(الصفحة 108)
ولا ينبغي أن يفهم من كلمة «وروي» التي أوردها الشيخ في الرواية عن الصادق (عليه السلام) توحي بعدم الوثوق بها ; لأنّ كلّ من له معرفة بتفسير التبيان ، يعلم أ نّ عصر الشيخ (رحمه الله) كان يقتضي مثل هذه التعبيرات في الروايات المعتبرة ، فقد كان يحتاط ويفهم الآخرين بعدم انطواء تفسيره على التعصّب ، ولذلك كان يتعرّض في تفسيره إلى أقوال العامّة ويحاكمها بأُسلوب علمي رصين بعيداً عن التعصّب .
أمّا الرواية الأُخرى التي تؤيّد ذلك ، فما ورد في تفسير نور الثقلين عن عيون الأخبار ، أنّ شاميّاً قد سأل أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في مسجد الكوفة عدّة أسئلة ومنها: «يا أمير المؤمنين أخبرني عن يوم الأربعاء وتطيّرنا منه وثقله وأيّ أربعاء هو؟ قال: آخر أربعاء في الشهر وهو المحاق ، وفيه قتل قابيل هابيل أخاه ـ إلى أن قال : ـ ويوم الأربعاء أخذت العمالقة التابوت (1). فالرواية واضحة بأنّ التابوت كان بيد العمالقة(2) ، إلاّ أنّه كان في السماء واستعاده طالوت .
زبدة الكلام:
اتّضح من هذه الآيات ـ مع الأخذ بنظر الاعتبار المؤيّدات والروايات ـ أنّ الزعامة من وجهة نظر القرآن قائمة على أساس بعض الشرائط ، فالزعيم لابدّ أن يمتلك العلم والتجارب المريرة في الحياة ، لابدّ أن يكون ذا قدرة بدنية تؤهّله لإدارة
- (1) تفسير نور الثقلين 2: 374 ، نقلاً عن عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 1: 247 .
- (2) نتيجة التحقيقات التي أوردناها تفيد بما لا يقبل الشك أنّ التابوت كان بيد العمالقة وجلاوزة جالوت الطاغي ، ولعلّه يقال: لم يأت طالوت بالتابوت ، بل كان ذلك آية وقعت قبل التأهّب للقتال ودليل من أجل تقبّل إمرة طالوت ، أي أنّ الله جعل الإتيان بالتابوت آية لزعامة وإمرة طالوت حتّى تنصاع الأُمّة لأوامره ، وربّما كانت علاقة الحكم بالموضوع تتفق وهذا الأمر ، وذلك لأنّه ما لم يكن هناك اطمئنان لزعامة طالوت ، سوف لن يكون هناك تأهّب للقتال ، وعليه فمن الضروري حصول هذه الآية ابتداء ، وهذا لا يتنافى وعظمة التابوت من وجهة نظر بني إسرائيل ، ولا يخدش المراد بقضية الإمامة استناداً للآيات الشريفة .
(الصفحة 109)
شؤون الحكومة والحفاظ على استقلال البلاد ، وما إلى ذلك من الشرائط والمقومّات التي ذكرناها كراراً ومراراً .
ولكن قد يبرز هنا هذا السؤال:
سؤال :
أوّلا :
لقد ذكر القرآن الكريم هذه الشرائط بالنسبة للقيادة العسكرية ، أي أنّ قائد الجيش ينبغي أن يكون صاحب رأي سديد ومقتدر وذا قوّة بدنيّة وعالماً بفنون القتال . وليس في هذه الشرائط ما يدعو للغرابة ، فجميع العُقلاء والمفكّرين يتفقون على هذا الأمر ، إلاّ أنّ البحث كان في الإمامة . فكيف يستدلّ عليها بهذه الآيات؟
ثانياً :
القصّة واردة في بني إسرائيل وزعامة طالوت في ذلك الزمان ، فكيف يمكن تعميمها لتشمل زعماء الإسلام في أنّه لابدّ أن يكونوا جامعين لهذه الشرائط؟ وإلاّ للزم من ذلك أن نقول بكلّ شرط إلهي ورد في زعامة موسى وأمثاله ، بالنسبة لزعماء وأئمّة الإسلام!
