بصدده من الآية
{ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْض} لأنّ الذريّة
(الصفحة 136)
وردت بدل من آل إبراهيم وآل عمران ، أي أ نّ آل إبراهيم وآل عمران ذرّية واحدة ; لأنّ والد الآلين هو إبراهيم . أمّا
{بَعْضُهَا مِنْ بَعْض} فمعناه انفصال وتفرّع البعض من ذريّة والبعض الآخر من ذريّة أُخرى .
وبعبارة أيسر: أنّ معنى العبارة رغم أنّ آل إبراهيم وآل عمران ذرّية واحدة ، غير أنّ آل عمران من ولد وآل إبراهيم من ولد آخر ، وعليه فآل عمران من يعقوب بن إسحاق وهو إسرائيل ، وآل إبراهيم من إسماعيل بن إبراهيم .
هدف سام :
لِمَ عبّر القرآن الكريم عن ذريّة إسماعيل بآل إبراهيم ، وعن أولاد إسحاق بآل عمران؟
لعلّ المغزى في هذا التعبير رغم أنّ الاثنين هما آل إبراهيم ، هو هدف سام وبقصد إفادة مطلب أساسي . فآل إسحاق قد انقطعوا عن مقام النبوّة السامي وسيحلّ اليوم الذي يزول فيه دين إسحاق ، وبالتالي فإنّ الدين الإسلامي العالمي سيستوعب جميع القوانين السماوية .
إذن ، فالذرّية الحقيقية لإبراهيم الحافظة لهدفه السامي القائم على أساس التوحيد والتسليم لله إنّما تنحصر في ولد إسماعيل ، وبالنهاية فإنّ النبي العربي محمّداً (صلى الله عليه وآله) هو الحافظ لدعوة إبراهيم (عليه السلام) ، وقد لفت القرآن الأنظار لهذه الحقيقة ، حيث قال:
{إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِىُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِىُّ الْمُؤْمِنِينَ}(1) .
وبناءً على هذا يمكن القول بأنّ آل إبراهيم منحصرون في الصفوة من ولد إسماعيل ، إضافة إلى أنّ أتباع سائر الأديان كالنصرانية واليهودية قد أحدثوا من
- (1) سورة آل عمران : الآية 68 .