(الصفحة 179)
دوافع نفي الإمام علمه بالغيب
الدافع الأوّل :
إنّ أهمّ دافع جعل الإمام (عليه السلام) يسلب عن نفسه العلم بالغيب ، هو الظرف الخاصّ الذي عاشه الإمام في ذلك الزمان والذي شهد تفتّح آفاق العلم ، لينهمك الإمام في بيان أحكام الإسلام وحقائق القرآن ونشر العلم وتفادي كلّ ما من شأنه أن يحول دون القيام بهذه الوظائف .
كان خليفة زمانه الطاغية السفّاح المنصور الدوانيقي الذي كان يتحيّن الفُرَص لقتل الإمام وإزالة هذه العقبة عن طريقه . كان الإمام شديد الحرض على عدم اِثارة مثل هذه المواضيع التي تؤلّب ذلك الجبّار الغاشم من أجل تصفيته والقضاء عليه ، الأمر الذي يعني الحيلولة دون نشر معارف الدين والأحكام . فلو قال الإمام: أنا عالم بالغيب جدير بالإمامة والخلافة ، لكان ذلك كافياً لسلّ المنصور سيفه وقتله ، وعليه فلا ينبغي أن يشيع هذا الأمر بين الأوساط الاجتماعيّة ، ويكفي أن يعلم ذلك بعض خواصّه وحملة أسراره ، وسوف لن تستطيع الغربان أن تحجب الشمس إلى الأبد ، فلابدّ للّيل أن ينجلي ولابدّ للطوق أن ينكسر . ولنعد ثانية إلى مجلس الإمام:
لقد اجتمعت أُمّة عظيمة في مجلس الإمام (عليه السلام) ، وكلام الإمام يفيد أنّ علمه بالغيب قد شاع في المدينة ، وأنّ الألسن تتناقل علم الإمام بالغيب ، وقطعاً كان الأمر قد بلغ المنصور . فما أحسن هذه الفرصة التي تجعل الإمام يتصدّى للدفاع عن نفسه فيستدلّ بمثل بسيط يقنعهم بعدم علمه بالغيب ، ولم يكن هنالك أعمق من ذلك المثال الذي اعتمده الإمام للقضاء على تلك الشائعة . أنّى للإمام العلم بالغيب وهو الذي عجز عن العثور على جارية في غرفة من غرف داره؟!
لاشكّ أنّ ذلك الكلام سيؤثّر كثيراً ويؤتي أُكله ، كما لاشكّ أنّ جلاوزة المنصور ـ الذين لم ينفكّوا عن تفتيش دار الإمام ـ سينقلون كلامه إلى المنصور
(الصفحة 180)
وسيسكن روعه وتهدأ فورته ، ثمّ يتاح المجال من جديد أمام الإمام لمواصلة دروسه ونشر علمه .
وبناءً على ما تقدّم فلم يبق لصدور تلك الرواية من محمل سوى التقيّة ، ولكن لم يبق لدى الإمام سوى الخواصّ من أصحابه وهم ليسوا بالمذاييع ، فلم يعد للخوف من سبيل ، فأبو بصير وصحبه ليسوا من أعوان المنصور ، بل هم من حملة العلم ورواة الحديث وفقهاء الإسلام ، والتحدّث إليهم وظيفة شرعية تأريخية لا تدع للتقيّة من شأن ، فيعمد الإمام هنا إلى إظهار مكنون علمه والإفصاح عن مقامه على ضوء القرآن ، فحقيقة علمه لا يعزب عنها صغير ولا كبير في هذا العالم فضلاً عن مكان تلك الجارية . وهو لا يستطيع الإتيان بتلك الجارية بحركة فحسب بل يسخّر العالم بأسره ، ما نفهمه من كلمات الإمام (عليه السلام) أنّه مطّلع على كافّة أصناف العلم ، وكيف لآصف بن برخيا الذي تجرّع قطرة من بحر علم الكتاب أن يفعل ما فعل ، ويغيب عن علم الإمام شيء وهو الذي يعوم في بحر علوم الكتاب ومحيطاته؟
وعلى ضوء هذا التحقيق والتأمّل في هذه الرواية التي تصرّح بعلم الإمام بكافّة الحوادث وتمتّعه بالقوّة والقدرة التامّة على فعل الأفاعيل ، فهل هنالك من ماء عكر يمهّد السبيل أمام بعض السذّج ممّن تأثروا بالوهابية للاصطياد فيه؟ وهل يسع أحد أن يقول لنا بعد ذلك: إنّكم من المغالين في شخصية الإمام؟ فهذا الإمام وقد عجز عن العثور على جاريته!
الدافع الثاني :
أمّا الدافع الثاني الذي أغضب الإمام وجعله ينفي عنه علم الغيب فهو قضية الإفراط أو التفريط والغلوّ أو الإنكار ، التي سيطرت على أغلب الأفراد تجاه الإمام ، وهذا ما يتوصّل إليه بسهولة من سياق الرواية ، في أنّ البعض قد أفرط
(الصفحة 181)
بالاعتقاد بعلم الإمام للغيب حتّى رآه أفضل من النبي (صلى الله عليه وآله) وبلغوا به حدّ الأُلوهية ، على الرغم من أنّ محور الإمامة كان يهدف إلى تحقيق التوحيد وإيصال الأُمّة إلى العبودية الحقّة ، فالإمام بمثّل العبودية الخالصة لله ، وجلّ سعيه هو ربط الأُمّة بمعبودها الأوحد وتطهيرها ممّا علق بها من الأوهام والخرافات ، وإلاّ فلو قدر للاُمّة أن تضلّ طريقها في تعاملها مع الإمام فإنّ جهوده ستذهب أدراج الرياح ، وهو الأمر الذي يأخذ مأخذه من الإمام ويجعل الغضب والتوتّر يسيطر على جميع كيانه ، فيبدو أنّ دافع الإمام من نفيه لعلم الغيب عن نفسه وحصره بالقادر العليم ، إنّما يهدف إلى تثبيت الهدف المقدّس المُتبلور في التوحيد وإزالة الأفكار المنحرفة تجاه شخصية الإمام .
