(الصفحة 196)
والذي نريد أن نخلص إليه هو أنّ المعلّم الأوّل للإمام هو العليم المطلق ، وما ذلك إلاّ لإخلاصه وتسليمه وانقياده المطلق للحقّ ، فيحظى بالعناية الإلهية و الفضل الربّاني ليتغلّب على ما يعترضه في مسيرته من حوادث وأحداث .
المعلّم الثاني:
المعلّم الثاني للإمام هورسول الله (صلى الله عليه وآله) ،فقدقلناسابقاًبأنّ دعوة إبراهيم وإسماعيل كانت لأجل ظهورصفوة صالحة في ذرّيّتهم تتربّى في مدرسة الرسالة ، وكانت نتيجة الدعوة أن تولّى رسول الله (صلى الله عليه وآله) بشخصه تعليم علي (عليه السلام) وتربيته منذ نعومة أظفاره . وقد صرّحت بذلك آيات سورة البقرة
{وَإِذْ يَرْفَعُ إِبرَاهِيمُ . . . .} (1). وهو ما أشار إليه الإمام الصادق (عليه السلام) استناداً إلى الآية ، فقال: «لم يعلّم الله محمّداً (صلى الله عليه وآله) علماً إلاّ وأمره أن يعلّمه علياً (عليه السلام) »(2) . وبناءً على ما تقدّم فالنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) هو المعلّم الثاني للإمام .
الإمام الصادق (عليه السلام) وعلم الإمام:
سأل الحارث بن المغيرة الإمام الصادق (عليه السلام) عن مصدر علم الإمام ، فأجاب (عليه السلام) : «وراثة من رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومن عليّ (عليه السلام) » . فقال الحارث: إنّا نتحدّث أنّه يقذف في قلوبكم وينكت في آذانكم (صلى الله عليه وآله) ، قال (عليه السلام) : «أو ذاك»(3) .
أي أنّ الإمام ملهم وتلميذ مدرسة النبي (صلى الله عليه وآله) والإمام علي (عليه السلام) ، وقد مرّ(4) علينا قول الباقر (عليه السلام) أنّ الإمام يسمع الصوت ولا يرى ولا يعاين الملك»(5) .
- (1) سورة البقرة: الآية 127 .
- (2) الكافي 1: 263 باب أنّ الله عزّوجلّ لم يعلّم نبيّه علماً إلاّ أمره . . . ح1 .
- (3) الكافي 1: 264 باب جهات علوم الأئمّة (عليهم السلام) ح2 .
- (4) في ص 167 .
- (5) الكافي 1: 176 باب الفرق بين الرسول والنبيّ والمحدّث ، ح1 .
(الصفحة 197)القرآن وعلم الإمام (عليه السلام) :
أمّا أفضل طرق علم الإمام فالقرآن الكريم ، وقلنا: إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) مكلّف بتعليم أئـمّة الإسلام ، وبالطبع فقد اقتصر هذا التعليم المباشر على أمير المؤمنين (عليه السلام) ، إلاّ أنّنا نعلم بأنّ القرآن الذي جمعه الإمام (عليه السلام) لم يقتصر على الكتاب المُنزل ، بل ضمّ إليه جميع الأسرار القرآنية والتفسير والتأويل وأسباب النزول وكافّة الأحكام ، فقد كان علي (عليه السلام) يسطّر ما يتلو عليه النبي (صلى الله عليه وآله) ، وأنّ هذا القرآن كانت تتناقله الأئـمّة دون أن تصل إليه يد الآخرين ، وهو الآن بيد قائم آلم محمّد (صلى الله عليه وآله) إمام العصر والزمان .
ومن هنا تتبيّن أهمّية وعظمة هذا الكتاب الذي انطوى على جميع الحقائق والأحكام وأسرار القرآن ـ الأعم من التأويل والتنزيل ـ والذي أملاه رسول الله (صلى الله عليه وآله) على أمير المؤمنين (عليه السلام) ولم تصل إليه يد عامّة الأُمّة ، وكيف أنّه يتجاوز المكنونات والمجهولات ؟!
هذه نبذة من الطرق التي تكشف عن علم الإمام وإحاطته بالمجاهيل ، ومن أراد المزيد فليراجع كتاب أصول الكافي لثقة الإسلام الكليني ، أو كتب عُلماء الكلام بهذا المجال ليقف من خلال الأحاديث والأخبار على مصادر علم الإمام (عليه السلام) .
أسئلة وأجوبة :
طرحت عدّة أسئلة في المباحث السابقة من قبيل :
1 ـ هل للإمام (عليه السلام) علم بالغيب أم لا؟
الجواب: نعم ، هو عالم بالغيب ، ولكن من خلال الوحي أو الإلهام أو شرح الله لصدرهم بما يزيل عنهم الحُجب فينظرون إلى حقائق الأشياء ، وهذا العلم الجمّ من
(الصفحة 198)
لوازم الزعامة الخالدة ، ولابدّ للحاكم الإسلامي من الإستناد إلى الغيب في حكومته .
2 ـ هل مجرّد بلوغ النبوّة أو الإمامة يجعلهم يدركون الغيب؟
الجواب : كلاّ ، فانّ مجرّد الإمامة لا تستلزم هذا الأمر ، فهم مقيّدون لا يعلمون دون عناية الحقّ ولطفه ، إلاّ أنّ سنّة الله جرت في أنّ أئـمّة الإسلام أن يحيطوا بكافّة الأسرار بفضل الإفاضة الرحمانية .