جواب :
يمكن طرح هذا السؤال بصيغتين:
1 ـ هل أنّ شرائط الإمامة في بني إسرائيل ذاتها في الإسلام ، وكلّ شرط للزعامة في بني إسرائيل لابدّ أن نراه شرطاً في الإسلام أيضاً؟
2 ـ تنطوي إمرة الجيش على بعض الشرائط الطبيعية والعقلائية ، وهذا ما أشارت إليه الآيات الكريمة ، فهل الإمامة كذلك في أنّها تتوقّف على الموازين العُقلائية والطبيعية؟ أم أنّ تلك القيود مختصّة بقائد الجيش ، فمثلا قائد الجيش لابدّ
(الصفحة 110)
أن يكون ذا قدرة بدنية وإحاطة بفنون الحرب والقتال ، فلم يكن طالوت على ضوء الآية أكثر من قائد للجيش .
للردّ على السؤال الأوّل نقول:
النقطة الأُولى : أنّ أُصول الأديان واحدة من حيث البنية العقائدية ، وليس هنالك من دين ناسخ لآخر من هذه الناحية ، فنسخ أُصول الدين ليس بمعقول ، ولمّا كان الكلام عن النسخ ، لا بأس ببحث هذه المسألة لتتضّح حقيقة الموضوع .
النسخ :
النسخ يعني إزالة الشيء واستبداله بآخر بحيث يحلّ الثاني بدل الأوّل ، فالعرب تقول: «نسخت الشمس الظلّ» و «نسخ الشيب الشباب»(1) .
وعليه فهناك أمران معتبران في مفهوم النسخ إلى جانب إزالة المنسوخ ، وهما:
1 ) اعتبار ما يحلّ محلّ المنسوخ .
2 ) اعتبار النقل والتبديل .
ويؤيّد ما ذهبنا إليه استعمال كلمة «المناسخة» في باب الإرث ، فكلّما مات وارث وحلّ محلّه وارث آخر ، أو مات هذا الثاني وحلّ مكانه ثالث استعملت لفظة المناسخة بهذا الشأن ، ونلاحظ هنا بأنّ وارثاً قد خلّف وارثاً آخر ، وقد حدث انتقال وتبديل في الإرث من يد إلى أُخرى . وقد عبّر القرآن بالتبديل عن نسخه بعض الأحكام والآيات ، فقد قالت الآية الشريفة:
{وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَة وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَر بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}(2) . فالآية الثانية تزيل الاُولى وتحلّ محلّها ، وهذا هو النسخ .
- (1) انظر التبيان في تفسير القرآن 1: 393، مجمع البيان 1: 300 .
- (2) سورة النحل : الآية 101 .
(الصفحة 111)
وعلى كلّ حال ، في القرآن الكريم آيات ناسخة لآيات أُخرى ، والآية المنسوخة باقية على حالها مدوّنة في القرآن ، والنسخ لا يعني إزالة صورتها من كونها آية ، فهي باقية ومحفوظة من حيث النزول ، ولكن لم يعدّ لها من أثر ، وفقدان الشيء لأثره يعني في الواقع زواله وتساوي وجوده وعدمه . . .
