(الصفحة 294)
خطرت على ذهن الإمام ، إلاّ أنّ هذه الفكرة ليست صحيحة ، فأبن بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد رأى بعينه بأنّ مسلم بن عقيل قد قُتل رغم استسلامه ، وعليه : فإذا استسلم هو قتل! فهل من سبيل سوى الدفاع عن النفس إلى آخر قطرة دم؟ أم يستسلم للقتل بهذه السهولة دون الدفاع عن نفسه!
إذن لو كان الإمام (عليه السلام) يرى خلاصه في الاستسلام لما قاتل! قاتل حيث لم يكن من سبيل سوى القتال! قاتل دفاعاً عن نفسه! ومرادنا من «الدفاع عن النفس» الذي يقول به مؤلّف «شهيد جاويد» هو هذا المعنى كما تثبته دراساته وتأمّلاته لحادثة كربلاء وقتال الإمام الحسين (عليه السلام) !!
ولا ندري أنردّ على هذه الترّهات أم نترك ذلك للإخوة القرّاء الأعزاء . ونرى أن نردّ عسى المؤلّف المحترم يتدارك ما فرط من أمره ويطهّر كتابه من تلك الشوائب . إلاّ أ نّنا سنردّ بصورة مختصرة .
هل للإمام أكثر من هدف ؟
ليس للإمام (عليه السلام) في نهضته أكثر من هدف ، واحد ، وهو إحياء الحقّ وإزهاق الباطل. بعبارة أُخرى: إحياء سيرة النبي وسنّته وإماتة البدع والشهوات التي تلاعبت بمصير المسلمين بإسم الدين ، وهذا ما جرى كِراراً ومِراراً على لسان الإمام في خطبه التي أوردها خلال حركته ، كانت نهضة الإمام (عليه السلام) تهدف إلى إيقاف الظالمين عند حدودهم وإزالة آثار الفساد والانحراف ، وإشاعة مفاهيم القرآن في الحلالوالحرام ، والوقوف بوجه الحكومات الجائرة من عبدة الأهواء والشهوات ، وإنقاذ المسلمين من براثن حكومة يزيد الفاجر ، هذا هو هدف الإمام .
ولتسليط المزيد من الضوء على هدف الإمام ، نرى من الضروري التعرّف على بعض خطب الإمام (عليه السلام) خلال المسيرة .
(الصفحة 295)
قال الإمام (عليه السلام) مخاطباً أصحابه وعسكر الحرّ في «البيضة»: «ألا وإنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان ، وتركوا طاعة الرحمن ، وأظهروا الفساد ، وعطّلوا الحدود ، واستأثروا بالفيء; وأحلّوا حرام الله وحرّموا حلاله ، وأنا أحقّ من غيّر . . . .»(1) .
وخطب في «ذي حُسم» فقال: «ألا ترون أنّ الحقّ لا يُعمل به ، وأنّ الباطل لايُتناهى عنه ، ليرغب المؤمن في لقاء الله محقّاً ، فإنّي لا أرى الموت إلاّ شهادة ولا الحياة مع الظالمين إلاّ برماً»(2) .
فقد اتّضحت بجلاء خلال هاتين الخطبتين دوافع النهضة ، وهدف الإمام منها ، فليس للإمام (عليه السلام) سوى هدف واحد ، ولم يخطّط سوى من أجل تحقيق هذا الهدف ، وخطّته قتال السلطة اليزيدية الحاكمة حتّى الموت ونيل الشهادة واختيار مجاورة الرحمن .
إذن ، فالهدف واحد ، والخطّة اللازمة لتحقيق هذا الهدف لابدّ أن تكون واحدة أيضاً ، وهي «القتال حتّى الشهادة» فالخطبتان كانتا إجابة لذلك السؤال .
وهنا يبرز هذا السؤال: لم تُسفر هذه الدراسة إلاّ عن نتيجة واحدة ، وهي أنّ هدف الإمام من هذه النهضة هو الوقوف بوجه الفساد والانحراف وإحياء سنّة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، إلاّ أنّ الإمام اعتمد ثلاثة مشاريع من أجل تحقيق هذا الهدف:
1) السيطرة على الحكومة ، 2) الصلح المشرِّف! ، 3) الدفاع !