3 ـ هل تنحصر علوم زعماء الدين وأئـمّة المسلمين في إطار القرآن وأحكام الإسلام دون الحوادث الواقعة ومصير المسلمين ومستقبل الإسلام؟
الجواب : أفادت الدراسات والأبحاث السابقة أنّ علم الإمام لا ينحصر بالقرآن وأحكام الإسلام ، ولابدّ أن يحيط الزعيم بالحوادث ولاسيّما تلك المرتبطة بكيان الإسلام والمجتمع الإسلامي .
4 ـ هل الأئـمّة (عليهم السلام) عالمون بما كان وما يكون؟
الجواب : أشرنا باختصار إلى هذا الأمر ، وقد أوضحته الروايات التي صرّحت بأنّ عندهم المصحف بإملاء رسول الله (صلى الله عليه وآله) وخطّ أمير المؤمنين (عليه السلام) ، والذي يحتوي على جميع الحقائق والأسرار واُمور التأويل والتنزيل كما ورد في القرآن الكريم:
{تِبْيَاناً لِكُلِّ شَىْء}(1) فلابدّ من الإذعان بأنّهم عالمون بما كان وما يكون . ولا نرى المقام يسع للخوض في بيان المقصود بما كان وما يكون .
5 ـ هل علم الإمام (عليه السلام) بالأشياء حضوريّ ، أم حصولي؟
الجواب : لا نرى من جدوى في إطالة الكلام بهذا الشأن رغم إصرار البعض في مؤلّفاتهم على أنّ علم الإمام حضوري ، فما عند الإمام من العلم هو الإفاضة والعناية ،ومايهمّناهوالتأكّدمن علمه مهماكانت كيفيّته ما لم يستلزم أمراً غير معقول .
- (1) سورة النحل : الآية 89 .
(الصفحة 199)العلم الشائي :
هذا اصطلاح أورده علماء الكلام في أنّ الإمام (عليه السلام) عالم بكلّ شيء ولكن بالعلم الشائي ، أي متى شاء علم وإلاّ فلا . وبعبارة اُخرى : فإنّ عنان العلم بيد الإمام بمجرّد أن يريد العلم يعلمه .
ولا ندري من أين لعلماء الكلام هذا الاعتقاد ، وكيف يستدلّون عليه؟ فإن كان الدليل الأخبار ، فإنّنا تتبّعنا الأخبار التي اعتبرت العلم متوقّفاً على المشيئة ، فإذا هي ثلاثة أخبار في اُصول الكافي ـ التي تهتمّ بمثل هذه الأحاديث والأخبار ـ وهي لا تنفع المتكلّمين بهذا الشأن .
إيضاح :
هنالك أمران ينبغي توفّرهما من أجل صحّة الاحتجاج والاستدلال بأيّة رواية ، وهما:
1 ـ الوثوق بصدور الرواية عن الإمام (عليه السلام) .
2 ـ دلالة نصّ الحديث على المُراد بصورة واضحة ولو من بعض القرائن .
وممّا يؤسف له أنّ الروايات الواردة بهذا الشأن في باب «أنّ الأئـمّة عليهم السلام إذا شاؤوا أن يعلموا علموا» ليست أكثر من ثلاث ، وهي تفتقر إلى السند وإلى الدلالة التي قال بها بعض المتكلّمين ، بل يمكن القول بأنّها روايتان ; لأنّ رجال السند بعد ابن مسكان متحد في روايتين ، وينتهي السند إلى أبي ربيع الشامي الذي روى عن الصادق (عليه السلام) .
عبارة الرواية الأُولى: «إنّ الإمام إذا شاء أن يعلم علم»(1) بينما عبارة الرواية
(الصفحة 200)
الثانية التي متحدّ في السند مع الأُولى «إنّ الإمام إذا شاء أن يعلم أُعلم»(1) وعبارة الرواية الثالثة «إذا أراد الإمام أن يعلم شيئاً أعلمه الله ذلك»(2) .
وبالتمعّن في نصّ الرواية الثالثة والثانية ترى أنّ كلمة «علم» في الرواية الأُولى بضمّ العين وتشديد اللاّم فهي صيغة مجهولة من باب التفعيل لا بمعنى «يعلم» ، ولذلك فمفادها واحد ، وهو أنّ الإمام (عليه السلام) متى شاء أن يعلم يعلّمه الله ويفيض عليه «أعلمه الله ذلك» .
وعليه : فإن كان مستند هذا البعض من المتكلّمين بالعلم الشائي هذه الرواية ، كان لابدّ من القول بأنّ الروايات الثلاث لا تنطبق على العنوان المذكور في كلام المُتكلّمين ، وإن كانت هناك روايات اُخرى فإنّنا لم نعثر عليها . وبغض النظر عمّا مضى فإنّ سند الرواية ضعيف ، ويمكن القول بأنّ الروايات الثلاث دالّة على أنّ علم الإمام إفاضته ، ومتى غاب عنهم شيء تلطّف الله عليهم وكشفه لهم .
وهنا نأتي إلى اختتام البحث والتحقيق بشأن الإمامة وشرائطها ولا سيّما علم الإمام . وهنا لابدّ من القول بأنّ بحث الإمامة ليس من الأبحاث السهلة ، فمعرفة الإمام تتطلّب رؤية ثاقبة واُفق واسع ، وأنّى للقلوب الملوّثة أن تدرك شأن الإمام ، فقد قال الإمام الرضا (عليه السلام) : «إنّ الإمامة أجلّ قدراً وأعظم شأناً وأعلى مكاناً وأمنع جانباً وأبعد غوراً من أن يبلغها الناس بعقولهم»(3) .
- (1) الكافي 1: 258 ح2 .
- (2) الكافي 1: 258 ح3 .
- (3) الكافي 1: 199 باب نادر جامع في فضل الإمام وصفاته ح1 .