إذن ، فالنسخ لا يعني شيئاً أكثر من زوال الأثر . وبعبارة أوضح: فإنّ نسخ الآية هو عبارة عن إزالة حكمها واستبداله بحكم الآية الثانية «الناسخة» . ونخلص من هذا إلى أنّ نسخ الآيات إنّما يقتصر على الآيات المتعلّقة بالأحكام ، ولا يسري هذا النسخ أبداً إلى الآيات التي تتعرّض إلى الحقائق المسلّمة التي لا يعتريها التغيير . أفيمكن تصوّر النسخ بحقّ الآية الشريفة
{اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَىُّ الْقَيُّومُ}؟ أو يمكن زوال الحقائق الثابتة والدائمة؟
ولمّا كانت الأديان واحدة في العقائد ، وقد نهض جميع الأنبياء بمهمّة هداية الاُمم لهذه العقائد ، فإنّه يمكننا القول بأنّه ليس هنالك من دين ينسخ آخر من حيث الاُصول العقائدية ، فالاعتقاد بالله والثواب والعقاب والحساب وصفات الجمال والكمال إنّما هي من الحقائق المسلّمة التي تأبى التغيير والزوال ، ولذلك فإنّ النسخ إنّما يكون في الشرائع .
وبعبارة أُخرى : لابدّ من الإذعان بأنّ الدين الإسلامي ليس بناسخ لنبوّة ورسالة من كان قبله من الأنبياء ، بل القرآن ناسخ لشرائع سائر الأنبياء ، فهذا القرآن لا ينفكّ يؤكّد أنّ الكتاب السماوي الإسلامي
{مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ}(1)
{مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ}(2) .
{مُصَدِّقُ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ}(3) .
{مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ}(4)
- (1) سورة البقرة : الآية 89 ، 101 .
- (2) سورة آل عمران : الآية 81 .
- (3) سورة الأنعام: الآية 92 .
- (4) سورة البقرة : الآية 41 ; سورة النساء : الآية 47 .
(الصفحة 112)
{مُصَدِّقاً لِمَا مَعَهُمْ} (1) ، و
{مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ . . .}(2) .
ولكن لا ينبغي أن نغفل عن قضية ، وهي أنّ كلّ ما يقوله موسى وعيسى (عليهما السلام) بالنسبة لله ، يقوله خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله) ، فالجميع يصفون الله بأنّه حكيم وقدير وعليم وسميع ، غير أنّ أُسلوب الأنبياء يختلف في معرفة حقيقة كون الله حكيماً وسميعاً وعليماً و . . . لأنّ أتباع الرسل يختلفون في درجة الفهم والإدراك ، بل حتّى الأنبياء يختلفون في مدى إدراكهم لجميع المغيّبات
{تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْض}(3) .
فالأُمّة الإسلامية قد بلغت آخر مراحل الفهم والإدراك ، ومن الطبيعي أن تكون الحقائق التي تطرح على هذه الأُمّة متعذّرة الفهم والإدراك على الاُمم الماضية ، وأنّ الحقائق والإدراكات والأنوار التي أفاضها الله على النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) لايسع سائر الأنبياء تحمّلها واستيعابها .
فالحقائق في كافّة الأديان واحدة ، غير أنّ طرق التعرّف عليها متشعّبة ، وكلّما تطوّرت العلوم والمعارف تعمّق هذا الفهم والإدراك بالنسبة للحقائق ، ولذلك يمكن القول بأنّ محمّد (صلى الله عليه وآله) قد سلك آخر مراحل التوحيد ، وللاُمّة الإسلامية فقط وبفضل التطوّر العلمي الذي تشهده أن تبلغ ما تشاء من الدرجات ، فقد فتح الإسلام الباب على مصراعيه أمام أتباعه ، ولا يسعنا هُنا أن نخوض أكثر في هذا المجال .
وعلى كلّ حال تتفق كافّة الأديان في أُصولها العقائدية ، وليس هناك من نسخ بهذا الخصوص .
والإمامة والزعامة جزء من أُصول الأديان ، حتّى أنّنا قلنا بأنّ الأنبياء إنّما
- (1) سورة البقرة : الآية 91 .
- (2) سورة المائدة : الآية 46 .
- (3) سورة البقرة : الآية 253 .