فلو سيطر الإمام على الحكومة لظفر ببغيته ، وإلاّ فالصلح المشرِّف ، ثمّ إعادة تنظيم القوّة والاستعداد من جديد للقتال ، فإن لم يكن ذلك فالدفاع عن النفس حتّى نيل الشهادة . إذن فقد كان للإمام (عليه السلام) ثلاث خطط من أجل تحقيق هدف واحد ، ألا وهو إحياء السُنّة وإماتة البدعة .
- (1) تاريخ الطبري 4: 304 .
- (2) تاريخ الطبري 4: 305 .
(الصفحة 296)جواب:
هل من عبارة بشأن الصلح في خطب الإمام (عليه السلام) ؟ وهل يفكّر في الصلح ـ ولو بصورة موقّتة ـ من يقول: إنّ حكومة يزيد لزمت طاعة الشيطان وتركت طاعة الرحمن ، وأظهرت الفساد وعطّلت الحدود ، وأحلّت حرام الله وحرّمت حلاله؟ وأيّ صلح هذا؟ الصلح المشين! ولو قال هذا الإمام الهمام: أنا مستعدّ لأن أضع يدي بيد يزيد وأسلّم لكلّ ما يريد! فهل هذا صلح أم ذلّة؟ وهل يفكّر في الصلح كوسيلة لتحقيق الهدف من تصدح حنجرته «هيهات منّا الذلّة»؟
وبناءً على ما تقدّم من مفاد الخطبتين فإنّ الإمام كان قد عقد العزم على القتال حتّى الشهادة التي لا يراها إلاّ سعادة ، وعليه : فلم يعد هنالك من معنى ومفهوم للصلح في قاموس النهضة الحسينية .
الصلح المشرِّف !
إنّ الخطبتين المذكورتين وإن كانتا كافيتين لأن نقول ـ بصفتنا غلمان الحسين وجرياً على ما قاله غلامه عقبة بن سمعان ـ بأنّ نسبة مثل هذا الصلح إلى الإمام كذب محض ، مع ذلك نقف أكثر عند هذا الصلح لنؤدّي وظيفتنا كغلمان للإمام الحسين (عليه السلام) . لا ندري لِمَ اصطلح المؤلّف على الاستسلام دون قيد أو شرط بالصلح المشرِّف ، فهل الاقتراحات الثلاث ـ التي استندتَ فيها إلى الطبري ولم يسمح لك كذبها وزيفها بذكرها تعني استسلام الإمام (عليه السلام) ليزيد ليفعل ما يحلو له؟
فهل للإمام أن يُصالح من ينعته بشارب الخمور والمتجاهر بالفسق وناهب بيت المال وعبد الشيطان والمشرِّع لما يخالف القرآن؟ وهل هذا صلح مشرِّف!
وهل يتقدّم الإمام (عليه السلام) إلى مثل هذا الصلح وهو القائل: أُريد أن آمر بالمعروف
(الصفحة 297)
وأنهى عن المنكروأسير بسيرة جدّي رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأبي عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) (1)؟ وهل يعقل أن يُصالح الإمام (عليه السلام) من يتفوّه .