ولم يكن هناك من سبيل أمام الإمام سوى التنازل عن واقعه ليعلم الجميع بأنّ الإمام الصادق (عليه السلام) إنسان كسائر الناس الذين نشأوا وترعرعوا في المدينة ، فهو ليس بملك هبط من السماء أو عيسى (عليه السلام) الذي حلّ فيه روح القدس ليصبح ابن الله!!!
وقد اعتمد الإمام الأسلوب العلمي في سبيل تهذيب أفكار الأُمّة ، فينفي عن نفسه العلم بالغيب ويقتصر بهذا الأمر على الله تبارك وتعالى . والأمر ليس ببدعة فهو يقتدي بالأُسلوب الذي نهجه القرآن ، الذي يقتصر علم الغيب بذات الله تعالى ، بينما يتوصّل إليه النبي (صلى الله عليه وآله) من خلال الوحي ، والإمام من خلال تعليم الرسول له إلى جانب الإلهامات الربانيّة والفيوضات الرحمانية التي توصله إليه .
ولا يستبعد أن يكون الإمام قد استهلّ كلماته بنفي علم الغيب الذاتي تقيّة ، في حين أوكل الحديث عن علمه بالغيب العرضي إلى مجلسه الذي يضمّ خواصّه وحملة أسراره ، فقد كشف لهم النقاب عن مدى علمه وقدرته ، ثمّ يسند ذلك لعلمه بالكتاب ، ومن المفروغ منه أنّ العلم بالكتاب لا يتسنّى دون المعلّم .
(الصفحة 182)
وبناءً على هذا التعليم والتعلّم من مصادر الغيب قد بلغ الإمام تلك الذروة من السموّ والكمال ، وعليه فليس هنالك من تناقض بين صدر الرواية وذيلها .
روايتان :
1 ـ قال جابر: قال الإمام الباقر (عليه السلام) : ما يستطيع أحد أن يدّعي أنّ عنده جميع القرآن كلّه ظاهره وباطنه غير الأوصياء(1) .
2 ـ قال عبدالأعلى مولى آل سام: سمعت أبا عبدالله (عليه السلام) يقول: «والله إنّي لأعلم كتاب الله من أوّله إلى آخره ، كأنّه في كفّي ، فيه خبر السماء وخبر الأرض وخبر ما كان وخبر ما هو كائن . قال الله عزّوجل: «فيه تبيان كلّ شيء(2)»(3) .
ملاحظة :
لا ينبغي أن يتبادر إلى الذهن بأنّ القرآن المتداول غير ذلك القرآن الذي كان آنذاك بيد الأئـمّة (عليهم السلام) ، وأنّ الروايات تؤيّد مسألة التحريف ، بل المقصود هذا القرآن مع كافّة التفسيرات والتأويلات والأسرار والمكنونات ، وقد كان ذلك القرآن الذي بيد أمير المؤمنين (عليه السلام) ، فالروايتان تُشيران إلى مطلبين ، هما:
1 ـ معنى أنّ علم الكتاب عند الأئمّة ، هو أنّ الأئـمّة (عليهم السلام) محيطون بالكتاب السماوي بجميع ما ينطوي عليه من حقائق وتأويل وتفسير .
2 ـ ما تتناقله الألسن وتؤيّده الروايات من أنّ الإمام عالم بما كان وما يكون ،
- (1) الكافي 1: 228 ح2 .
- (2) اقتباس من سورة النحل: الآية: 89 .
- (3) الكافي 1: 229 ح4 .
(الصفحة 183)
إنّما يعني أنّ الكتاب الذي يعتمده الأئـمّة (عليهم السلام) ينطوي على كافّة الحوادث الماضية والآتية وجميع الحقائق ، وأنّ علم الأئـمّة إنّما يستند في بعض عناصره إلى الإحاطة بهذا القرآن المفصّل .
تكرار وتذكير :
لقد تعرّفنا من خلال الأبحاث التي أوردناها في الروايات والآيات على علم الإمام (عليه السلام) ، ولعلّ تكرار الدليل ـ بصفته فهرسة للأُمور المذكورة سابقاًـ يمكنه أن يوضّح الجوانب العلمية للإمام بصورة أفضل . وإليك هذه الأدلّة:
الدليل الأوّل :
الدليل الأوّل على علم الإمام وإحاطته بالمغيّبات هو أنّ الزعيم الإسلامي ـ الإمام ـ هو الفرد الذي يستند إلى الغيب في زعامته ، فلابدّ أن تكون هناك صلة مباشرة له بمكنونات العالم وخفاياه وإفاضة الحقائق عليه ، فإن كان الزعيم هو النبيّ فالإفاضة بواسطة الوحي ، وإن كان الزعيم هو الإمام فبتعليم النبي أو الطرق الاُخرى كالإلهام والعلم بتفصيلات الكتاب السماوي ، والذي سيأتي بيانه قريباً . ويمكن الاستشهاد ببعض الآيات لإثبات هذا الأمر:
1 ـ
{إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ}(1) .
2 ـ
{رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِى مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِى مِن تَأْوِيلِ الاَْحَادِيثِ}(2) .
3 ـ
{وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ}(3) .
- (1) سورة النساء : الآية 105 .
- (2) سورة يوسف : الآية 101 .
- (3) سورة البقرة : الآية 251 .