(الصفحة 195)
صدّق صدّقناه يوم القيامة ، ومن كذّب كذّبناه يوم القيامة»(1) ، فإذا أنكر منكر عمله ، نادوه: صه فقد كنّا مطّلعين على عملك ، كما علمنا بأنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) ربيب الوحي قد أفاض عليهم علومه مضافاً إلى ما خصّهم الله به من عنايته وفضله وأفاض عليهم من لطفه ورحمته .
كانت هذه نماذج من علم الإمام ، والقرآن هو الشاهد على هذه العلوم ، ولنا الآن أن نلتمس سبل هذه العلوم دون اللجوء إلى أقوال تلامذة الوحي ، فما مصدر علم الإمام؟
المعلّم الأوّل :
لقد ذكرنا خلال الأبحاث السابقة أنّ النبيّ أو الإمام لا يدرك جميع الأشياء بنبوّته أو إمامته ، بل هم لا يستغنون في كلّ آن عن الفيض الإلهي ، فالنبوّة والإمامة لا تجعله بمجرّدها عالماً بكلّ شيء .
إذن ، فهذا العلم الجمّ الذي يملكه الإمام لابدّ أن يكون قد تعلّمه في مدرسة ، وقد مرّ علينا أنّ الإفاضة هي وسيلة الإمام في علمه ، فالله هو الذي يفيض ويتلطّف بأئمة الدين زعماء المسلمين ، وقد قلنا بأنّه يحكم بما يريه الله
{لِتَحْكُمَ بِيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ}(2) ، وأنّهم بعناية الله صفوة عابدة مخلصة عالمة بالكتاب
{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا . . .}(3) ، وبيّنا أيضاً بأنّ يوسف كان مُنَصَّباً من قِبَل الله رغم نهوضه بأمر دون الزعامة العامّة ، وأنّه معلَّم منه:
{وَعَلَّمْتَنِى مِنْ تَأْوِيلِ الاَْحَادِيثِ}(4) .
- (1) الكافي 1: 190 باب أنّ الأئمّة شهداء الله عزّوجلّ على خلقه ح2 .
- (2) سورة النساء: الآية 105 .
- (3) سورة فاطر: الآية 32 .
- (4) سورة يوسف: الآية 101 .
(الصفحة 196)
والذي نريد أن نخلص إليه هو أنّ المعلّم الأوّل للإمام هو العليم المطلق ، وما ذلك إلاّ لإخلاصه وتسليمه وانقياده المطلق للحقّ ، فيحظى بالعناية الإلهية و الفضل الربّاني ليتغلّب على ما يعترضه في مسيرته من حوادث وأحداث .
المعلّم الثاني:
المعلّم الثاني للإمام هورسول الله (صلى الله عليه وآله) ،فقدقلناسابقاًبأنّ دعوة إبراهيم وإسماعيل كانت لأجل ظهورصفوة صالحة في ذرّيّتهم تتربّى في مدرسة الرسالة ، وكانت نتيجة الدعوة أن تولّى رسول الله (صلى الله عليه وآله) بشخصه تعليم علي (عليه السلام) وتربيته منذ نعومة أظفاره . وقد صرّحت بذلك آيات سورة البقرة
{وَإِذْ يَرْفَعُ إِبرَاهِيمُ . . . .} (1). وهو ما أشار إليه الإمام الصادق (عليه السلام) استناداً إلى الآية ، فقال: «لم يعلّم الله محمّداً (صلى الله عليه وآله) علماً إلاّ وأمره أن يعلّمه علياً (عليه السلام) »(2) . وبناءً على ما تقدّم فالنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) هو المعلّم الثاني للإمام .
الإمام الصادق (عليه السلام) وعلم الإمام:
سأل الحارث بن المغيرة الإمام الصادق (عليه السلام) عن مصدر علم الإمام ، فأجاب (عليه السلام) : «وراثة من رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومن عليّ (عليه السلام) » . فقال الحارث: إنّا نتحدّث أنّه يقذف في قلوبكم وينكت في آذانكم (صلى الله عليه وآله) ، قال (عليه السلام) : «أو ذاك»(3) .
أي أنّ الإمام ملهم وتلميذ مدرسة النبي (صلى الله عليه وآله) والإمام علي (عليه السلام) ، وقد مرّ(4) علينا قول الباقر (عليه السلام) أنّ الإمام يسمع الصوت ولا يرى ولا يعاين الملك»(5) .
- (1) سورة البقرة: الآية 127 .
- (2) الكافي 1: 263 باب أنّ الله عزّوجلّ لم يعلّم نبيّه علماً إلاّ أمره . . . ح1 .
- (3) الكافي 1: 264 باب جهات علوم الأئمّة (عليهم السلام) ح2 .
- (4) في ص 167 .
- (5) الكافي 1: 176 باب الفرق بين الرسول والنبيّ والمحدّث ، ح1 .
(الصفحة 197)القرآن وعلم الإمام (عليه السلام) :
أمّا أفضل طرق علم الإمام فالقرآن الكريم ، وقلنا: إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) مكلّف بتعليم أئـمّة الإسلام ، وبالطبع فقد اقتصر هذا التعليم المباشر على أمير المؤمنين (عليه السلام) ، إلاّ أنّنا نعلم بأنّ القرآن الذي جمعه الإمام (عليه السلام) لم يقتصر على الكتاب المُنزل ، بل ضمّ إليه جميع الأسرار القرآنية والتفسير والتأويل وأسباب النزول وكافّة الأحكام ، فقد كان علي (عليه السلام) يسطّر ما يتلو عليه النبي (صلى الله عليه وآله) ، وأنّ هذا القرآن كانت تتناقله الأئـمّة دون أن تصل إليه يد الآخرين ، وهو الآن بيد قائم آلم محمّد (صلى الله عليه وآله) إمام العصر والزمان .