- لعبت هاشم بالملك
لعبت هاشم بالملك
-
فلا خبر جاء ولا وحي نزل(2)
فلا خبر جاء ولا وحي نزل(2)
وهو يهدّد بالقضاء على الدين والقرآن والمسلمين ومحمّد (صلى الله عليه وآله) ؟
نحن لا نرى معقولية صدور مثل هذا الصلح عن الإمام ، ونسأل من يقول: إنّ الإمام أراد أن يدّخر القوى ليوظّفها في المستقبل بما ينفع الإسلام . أيّ قوى هذه؟ هل المراد بها القوى التي واكبت الإمام في مسيرته إلى كربلاء بما فيها النساء والصبية والكهول كمسلم بن عوسجة وحبيب بن مظاهر؟ أم قوّات الكوفة الشعبية! الكوفة التي يشهد المؤلّف بأنّها واقعة في قبضة عبيدالله ، أم القوّات التي ستتشكّل لاحقاً؟
وهل هنالك من أمل في تشكيل قوّات من شأنها القتال في سبيل الله إلى جانب الإمام بعد انسحابه إلى أحد الثغور ـ طبق البند الثالث المقترح ـ وذلك الضغط الشديد والهوّة بين الإمام والاُمّة واليأس والسيطرة التامّة لعبيد الله بن زياد على العراق ، الذي يمثِّل مركز ثقل أنصار أهل البيت (عليهم السلام) ؟ والإمام يستريح قليلا ويلتقط أنفاسه ويضع يده بيد يزيد ويتنزّه في قصوره الفخمة ريثما تنتظم القوّات الشعبية فيشنّ حملته ضدّ حكومة يزيد! هل هذه التصوّرات معقولة؟ وهل يفكّر مصباح الهدى ـ الإمام ـ بهذه الطريقة وليتوصّل بالتالي إلى «الصلح الاضطراري»؟
نعم ، هذا ليس بصلح معقول ولايمكن نسبته إلى ابن بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) والاصطلاح عليه بالصلح المشرِّف . وبغضّ النظر عمّا مضى فهل من سند لهذا الصلح المقترح؟
- (1) بحار الأنوار 44: 329 ـ 330 .
- (2) تقدّم في ص 207.
(الصفحة 298)
نعم ، سنده الكامل لابن الأثير وتأريخ الطبري ، أمّا عبارة الكامل فهي: «ثمّ بعث الحسين إلى عمر بن سعد عمرو بن قرظة أن القني الليلة بين عسكري وعسكرك، فخرج إليه عمر فاجتمعا وتحادثا طويلاً وقد استغرقت المفاوضات السرّيّة للطرفين وقتاً طويلا ، وكثر حديث الناس ، فكان الظنّ الغالب هو أنّ الإمام طلب من عمر بن سعد نصرته . . . نعم ، لقد ظنّت الأكثرية ذلك ، وهنا قال فرد مجهول: لا ، فقد اقترح الإمام على عمر ثلاث مقترحات على أن يقبل أحدها» فهل لنقل ابن الأثير هذا سند؟ وهل يعتمد نفس ابن الأثير على نقل فرد مجهول غير معروف ظنّ أنّ اقتراح الإمام (عليه السلام) على عمر كان ذلك الصلح المشرّف ، ولمزيد من الاطمئنان نورد عبارة الكامل حيث قال:
«وقيل: بل قال له: اختاروا منّي واحدة من ثلاث: إمّا أن أرجع . . . وإمّا أن أضع يدي في يد يزيد . . . وإمّا أن تسيروا بي إلى أيّ ثغر . . .»(1) .
ويلتفت أهل العلم إلى أنّ نقل حديث الشخصيات العلمية أو التأريخية أو السياسية لا يقال فيه أبداً «قيل» بل يقال: «قال» ، وإذا ذكر في موضع كلمة «قيل» فإنّ ذلك دليل على عدم الاعتناء بحديثه وأنّه مجهول بحيث لا يذكر اسمه ، ولـمّا عبّر ابن الأثير بـ «قيل» فإنّ الشخص الذي ظنّ أنّ حديث الإمام (عليه السلام) مع عمر بن سعد كان يتمثّل بالاقتراحات الثلاث ممّن لا يمكن الاعتماد على ظنّه والاعتناء بحديثه ، ولا يمكن أن يحظى باهتمام حتّى مؤلّف كتاب الكامل فضلا عن الباحثين والمحقّقين .
وبغضّ النظر عن هذا ، ألم يكذّب عقبة بن سمعان ـ الغلام الخاصّ للإمام (عليه السلام) ـ هذا الاقتراح ، وقد نقل عنه الطبري والكامل أنّه قال: فوالله ما أعطاهم ما يتذاكر الناس أ نّه يضع يده في يد يزيد ولا أن يسيّره إلى ثغر من ثغور المسلمين...(2) .
- (1) الكامل لابن الأثير 4: 54 .
- (2) الكامل لابن الأثير 4: 54، تاريخ الطبري 4: 313 .