ومن هنا تتبيّن أهمّية وعظمة هذا الكتاب الذي انطوى على جميع الحقائق والأحكام وأسرار القرآن ـ الأعم من التأويل والتنزيل ـ والذي أملاه رسول الله (صلى الله عليه وآله) على أمير المؤمنين (عليه السلام) ولم تصل إليه يد عامّة الأُمّة ، وكيف أنّه يتجاوز المكنونات والمجهولات ؟!
هذه نبذة من الطرق التي تكشف عن علم الإمام وإحاطته بالمجاهيل ، ومن أراد المزيد فليراجع كتاب أصول الكافي لثقة الإسلام الكليني ، أو كتب عُلماء الكلام بهذا المجال ليقف من خلال الأحاديث والأخبار على مصادر علم الإمام (عليه السلام) .
أسئلة وأجوبة :
طرحت عدّة أسئلة في المباحث السابقة من قبيل :
1 ـ هل للإمام (عليه السلام) علم بالغيب أم لا؟
الجواب: نعم ، هو عالم بالغيب ، ولكن من خلال الوحي أو الإلهام أو شرح الله لصدرهم بما يزيل عنهم الحُجب فينظرون إلى حقائق الأشياء ، وهذا العلم الجمّ من
(الصفحة 198)
لوازم الزعامة الخالدة ، ولابدّ للحاكم الإسلامي من الإستناد إلى الغيب في حكومته .
2 ـ هل مجرّد بلوغ النبوّة أو الإمامة يجعلهم يدركون الغيب؟
الجواب : كلاّ ، فانّ مجرّد الإمامة لا تستلزم هذا الأمر ، فهم مقيّدون لا يعلمون دون عناية الحقّ ولطفه ، إلاّ أنّ سنّة الله جرت في أنّ أئـمّة الإسلام أن يحيطوا بكافّة الأسرار بفضل الإفاضة الرحمانية .
3 ـ هل تنحصر علوم زعماء الدين وأئـمّة المسلمين في إطار القرآن وأحكام الإسلام دون الحوادث الواقعة ومصير المسلمين ومستقبل الإسلام؟
الجواب : أفادت الدراسات والأبحاث السابقة أنّ علم الإمام لا ينحصر بالقرآن وأحكام الإسلام ، ولابدّ أن يحيط الزعيم بالحوادث ولاسيّما تلك المرتبطة بكيان الإسلام والمجتمع الإسلامي .
4 ـ هل الأئـمّة (عليهم السلام) عالمون بما كان وما يكون؟
الجواب : أشرنا باختصار إلى هذا الأمر ، وقد أوضحته الروايات التي صرّحت بأنّ عندهم المصحف بإملاء رسول الله (صلى الله عليه وآله) وخطّ أمير المؤمنين (عليه السلام) ، والذي يحتوي على جميع الحقائق والأسرار واُمور التأويل والتنزيل كما ورد في القرآن الكريم:
{تِبْيَاناً لِكُلِّ شَىْء}(1) فلابدّ من الإذعان بأنّهم عالمون بما كان وما يكون . ولا نرى المقام يسع للخوض في بيان المقصود بما كان وما يكون .
5 ـ هل علم الإمام (عليه السلام) بالأشياء حضوريّ ، أم حصولي؟
الجواب : لا نرى من جدوى في إطالة الكلام بهذا الشأن رغم إصرار البعض في مؤلّفاتهم على أنّ علم الإمام حضوري ، فما عند الإمام من العلم هو الإفاضة والعناية ،ومايهمّناهوالتأكّدمن علمه مهماكانت كيفيّته ما لم يستلزم أمراً غير معقول .
- (1) سورة النحل : الآية 89 .
(الصفحة 199)العلم الشائي :
هذا اصطلاح أورده علماء الكلام في أنّ الإمام (عليه السلام) عالم بكلّ شيء ولكن بالعلم الشائي ، أي متى شاء علم وإلاّ فلا . وبعبارة اُخرى : فإنّ عنان العلم بيد الإمام بمجرّد أن يريد العلم يعلمه .
ولا ندري من أين لعلماء الكلام هذا الاعتقاد ، وكيف يستدلّون عليه؟ فإن كان الدليل الأخبار ، فإنّنا تتبّعنا الأخبار التي اعتبرت العلم متوقّفاً على المشيئة ، فإذا هي ثلاثة أخبار في اُصول الكافي ـ التي تهتمّ بمثل هذه الأحاديث والأخبار ـ وهي لا تنفع المتكلّمين بهذا الشأن .
إيضاح :
هنالك أمران ينبغي توفّرهما من أجل صحّة الاحتجاج والاستدلال بأيّة رواية ، وهما:
1 ـ الوثوق بصدور الرواية عن الإمام (عليه السلام) .
2 ـ دلالة نصّ الحديث على المُراد بصورة واضحة ولو من بعض القرائن .
وممّا يؤسف له أنّ الروايات الواردة بهذا الشأن في باب «أنّ الأئـمّة عليهم السلام إذا شاؤوا أن يعلموا علموا» ليست أكثر من ثلاث ، وهي تفتقر إلى السند وإلى الدلالة التي قال بها بعض المتكلّمين ، بل يمكن القول بأنّها روايتان ; لأنّ رجال السند بعد ابن مسكان متحد في روايتين ، وينتهي السند إلى أبي ربيع الشامي الذي روى عن الصادق (عليه السلام) .
عبارة الرواية الأُولى: «إنّ الإمام إذا شاء أن يعلم علم»(1) بينما عبارة الرواية